مسؤولون: الاستخبارات الأميركية طلبت من الهولندية عدم اعتقال «مهندس القنبلة النووية الباكستانية» لتتمكن من تعقب حركته

TT

عندما اكتشف خبراء من الولايات المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية مخططا لصناعة قنبلة نووية وزنها 10 كيلوطن ضمن ملفات البرنامج النووي الليبي شعروا بخطورة الأمر والازدراء للشخص الذي يقف وراءه. وأعطى ذلك الاكتشاف الخبراء فرصة لتقييم مدى جرأة الشبكة النووية التي يقودها عبد القدير خان مهندس القنبلة النووية الباكستانية.

وكان مسؤولون استخباراتيون أميركيون ودوليون قد راقبوا خان لعدة سنوات وكانوا يشكون بأنه وراء تهريب المعدات الخاصة بتخصيب اليورانيوم لجعله وقودا للرؤوس الحربية، لكن التفاصيل التي تم الحصول عليها من المخطط تمثل مستوى جديدا من الخطر خصوصا أن الليبيين قالوا إنهم دفعوا له مبلغا عندما باع لهم معدات نووية تبلغ قيمتها 100 ألف دولار. وقال خبير أميركي «هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها نسخة لتصميم حقيقي لقنبلة نووية، والسؤال هو: من يملك أيضا هذا التصميم؟ الإيرانيون؟ السوريون؟ القاعدة؟».

لكن الخبراء الأميركيين بدأوا يتجادلون مع خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول من يحق له التحكم في التصميم. وكان التعارض الحاد بين الطرفين ملموسا أكثر من غيره فيما يخص الوزارة الليبية للبحث العلمي، حسبما قال أحد المشاركين، حينما اتهم الأميركيون مفتشي الوكالة الدولية بأنهم فحصوا التصميم قبل وصولهم. وبعد ساعات من المفاوضات توصلوا إلى اتفاق يسمح بالحفاظ على المخطط في قبو داخل وزارة الطاقة الأميركية بواشنطن لكنه يبقى تحت سلطة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

لكن ما حدث كان مؤشرا لبروز مفاجآت جديدة. فبعد عام على اعتقال خان بدأت الأسرار الخاصة بتعاملاته مع السوق السوداء النووية تبرز إلى السطح كاشفة معها مشروعا دوليا واسعا، خصوصاً بعد رصد الاميركيين زيارات خان لاكثر من 30 بلداً.

الا ان التحقيق واجهته عراقيل بسبب عدم التوصل لاتفاق بين إدارة الرئيس جورج بوش والوكالة الدولية للطاقة الذرية وبسبب تخوف واشنطن من أن الضغط الكبير لاستجواب خان قد يسبّب زعزعة النظام الباكستاني الحليف للولايات المتحدة، وذلك بسبب ان خان يعد داخل باكستان بطلا قوميا، الامر الذي أدى إلى التقليل من حجم الكشف عن الأسرار وساعد في إخفاء بعض الأبعاد الأخرى لنشاطات الدكتور خان ومساعديه.

لكن من جانب آخر ليس هناك نقص في المؤشرات. فمسؤولو الاستخبارات الأميركيون والوكالة الدولية يعملون حاليا بشكل منفصل لكشف أسرار رحلات خان خلال السنوات التي سبقت اعتقاله. وقال المحققون إنه زار 18 بلدا ضمنها سورية ومصر وهم يعتقدون أن تلك الرحلات كانت إما لشراء مواد مثل اليورانيوم أو بيع سلع ذرية.

وفي دبي اكتشف المحققون شبكة من الشركات الوهمية تعمل كواجهة لشبكة خان كما وجدوا آثاراً لمواد مشعة إضافة إلى تسجيلات هاتفية. ومع نجاح هؤلاء المحققين في تعقب نشاطاته التي وصلت إلى ماليزيا وأوروبا ومنطقة الشرق الأوسط تمكن هؤلاء في الآونة الاخيرة من اكتشاف بلد آخر وصلت إليه أصابع شبكة خان النووية، وهي جنوب أفريقيا حيث جرى هناك مصادرة 11 حاوية تضم أجهزة متخصصة في تخصيب اليورانيوم.

وكان حجم العملية مفاجئا لبعض مسؤولي الاستخبارات الأميركيين لأن الدكتور خان ظل تحت رقابتهم لمدة تزيد على 3 عقود أي منذ بدء تجميعه لمكونات القنبلة النووية الباكستانية، لكنهم لم يتمكنوا من اكتشاف بعض الصفقات التجارية مع بلدان مثل إيران وكوريا الشمالية.

وكانت وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي. آي. ايه) قد تدخلت مرتين في أواخر السبعينات وفترة الثمانينات من القرن السابق لدى وكالات الاستخبارات الهولندية كي لا تبادر هذه الاخيرة إلى اعتقاله، لأن (سي. آي. ايه) كانت تريد تعقب حركته، حسبما افاد دبلوماسي أوروبي كبير ومسؤول سابق في الكونغرس يملك صلاحية الوصول إلى المعلومات الاستخباراتية. ورفضت (سي. آي. ايه) التعليق على الموضوع.

وكان الرئيس بوش قد عبّر أكثر من مرة عن افتخاره بتفكيك شبكة خان، الا ان هناك أكثر من دليل يشير إلى أن جزءاً منها ما يزال نشطاً، وفق ما كشفت التحقيقات في واشنطن وفيينا، مقر الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

ووصل التعاون بين الولايات المتحدة والوكالة الدولية إلى حد الشلل تقريبا خصوصا بعد أن حاولت واشنطن تبديل رئيس الوكالة محمد البرادعي الذي لم يؤيد تقييمات البيت الأبيض الاستخباراتية المتعلقة بالعراق قبل وقوع الحرب ضد نظام صدام حسين.

ويرى خبراء بأن عدم التعاون بين الولايات المتحدة والوكالة الدولية ضيع فرصة مهمة لأن الطرفين متكاملان من حيث القوة، حيث تملك الولايات المتحدة القدرات الكبيرة في ميدان التجسس عبر الأقمار الصناعية واعتراض الاتصالات وتعطيل الأجهزة النووية، بينما تملك الوكالة الدولية للطاقة الخبراء الذين يمتلكون سلطة الوصول إلى أكثر المرافق النووية سرية في العالم.

وخلال 11 شهرا منذ اعتراف خان الناقص وباكستان تنفي أن يكون المحققون الأميركيون تمكنوا من استجواب خان. وقد ظل الاميركيون يطرحون الأسئلة، عبر الباكستانيين أنفسهم، لكن التقارير تقول إنه ليس هناك أي معلومات جديدة أو أسئلة مهمة مثل من هو الذي حصل على المخطط النووي إضافة إلى ليبيا. كذلك لم يتمكن المحققون الأميركيون من التحقيق مع المسؤول الاول في شبكة خان، وهو بهاري سيد أبو حسن طاهر، المعتقل في ماليزيا.

وساعد غياب المواجهة المباشرة على إبقاء الكثير من الأسئلة المتعلقة بشبكة خان النووية بدون اجابة. وهذا يشمل ما إذا كانت قيادة الجيش الباكستاني متواطئة في السوق السوداء النووية أو ما إذا كانت هناك بلدان أخرى، غير ليبيا وإيران وكوريا الشمالية، او جماعات مستقلة، تعاملت مع شبكة خان ابتداء من تصاميم أجهزة الطرد المركزي إلى مادة وقود اليورانيوم الخام إلى التصاميم الخاصة بالقنابل النووية.

وظل المحققون يقولون في جلساتهم الخاصة إن هناك الكثير من الأسرار التي لم تحل ألغازها بعد، وانهم لا يملكون أي ثقة بأن سوق السلع النووية قد تم إغلاقه حقا. وقال مسؤول من الوكالة الدولية للطاقة الذرية: «قد تكون هذه الشبكة شبيهة بتنظيم القاعدة. عندما تزيل القيادة تبرز عناصر أخرى لتحل محلها».

يشار الى ان الدكتور خان درس بباكستان وأوروبا. وبعد حصوله على عمل في هولندا في بداية السبعينات من القرن الماضي ضمن محطة خاصة بالطرد المركزي وهو جهاز يهدف إلى تخصيب اليورانيوم، بدأ مسؤولو الاستخبارات الهولندية بمراقبته وفي أواخر عام 1975 بدأوا يشعرون بالقلق منه بعد مراقبته في معرض خاص بالسلع النووية في سويسرا، عندما بدأ يسأل أسئلة مثيرة للشكوك، الامر الذي أدى إلى نقله إلى موقع آخر في الشركة وإبقائه بعيدا عن مجال تخصيب اليورانيوم.

لكن الدكتور خان غادر البلد بشكل مفاجئ في ديسمبر (كانون الاول) من تلك السنة حيث استدعي من قبل حكومة بلده للعمل في مشروعها النووي. وبعد أعوام اكتشف المحققون أنه سرق مخططا خاصا بأجهزة الطرد المركزي. وفي باكستان عمل خان في مجال تطوير القنبلة الباكستانية لمواجهة السلاح النووي الهندي. وكانت الولايات المتحدة تريد ايقاف المشروع الباكستاني.

واتضح في الأخير أن محاولة إيقاف المشروع كانت واحدة من عدة فرص توفرت للولايات المتحدة لكنها فشلت في فهم ما كان يريد خان تحقيقه. وقال جوزيف ناي البروفسور في جامعة هارفارد والذي عمل في العديد من الإدارات الأميركية إن أجهزة استخبارات بلده ظنت أن باكستان ستسعى لإنتاج قنبلة بلوتونية كبديل عن وقود القنبلة. وأرسل ناي إلى فرنسا لمنع شحن التكنولوجيا التي كانت ستساعد في اعداد مفاعل تجري فيه معالجة وقود البلوتونيوم. وقال ناي متذكرا: «عدنا إلى واشنطن للاحتفال بانتصارنا لنكتشف لاحقا أن خان قد سرق التكنولوجيا اللازمة المساعدة على صنع قنبلة نووية عبر طريق آخر».

وللحصول على أجهزة ذرية أخرى مع مهارات متعلقة بهذا الحقل، عاد خان عبر هولندا عدة مرات لكن الولايات المتحدة أرادت أن تراقبه. وقال دبلوماسي أوروبي له معرفة واسعة بالاستخبارات النووية ان (سي. آي. آيه) اقنعت في مناسبتين السلطات الهولندية بعدم اعتقال خان. ويبدو أن المسؤولين الاستخباراتيين شعروا أن خان أكثر أهمية باعتباره موصلا إلى العالم السفلي الخاص بالأسلحة النووية.