«الخرائط الواقعية» تدخل طرفاً في تحديد ميزان القوى الانتخابي في الولايات المتحدة

TT

اعتماداً على الصور التلفزيونية التي أعقبت الانتخابات الرئاسية الأميركية، وبفضل ايحاءات ادارة الرئيس جورج بوش وتحركاتها، بدت الولايات المتحدة وكأنها رقعة جبارة جمهورية «حمراء» اللون (الأحمر هو لون الحزب الجمهوري) من أقصى جنوبها الشرقي في ولاية فلوريدا الى أقصى شمالها الغربي في ولاية الاسكا. في حين بدت الولايات «الزرقاء» التي اقترعت للمرشح الرئاسي الديمقراطي جون كيري معزولة في الهوامش على امتداد الساحل الغربي عبر غرب الوسط الشمالي ومنه الى كتلة ولايات ساحل الأطلسي الشمالي وصولا الى واشنطن. وقد خدم تقسيم البلاد الى جمهوري «أحمر» وديمقراطي «ازرق» حاجة التلفزيون لنقل النتائج مباشرة حال تسجيلها. وبحلول اليوم التالي كانت اخبار التلفزيون قد انتقلت الى مجالات أخرى ولكن خريطة اللونين ظلت «صورة مشوهة» لحجم قرار الناخبين. على الأقل هكذا نظر الى الخريطة المتخصصون في علم الخرائط الجغرافية في جامعة ميشيغان. فهؤلاء حرصوا على ابراز ان المساحة «الحمراء» الهائلة التي انتزع الفوز فيها الجمهوريون قليلة الاكتظاظ بالسكان. فولاية وايومينغ، كما تصورها الخريطة تزيد مساحتها 60 مرة على مساحة رود آيلاند لكن تعدادها السكاني أقل من نصف تعداد رود آيلاند. الباحثون الثلاثة، في الجامعة، مايكل غاستنر وكوزما شاليزي ومارك نيومان، قرروا على الأثر اعداد خريطة «حمراء ـ زرقاء» جديدة تبين نتائج الانتخابات وفق المقاطعات لا الولايات. وحقاً كما كان متوقعاً، أدى ذلك الى تخفيف كثافة ما أظهرته الخرائط التلفزيونية، الا انه ترك مع ذلك أجزاء كبيرة حمراء ممتدة في مناطق الأرياف مقابل تركز اللون الأزرق في مقاطعات العديد منها مساحته صغيرة يشكل مراكز مدينية ذات كثافة سكانية عالية.

ولذا ارتأى الثلاثة تصحيح نقص التوازن فقرروا ان يأخذوا في الحساب، والفرز اللوني أيضاً، الكثافة السكانية النسبية مقاطعة بعد أخرى. وأعادوا بعدئذ رسم خرائطهم على أجهزة كومبيوتراتهم مكيفين الأوضاع مع هذه التغيرات اعتماداً على الثقل السكاني. وأخيرا عدلوا كثافة اللون، فقد بقي اللون الأحمر أو الأزرق فقط للمقاطعات حيث حصل المرشح المعين على 70 في المائة أو أكثر من اصوات الناخبين. وفي بقية أنحاء البلاد أشارت تدرجات اللون البنفسجي الى الحصة النسبية من الفوارق الضئيلة في الأصوات. كما ظهرت في الصور الكومبيوترية مساحات واسعة مجردة من الأحمر والأزرق لمقاطعات يهيمن عليها هذا الحزب أو ذاك، مع ظلال بنفسجية تعكس الكثافة النسبية للناخبين الذين منحوا أصواتهم لهذا الحزب أو ذاك. كانت النتيجة خليطاً أكبر وأكثر تعقيداً بكثير من الانقسام اللوني الذي عرضه التلفزيون ليلة الانتخابات. لقد اعتمد الباحثون على الوقائع نفسها كما كان الحال بالنسبة للشبكات التلفزيونية، بيد انهم توصلوا الى حقائق مختلفة عن تلك التي توصل اليها محترفو التعليقات الانتخابية.

من الحقائق التي لا جدال فيها ان قائمة بوش ـ تشيني حصلت على نحو نحو ثلاثة ملايين صوت زيادة على ما حصلت عليه قائمة كيري ـ ادواردز، من أصل 115 مليون صوت. ومنها أيضاً ان الجمهوريين فازوا بأغلبية في أصوات المجمع الانتخابي.

لكن ثمة حقيقة ثالثة لم تعكسها خريطة ليلة الانتخابات هي ان البلاد أكثر تعقيدا من ذلك الفوز اللوني المبسط.

هل منحت اذاً القيم الأخلاقية للمسيحيين الانجيليين الرئيس بوش تفويضا لتوسيع سياساته الثورية في البلد وفي الخارج؟ لقد أثمرت اعادة الرسم شكلاً من الدوامات والخطوط المتداخلة الحمراء والزرقاء كخلطة بلي الاطفال. وبدت رود آيلاند أكبر مرتين من وايومينغ وفق تعداد سكاني يبلغ 1.1 مليون نسمة مقابل سكان وايومينغ الذين يبلغ تعدادهم 493 ألفا، ولكن وايومينغ لن تكترث ولن تهتم طالما ان الصورة المجردة تجعل من المستحيل ايجاد رود آيلاند على الخريطة. خلاصة القول عند معدي الخريطة البديلة ان خريطتهم تكشف عما هو معروف من واقع الحال أي أن البلاد منقسمة على نحو شبه متساو، وليست ابداً تحت «هيمنة كبيرة لطرف او لآخر». وقالوا عن الخريطة التلفزيونية ان «كمية الأحمر على الخريطة مبالغ فيها أيضاً لأن هناك الكثير من المقاطعات التي لم تصوت فيها الا اغلبية ضئيلة لصالح الجمهوريين».

الجدير بالذكر ان خرائط أخرى ظهرت على شبكة الانترنت صورت أميركا الشمالية وفق خطوط صارمة: «جيززلاند» (أرض يسوع المسيح) حيث الولايات «الحمراء» تحولت الى لطخة واحدة خضراء، تقابلها الولايات المتحدة الكندية المتكونة نتيجة دمج الولايات الديمقراطية «الزرقاء» مع كندا لونها أرجواني.

في هذه الأثناء قد يعيد الأميركيون الليبراليون، الذين فكروا بمغادرة البلاد بعد الانتخابات، التفكير بدافعهم ملياً بما يكفي لرؤية أي معادلة يمكن أن تظهرها الخرائط الحمراء ـ الزرقاء في بلدان أخرى. وهل التوتر بين الأرياف والمدن اقل حدة في الصين أو الهند أو فرنسا؟

بل كما اشار أحد معلقي الانترنت، ألا يتوجب على مقاطعة ألبرتا الكندية، المحسوبة على المحافظين، أن تكون ضمن القسم الأخضر من خارطة «جيززلاند» ؟

لا يمكن الا لعلم رسم الخرائط أن يحل هذا الاشكال.

* خدمة «غارديان» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»