أسرار الوفاة صاحبت أبوعمار إلى قبره

TT

رحل ياسر عرفات صبيحة 11 نوفمبر(تشرين الثاني) بعد أن أمضى أربعة عشر يوما في مستشفى عسكري مشهود له بالكفاءة والتميز وحمل معه إلى القبر سرين كبيرين اولهما هوية المرض الذي صعق عرفات وقضى عليه في أقل من شهر من الزمان. أما السر الثاني، فهو كيفية موت عرفات وبعضهم يعطف على ذلك زمن موته.

السر الأول مرشح لأن يبقى سرا لمرحلة طويلة، وأن يكون سببا للمشادة بين العلماء والمؤرخين. وما يزيد الوضع تعقيدا والتساؤلات إحراجا، أن عرفات أخضع منذ لحظة وصوله إلى مستشفى بيرسي العسكري إلى الأنواع المعروفة من الفحوص المخبرية والتشخيصات، وجند فريق من الأطباء العسكريين الفرنسيين المشهودة لهم الكفاءة العلمية والمهنية، كما أرسلت عينات من دم عرفات الى مختبرات في ألمانيا وسويسرا، وربما إلى الولايات المتحدة الأميركية في محاولة لمعرفة سبب تدهور صحة عرفات ثم دخوله إلى غيبوبة عميقة ثم وفاته. ومع ذلك، لم يتوصل الأطباء إلى الخبر اليقين. وأصاب نبيل شعث في المؤتمر الصحافي الذي عقده مساء الثلاثاء الماضي عندما أعلن أن الأطباء «يعرفون ما لا يعاني منه عرفات، لكنهم لا يعرفون ما يعاني منه». وأردف شعث أن مرض سرطان الدم قد استبعد كما استبعدت فرضية التسمم البطئ التي وجدت من يدافع عنها في الصحافة العربية وبين رجال السياسة الفلسطينيين والعرب.

لكن مع استمرار جهل الحقيقة، فالفرضيات ستعود مجددا إلى الواجهة، وسينبري من يدعي العلم والمعرفة لإثبات هذه الفرضية أو تلك، ولن تكون بالطبع حالة عرفات الأولى في التاريخ، فحتى الآن، ما زال المؤرخون مختلفين حول أسباب وفاة الإمبراطور نابليون بونابرت في منفاه في جزيرة سانت هيلين عام 1821وأخيرا صدرت دراسة علمية لباحثين بريطانيين تؤكد فرضية التسميم البطئ. في حالة عرفات، سيبقى الموضوع مفتوحا، طالما لم تتوافر معلومات دقيقة ومؤكدة وعلمية حول أسباب الوفاة. وبما أن مثل هذه المعلومات غير متوافرة، فإن المجال مفتوح لكل الفرضيات.

أما السر الثاني فيتناول كيفية موت عرفات وتاريخ وفاته، وما يعزز الحديث عن «سر» أن عرفات عاش الأيام الأخيرة من حياته في المستشفى الفرنسي، بفضل الأجهزة الطبية المساعدة على التنفس، وبفضل تغيير دمه والأجهزة المنشطة للدم، ما يعني أن أيامه الأخيرة كانت إلى حد ما «اصطناعية»، خصوصا أنه دخل قبل اسبوع في حالة من الغيبوبة العميقة التي تبين سريعا، من الزاوية الطبية المحضة، أن لا رجوع منها والتي زادت من التكهنات والشكوك حول تاريخ وفاة أبوعمار، وأنه في الوقت الذي كان يصرح فيه مسؤولون فلسطينيون أن عرفات ما زال حيا، كانت أصوات أخرى تعطي سلفا موعد الإعلان عن الوفاة، ما يعني أن الرئيس الفلسطيني قد توفي وأن المحيطين به يؤخرون الإعلان عن الوفاة بانتظار اتخاذ الترتيبات الضرورية أو لأسباب سياسية محضة. غير أن الفرضية الأخيرة تفترض وجود نوع من التواطؤ بين أجهزة المستشفى العسكري وبين المقربين من عرفات سواء عائلته المباشرة أو المسؤولين السياسيين، ذلك أن القانون الفرنسي الذي يحصر بالعائلة القريبة حق إذاعة أية معلومات عن المريض عندما يكون هذا الأخير عاجزا عن تسيير شؤونه الخاصة ويفرض عقوبات بالسجن وغرامة مالية على الأطباء الذين يذيعون أسرارا اطلعوا عليها بحكم مهنتهم، كذلك فإنه يتم الترتيب بدقة حول كيفية الإعلان عن وفاة أي شخص على الأراضي الفرنسية، أكان شخصا عاديا أم رئيس دولة. ويلزم القانون الأقرباء بالإعلان عن الوفاة حال حدوثها. وإذا ما طبقت هذه القاعدة على حالة الرئيس عرفات، فإن عائلته والمقربين منه كانوا ملزمين بالإعلان رسميا عن الوفاة فور حصولها. وما يزيد من صعوبة إخفاء خبر موت عرفات أنه حصل في مستشفى حكومي عسكري يفترض به قبل غيره أن يطبق النصوص المعمول بها في دولة القانون. ولذا من الصعب جدا تصور إمكانية تأخير إذاعة موت عرفات من غير تواطؤ على نطاق واسع من الأطباء المعالجين ومن إدارة المستشفى ومن وزارة الدفاع المشرفة عليها.