الإرهاب في 2004: تحول «القاعدة» من تنظيم إلى ظاهرة وتركيز الضربات على «الأهداف الرخوة»

TT

لم يشهد عام 2004 اعتداءات بمستوى الهجوم على نيويورك وواشنطن، ولا اعتقال المسؤولين الأولين في تنظيم «القاعدة»، إلا أنه عرف أمرين قد يكونان جديدين: تحول شبكة اسامة بن لادن من تنظيم الى ما يشبه الحركة العالمية الصعبة المراقبة، وظهور نوع جديد من الاعتداءات المدمرة التي تستهدف أهدافا «رخوة» وتنفذها في الغالب خلايا غير مرصودة مسبقاً.

وقد وقعت الأعمال الإرهابية هذا العام في أنحاء عدة من العالم بدءاً بمدريد ومرورا ببيسلان وانتهاء بجاكارتا وجدة. وقال بروس هوفمان، الخبير بمعهد «راند» للأبحاث الأميركي خلال مؤتمر عقد أخيرا في واشنطن إن «الأعداء يقومون بحرب استنزاف». ففي 11 مارس (آذار) الماضي، نفذت مجموعة أصولية اعتداءات بالقنابل على قطارات في العاصمة الإسبانية وقت الذروة في الصباح، متسببة في مقتل 191 شخصاً. ولم تكن مفاجأة اكتشاف وقوف أصوليين، وليس انفصاليي الباسك، وراء تلك الاعتدءات بأقل من مفاجأة ثانية تمثلت في تأثير التفجيرات على نتائج الانتخابات التي جرت بعد 3 أيام والتي خسر فيها الحزب الحاكم الانتخابات بعد أن كانت استطلاعات الرأي تتوقع فوزه بارتياح. ثم جاءت المفاجأة الثالثة أن أقدم الاشتراكيون الذين فازوا بالحكم، وبسرعة، على سحب القوات الإسبانية من العراق.

تسارع تلك الأحداث وصبها جميعاً في خدمة أهداف «القاعدة» جعل الولايات المتحدة تبدو في مظهر المتفرج العاجز عن فعل أي شيء غير شيئين اثنين: أولاً، «التأسف» للموقف الاسباني، وثانياً، التأهب الأمني داخل الولايات المتحدة خشية تكرار نفس السيناريو مع الانتخابات الأميركية التي ستجري في 2 نوفمبر (تشرين الثاني).

ومما زاد في الاعتقاد باعتماد «القاعدة» توجهاً جديداً يتمثل في السعي للتأثير على الانتخابات في الدول الغربية، ظهور أسامة بن لادن على التلفزيون، قبيل أيام قليلة على الانتخابات الأميركية، ودعوته، بلغة سياسية غير معتادة، الأميركيين الى انتخاب من يغير السياسة الاميركية الحالية.

لكن «السحر انقلب على الساحر»، كما يقال، وكان شريط بن لادن أثمن هدية للرئيس جورج بوش، على اعتبار انه لعب، على ما يبدو، الدور الحاسم في إقناع «المترددين» في آخر لحظة بالالتفاف حول المرشح الذي كان متفوقاً على خصمه جون كيري في موضوع شبه وحيد هو الإرهاب.

وكان الأميركيون يخشون خصوصاً وقوع هجمات خلال الانتخابات من قبل عناصر غير مرصودة، آخذين العبرة من الحالة الإسبانية التي كشفت للمرة الأولى، وبصورة مدهشة، تغلغل «القاعدة» الى صفوف مغاربة أوروبا الذي كانوا دوماً يحظون بسمعة أحسن من نظرائهم الشمال إفريقيين الآخرين. وتعزز هذا الاعتقاد اكثر مع قيام هولندي من اصل مغربي، في الثاني من نوفمبر، باغتيال المخرج السينمائي الهولندي ثيو فان غوخ بسبب إعداد هذا الأخير فيلماً مسيئاً للإسلام على ما يبدو.

ولا يبدو أن هذا الجيل الجديد من «الإرهابيين» توجه الى أفغانستان أو حصل على تدريبات متقدمة، وهو ما يعزز مخاوف المتابعين من تحول «القاعدة» من تنظيم كان يضم على الأكثر نحو 300 متشدد الى حركة يستلهم عناصرها، في أي مكان، الفكرة وينفذون العمليات كما يشاءون. ويقول الخبير جوناثان شانزر من معهد «انستيتيوت فور نير إيست بوليسي» في دراسة بعنوان «جيوش القاعدة» إن «القاعدة تحولت الى ظاهرة أكثر منها منظمة، واستمرارها يكمن في واقع أنها تعتمد منذ وقت طويل على مجموعات محلية صغيرة تتمتع بشيء من الاستقلالية في التحرك لتنفيذ الهجمات الإرهابية الرئيسية».

وفي هذا الإطار يمكن أدراج العمليات الإرهابية التي عرفتها اندونيسيا وروسيا مجدداً هذه السنة. ففي التاسع من سبتمبر، استهدف اعتداء السفارة الاسترالية في جاكارتا، مما أدى الى سقوط احد عشر قتيلا وأكثر من 180 جريحا. وفي 24 اغسطس، شهدت روسيا عملية مشابهة لما عرفته الولايات المتحدة قبل 3 سنوات، إذ تم تفجير طائرتين روسيتين، في وقت متزامن، مما تسبب في مقتل كل الركاب الـ 90. وتقول الرواية الروسية إن العملية المزدوجة نفذتها انتحاريتان شيشانيتان. وفي بداية سبتمبر، احتجزت مجموعة شيشانية مئات الرهائن، في مدرسة في بيسلان في أوسيتيا الشمالية، الأمر الذي استدعى تدخل قوات الأمن الروسية بشكل، وانتهت العملية بمجزرة راح ضحيتها 344 شخصا، الكثير منهم أطفال.

وصارت هذه العمليات المفاجئة تؤرق الحكومات في كل الدول سواء كانت إسلامية أم غربية، مشاركة في حرب العراق أم معارضة لها. ويرى لاختصاصي في علم النفس مارك ساجمان، معد كتاب حول الناشطين في القاعدة، أن «الخطر الذي نواجهه هو سلسلة متلاحقة من مدريد (191 قتيلاً) والدار البيضاء (45 قتيلاً) واسطنبول (63 قتيلا)».

وفي المقابل، زاد الكثير من الدول تعزيز إجراءات مكافحة الإرهاب. ويمكن في هذا الإطار ملاحظة تراجع العمليات في الجزائر والسعودية، عدا المجزرة التي وقعت جنوب العاصمة الجزائرية ضد مدنيين وقت الإفطار في رمضان والمحاولة الفاشلة للهجوم على القنصلية الأميركية في جدة في 6 ديسمبر. كذلك، ألقي القبض على الكثير من الرؤوس الكبيرة المطلوبة. ففي 12 يوليو ألقي القبض على نعيم نور خان الملقب أبو طلحة، الرأس المدبر للبرمجة المعلوماتية في «القاعدة» والمتهم بالتخطيط لاعتداء على مطار هيثرو بلندن، خلال موجة اعتقالات في إقليم البنجاب شرق باكستان. وفي 25 يوليو، اعتقل التنزاني أحمد خلفان غيلاني، المسؤول الكبير في «القاعدة» والمطلوب أميركيا بتهمة التورط في تفجير السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا عام 1998. كما تسلمت الجزائر في 27 أكتوبر الماضي من ليبيا قيادي «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» عماري صايفي، المدعو «البارا»، بعد اشهر من وقوعه أسيرا بأيدي مجموعة تشادية متمردة. وقد أعرب مسؤول أميركي عن اهتمام بلاده باستجواب «البارا» بسبب علاقته المفترضة مع المسؤول الثاني في «القاعدة» أيمن الظواهري.

ويتوقع أن يظل موضوع مكافحة الإرهاب متصدراً أجندة العديد من الدول. وفي هذا الإطار، تعتزم السعودية عقد مؤتمر دولي يناقش إجراءات مكافحة الإرهاب، في فبراير 2005، ودعيت إليه العديد من الدول وخصوصاً تلك التي تضررت من الإرهاب. وفي نفس الشهر، تريد أستراليا وإندونيسيا تنظيم مؤتمر مماثل في مدينة ملبورن لكنه سيكون مركزاً على منطقة جنوب آسيا ويبحث خصوصاً الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل. كما تعتزم إسبانيا عقد مؤتمر مشابه في الذكرى السنوية الأولى لاعتداءات مدريد.