اكتشاف متأخر لمدينة تقاوم اليأس بضجيج الحياة

شرطة المرور في بغداد ينظمون السير بزخات رصاص من رشاش كلاشنيكوف

TT

لا صوت يعلو على صوت الأسلحة في بغداد. ولا شيء يؤثث مساحاتها المكشوفة سوى تلال الزبالة التي زحفت مع المياه الآسنة حتى عتبات البيوت. وبين هذا وذاك هناك الأبنية الحكومية المدمرة والتي تشبه شواهد لقبور تذكر بعصر ازدهارها وأهميتها، واليوم أضحت كتلا من خرسانة متناثرة وحديد صدئ. وبالرغم من ذلك تتدفق الحياة بصورة عنيدة، اذ لا خيار للعراقيين اليوم سوى مقاومة اليأس بالأمل وضجيج الحياة، ومنه ضجيج محركات السيارات التي تسير بلا سيطرة مرورية، وضجيج الباعة الجوالين في كل مكان، والأهم من هذا كله ضجيج الأسئلة التي تبدو أنها ستبقى بلا إجابة حتى موعد غير محدد. والمعني هنا ليس أصوات الانفجارات التي لا نرى غير دخانها الذي يضيع مع زحمة الحياة، بل أصوات الرصاص المنطلق من رشاشات الكلاشنيكوف من غير مناسبة تستحق إطلاق هذا الرصاص وإنما هي مناسبات تافهة. المرة الأولى التي سمعنا بها صوت انطلاق الرصاص كانت قرب محطة تعبئة للوقود. والمناسبة كانت محاولة من شرطي لتنظيم خط انتظار السيارات أمام المحطة، وهذا الخط قد يمتد إلى أكثر من عشرين كيلومترا ان لم يكن أطول من ذلك أمام بعض محطات وسط العاصمة بغداد.

وفي الوقت الذي قال فيه سائق سيارة الأجرة «هذا الشرطي يحاول شد انتباه السائقين لينتظموا في طابور الانتظار»، سألته «وكم سيطول انتظار هؤلاء؟»، أجاب على الفور«ربما لأكثر من 24 ساعة». وحسب نظرية المؤامرة التي تؤمن بها الغالبية العظمى من المواطنين العرب فان السائق يبرر أزمة الوقود على أنها مدبرة من قبل «الاميركيين والحكومة لإشغال الشعب عن المشاكل التي يعاني منها البلد»، بينما يبرر سائق آخر أسباب الأزمة بكثرة إعداد السيارات التي دخلت البلد «فهناك أكثر من نصف مليون سيارة في بغداد وحدها وهناك انقطاع التيار الكهربائي عن المحطات التي تفتقر لمولدات الطاقة الكهربائية الجيدة ثم مشكلة تعاون مديري محطات تعبئة الوقود مع السوق السوداء حيث يباع لتر البنزين باكثر من 20 ضعف سعره الأصلي». أصوات إطلاق الرصاص نسمعها أيضا عند تقاطعات الطرق، حيث يوجد شرطة تنظيم المرور، فأمام زحام السيارات وعدم انصياع السائقين لإشارات المرور ان وجدت أو صافرة شرطة المرور يضطر الشرطي الى إطلاق (صلية) زخة من الرصاص من رشاشه الكلاشنيكوف لإجبار السائقين على الوقوف وزخة أخرى لتنبيههم بان السير مفتوح. اذا مرت سيارة نجدة وهي تطلق صفيرها محاولة اختراق الزحام ولم يفسح لها الطريق يقوم الشرطي الذي يجلس إلى جانب السائق بإطلاق زخة من الرصاص في الهواء لتنبيه شرطي المرور بضرورة إفساح الطريق أمامه فيجيبه الآخر بزخة مماثلة من الطلقات إشارة الى انه تسلم الرسالة وسيقوم بالواجب.

منظر أي مواطن وهو يحمل على كتفه رشاش كلاشنيكوف أو يضع مسدسه في حزامه يعتبر اعتياديا ومألوفا في بغداد اليوم، وكأن أصوات الانفجارات التي تفاجئ المواطنين هنا وهناك لا تكفي لإشعار الناس بان البلد في حالة حرب دائمة وفي حالة تأهب مستمر. إلا أن ما يشيع الأمل في نفوس العراقيين بان الأمن متوفر هو مشهد انتشار نقاط التفتيش وحواجز الشرطة والحرس الوطني العراقي، وهؤلاء فدائيون اذ يقفون كأهداف مكشوفة وسهلة أمام المسلحين الذين قد يمرون بسيارة سريعة ترشقهم بالرصاص أو بقنابل يدوية وتلوذ بالفرار.

«الله تعالى هو الحامي للناس» هذه العبارة نسمعها من غالبية العراقيين الذين يفضلون عدم حمل الأسلحة أو التعامل معها «فكيف تحمي نفسك من سيارة مفخخة تنفجر خلال مرورك بالقرب منها؟ وكيف تدافع عن نفسك إذا ما هاجمتك مجموعة من المسلحين وأنت في بيتك أو في سيارتك بقصد اختطافك؟ ليس هناك سوى ان تتكل على الله وتصلي حتى يحميك ويحمي عائلتك من كل شر وان تعود سالما إلى عائلتك لتبدأ في الغد دورة جديدة مزدهرة في انتظار المفاجآت». أينما تسأل عن الخراب في بغداد سيشير الجواب إلى القوات الاميركية. يقول سلمان شايع، وهو بائع سجائر قي احد أكشاك حي السيدية الذي يقع غرب بغداد «الدبابات الاميركية تدهس كل شيء; الأشجار وأعمدة الكهرباء والهواتف وأسيجة الطرق السريعة وحتى البيوت في بعض الأحيان». لكن العراقيين لا يشيرون بالطبع الى الخراب والسرقات (الحواسم) التي اقترفوها بحق بلدهم. أتأمل عقارب ساعة بغداد التي اعوجت وتوقفت وكأنها نصب تذكاري لتاريخ من الفوضى. هذه الساعة تعلو بناية متحف هدايا صدام حسين، كانت هنا هدايا تذكارية قدمت للرئيس المخلوع في مناسبة وبلا مناسبة: سيوف وخناجر ومسدسات ذهبية مطعمة بالماس والأحجار الكريمة، لوحات وسجاد وأعمال فنية نفيسة، رسائل وهدايا قدمت من ملوك ورؤساء عرب وأجانب، كلها اختفت ذات نهار، بالضبط يوم الثامن من أبريل (نيسان) 2003، كما تؤكد سيدة كانت تسكن قبالة هذه البناية التي يقال إنها ستتحول إلى مقر لمحاكمة صدام حسين وأركان نظامه. أضافت هذه السيدة التي تخشى نشر اسمها، قائلة «لا ندري من أين أتت جموع الناس وكيف زحفت عند الساعة الرابعة من فجر ذلك اليوم فاختلطت مع قوات المارينز». وقالت أيضا «الكل صار يسرق، المارينز وجموع الناس، لم يمنع الشعور بالفضيحة طبيبا معروفا وابنته الغنية من سرقة الكثير من هدايا صدام، وقيل إن إحدى هذه الهدايا الثمينة بيعت بأكثر من ستة ملايين دولار».

على أن أية قضية تتعلق بالتخريب أو سرقة أموال الدولة تقرن بالقوات الاميركية كي يخفف العراقيون من الشعور بالذنب أولا وتعليق فضائح هذه السرقات على مشجب الاميركيين. المدرعات والعربات العسكرية الاميركية لا تغيب عن المشهد البغدادي اليومي، يمرون من كل مكان ويوجدون في كل الأمكنة، حتى بين الأزقة السكنية التي غالبا ما حولتهم إلى أهداف مكشوفة أمام المسلحين.

أسواق بغداد عامرة بكل أنواع المواد الاستهلاكية ومنها الكهربائية طبعا، كما ان شوارعها تزدحم بالسيارات الحديثة التي لا تحمل غالبيتها لوحات أرقام. هناك المقاهي ومحلات بيع الأطعمة السريعة والمطاعم التي تجدها مزدحمة بالزبائن الهاربين من جداول انقطاع التيار الكهربائي والذي اعتاده العراقيون منذ أيام أو سنوات النظام السابق وكانوا يأملون في ان أميركا أم التكنولوجيا في العالم سوف تنقذهم من هذه المعاناة بين ليلة وضحاها. وعلى وتيرة نظرية المؤامرة، أيضا، فان العراقيين يعتقدون، او يؤمنون بان القوات الاميركية تتعمد قطع التيار الكهربائي لإلهاء الشعب وصرف اهتمامه عن التفكير في الأولويات والمستحقات التي تقع على عاتق الحكومة المؤقتة.