2004 فلسطينيا: انتصار دبلوماسي ومعنوي في محكمة العدل الدولية ورحيل قيادات تاريخية

وسط عجز دولي وغياب أي مبادرات سياسية واستمرار أعمال القتل والاغتيال والتدمير الإسرائيلية

TT

* باستثناء قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي بهولندا، في 9 يوليو (تموز)، الذي اعتبر جدار الفصل الذي تقيمه اسرائيل بمعظمه فوق أراضي الضفة الغربية المحتلة، غير شرعي وطالب بإزالته، اصطبغ عام 2004 فلسطينيا بصبغة تشاؤمية سوداوية، في ظل غياب المبادرات السياسية باستثناء ما يسمى بخطة الفصل الاحادي الجانب التي يعمل رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون، على إملائها على الجانب الفلسطيني، وتصاعد وتيرة اعمال القتل والاغتيال والقصف الجوي والمدفعي والتدمير الاسرائيلية وتفاقم المعاناة الفلسطينية، حيث بلغ عدد ضحايا هذه الاعتداءات رقما قياسيا، وارتقى بعض عمليات القتل الجماعي الإسرائيلية التي استخدمت فيها أفتك أنواع السلاح في ترسانتها العسكرية واكثر تطورا، وبعضها محرم دوليا الى جرائم حرب لا سيما في منطقة رفح جنوب قطاع غزة.

ليس هذا فحسب، بل تجاوزت عمليات الاغتيال الإسرائيلية كل الخطوط الحمراء، وذلك بنيلها من قمة هرم حركة «حماس» متمثلة باغتيال الشيخ أحمد ياسين، مؤسس الحركة، وخليفته الدكتور عبد العزيز الرنتيسي في غضون أقل من شهر واحد.

وزيادة في قتامة الصورة جاءت وفاة الرئيس ياسر عرفات المفاجئة في 11 نوفمبر (تشرين الثاني)، ورحيله عن هذه الدنيا حاملا معه سر مرضه وأسباب وفاته التي لم تعرف خباياها رغم التقرير الطبي حول أسباب المرض والوفاة الذي بلغ عدد صفحاته 558 صفحة وتسلمته السلطة الفلسطينية، بعد مناوشات مع زوجة الفقيد التي عاشت بعيدا عنه منذ انطلاقة انتفاضة الأقصى في سبتمبر (أيلول) 2000 .

* الاعتداءات الإسرائيلية

* منذ اليوم الأول وحتى آخر يوم من هذا العام، لم تتوقف آلة القتل والتدمير الإسرائيلية عن مزوالة هواية القائمين عليها بإلحاق أفدح الأضرار بالفلسطينيين جسديا وماديا ويجميع نواحي حياتهم، فقدت حصدت آلة الحرب الإسرائيلية أرواح حوالي 900 فلسطيني وجرحت أضعاف هذا الرقم، بينما دمرت بالكامل أكثر من 1500 منزل وحوالي 800 منزل جزئيا.

وإذ طالت الاعتداءات الإسرائيلية، معظم إن لم يكن جميع المدن والقرى الفلسطينية، يبقى قطاع غزة الاكثر تضررا، بسبب تواصل زخم المقاومة فيه لا سيما عمليات قصف المستوطنات داخل القطاع نفسه والبلدات الإسرائيلية داخل الخط الأخضر، كبلدة سديروت، وكذلك عمليات الأنفاق المفخخة، التي طالت عددا من جنود الاحتلال والتي كان آخرها قبل بضعة أسابيع، عملية ضد موقع إسرائيلي في رفح على الحدود مع مصر. وقد أطارت هذه العملية التي قتل فيها 5 جنود وجرح 13 آخرون، صواب القيادة العسكرية، فأمرت بعمليات اقتحام وتدمير وقتل واسعة في جنوب القطاع، أسفرت عن قتل العشرات وتدمير العشرات من المنازل.

وشهد القطاع وتحديدا مدينة رفح ومخيماتها، في مايو (أيار) الماضي، وفي غضون أسبوع واحد فقط، مجازر إسرائيلية حقيقية قتل فيها أكثر من 70 فلسطينيا، نصفهم من الأطفال، وجرح أكثر من 144 شخصا، وتدمير مئات المنازل، في غضون أسبوع واحد. مستخلصا الدروس من اقتحام حي الزيتون في مدينة غزة الذي أسفر عن قتل 6 جنود وجرح عدد آخر على أيدي المقاومين الفلسطينيين، اعتمد جيش الاحتلال في هجومه على رفح، على طائرات «اباتشي»، الأميركية الصنع الفتاكة. ووصل الحد بقوات الاحتلال إلى قصف مسيرة جماهيرية جلها من النساء والأطفال انطلقت من قلب المدينة إلى حي السلطان، احتجاجا على الجرائم التي ترتكبها، فقتلت 33 فلسطينيا بين امرأة وطفل في جريمة واحدة، لم يستطع حتى مجلس الأمن الدولي أن يقف صامتا أمامها، فأصدر قرارا يطالب فيه إسرائيل، القوة المحتلة، باحترام واجباتها بدقة ومسؤولياتها القانونية المنصوص عنها في اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، المتعلقة بحماية المدنيين في زمن الحرب، ويطلب منها مواجهة هذه الحاجات على الصعيد الأمني من دون أن تتخطى حدود القانون الدولي، ويعرب عن قلقه البالغ من التدهور المستمر للوضع الميداني في الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ 1967، ويدين قتل المدنيين الفلسطينيين الذي حصل في منطقة رفح، ويعرب أيضا عن قلقه البالغ لهدم المنازل الذي قامت به أخيرا إسرائيل، القوة المحتلة، في مخيم رفح للاجئين.

ولم يردع قرار مجلس الامن الدولي إسرائيل عن مواصلة مجازرها، فكررتها غير مرة لا سيما في قطاع غزة، وكان آخر هذه الاعتداءات لهذا العام على مدينة خان يونس ومخيمها جنوب القطاع، الذي قدم أكثر من 15 ضحية وعشرات الجرحى وعشرات المنازل المدموة في غضون أسبوع واحد فقط.

* جدار الفصل

* هو الجدار الذي يصفه الفلسطينيون بجدار الفصل العنصري وتزعم سلطات الاحتلال الإسرائيلي بأنها تشيده لمنع تسلل التفجيريين الفلسطينيين، إلى قلب المدن الإسرائيلية. وسيبلغ طول هذا الجدار، وهو بارتفاع 8 أمتار، عند الانتهاء من بنائه، أكثر من730 كيلومترا. ويمتد من جنين في شمال الضفة الغربية، وحتى الخليل في جنوبها مرورا بمنطقة القدس الشرقية المحتلة، التي سيكمل الجدار عند الانتهاء منه، عزلها عن ضواحيها العربية وبقية الضفة الغربية، وقتل الحلم الفلسطيني في أن تكون القدس العربية عاصمة الدولة الفلسطينية المستقبلية.

ويعتبر الفلسطينيون المبررات الأمنية التي تسوقها إسرائيل ليست إلا محاولة مفضوحة لصرف الأنظار عن هدفها الحقيقي، وهو التهام المزيد من الأرض الفلسطينية، وتقطيع أوصال الضفة الغربية، وعزل الفلسطينيين في كانتونات متناثرة لا رابط بينها. ويؤكد الفلسطينيون، والأمم المتحدة تدعمهم في موقفهم هذا، أن جدار الفصل يلتهم حوالي ربع مليون دونم من أخصب أراضي الضقة الغربية التي يسترزق منها أكثر من نصف مليون فلسطيني.

ولا يعارض الفلسطينون بناء الجدار من حيث المبدأ، بل يؤكدون أنه لو كانت الدواعي أمنية كما تزعم إسرائيل وليست رسما جديدا للحدود تبتلع فيه إسرائيل مزيدا من الأراضي الفلسطينية، لأقيم هذا الجدار على طول الخط الأخضر الفاصل بين الضفة وإسرائيل.

وهذا هي الحقيقة التي ارتكزت عليها الدبلوماسية الفلسطينية في إقناع أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة في أواخر عام 2003 بتبني قرار للجوء إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي لتعطي رأيها الاستشاري غير الملزم، في شرعية هذا القرار. وقررت المحكمة الدولية رغم الضغوط السياسية التي مارستها الولايات المتحدة وحلفاؤها للحيلولة دون ذلك، بأن لديها كامل الصلاحية للنظر في هذه القضية، وحددت 22 فبراير (شباط) 2004 موعدا للاستماع إلى القضية، ولمدة يومين. وعقدت الجلسة رغم تواصل الضغوط حتى آخر لحظة، وشاركت فيها ما لا يقل عن 17 دولة قدمت مرافعات كانت بمعظمها تدعم الموقف الفلسطيني.

وبعد مداولات بين قضاة المحكمة الـ15 استمرت حوالي خمسة شهور، توصل 14 قاضيا ومعارضة القاضي الأميركي، في 9 يوليو (تموز)، إلى قرار يدين بناء الجدار ويطالب إسرائيل بوقف عملية البناء وهدم ما بني به لما يلحقه من أضرار بالمدنيين الفلسطينيين. ويطالب القرار بتعويض المتضررين مما بني من الجدار. وشكل هذا القرار، رغم أنه استشاري وليس ملزما، سابقة وانتصارا ساحقا للدبلوماسية الفلسطينية وللإرادة الدولية.

وتبنت الجمعية العامة القرار بأغلبية ساحقة في نفس الشهر، غير أن القرار الجديد لم يغير من واقع الأمر شيئا، فقد رفضته إسرائيل، واستمرت في بناء الجدار متحدية للإرادة الدولية بدعم أميركي.

* جريمة اغتيال الشيخ ياسين والدكتور الرنتيسي

* في ظل الغطرسة الإسرائيلية والدعم الأميركي اللامتناهي، واغتيال اسماعيل أبو شنب، القيادي البرغماتي في حركة «حماس» في العام الماضي، وسط شلل عربي ودولي، أصبحت كل الخطوط الحمراء مستباحة، وجعلت إسرائيل في حل من كل التزامانها ووعودها، وهددت غير مرة بأن الشيخ احمد ياسين وعشرات القيادات الفلسطينية الميدانية، أهدافا شرعية لآلتها العسكرية.

لكن كل هذه التهديدات لم تجعل الشيخ ياسين، المقعد جسديا والذي قضى قرابة عشر سنوات في سجونها، إلى أن أطلق سراحه في صفقة أردنية ـ إسرائيلية، بعد محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» خالد مشعل عام 1997، يغير من برنامجه اليومي في غزة.

ووجدت قوات الاحتلال في عملية تفجيرية في ميناء اسدود، الظرف المناسب لتنفيذ نيتها المبيتة لتصفية الشيخ ياسين، وفي فجر 22 مارس (آذار)، اتخذ قرار التنفيذ وصادق عليه رئيس الأركان، موشيه يعلون، ثم وزير الدفاع، شاؤول موفاز، فرئيس الوزراء، ارييل شارون. وانتظرت 3 طائرات هليكوبتر إسرائيلية خروج الشيخ ياسين المسجد القريب من منزله بعد أدائه صلاة الفجر. وفي الساعة الخامسة والنصف، وبينما كان الشيخ يغادر المسجد على كرسيه المتحرك، أطلقت الطائرات ثلاثة صواريخ متتالية لتمزق جسده إربا إربا.

وبعد ساعة ونصف الساعة فقط من هذه االجريمة البشعة، أصدر الناطق بلسان الجيش بيانا رسميا يتباهى فيه بتنفيذ العملية، ويعلن رسميا تولي الجيش مسؤوليتها. وحرص مقرب من شارون أن يعلن أن شارون أشرف بنفسه على تنفيذ العملية بدون خوف من رد الفعل العربي والدولي، الذي لم يكن، كما في المرات السابقة، واهيا وغير رادع.

وشجعت هذه الردود غير الحازمة في زيادة الجشع الاسرائيلي، وفي ساعات المساء الأولى من يوم 17 أبريل (نيسان)، طالت يد الغدر الإسرائيلية، الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، خليفة الشيخ ياسين في قيادة «حماس»، الذي كان يعتبر دينمو الحركة ومفكرها وأحد قادتها التاريخيين، وتمت عملية الاغتيال كما في المرات السابقة، في هجوم جوي إسرائيلي على سيارة كان يستقلها في غزة.

* رحيل الرئيس عرفات

* جاء رحيل الرئيس ياسر عرفات في 11 نوفمبر، ليجعل عام 2004 عام غياب القيادات التاريخية للشعب الفلسطيني، وغاب الرئيس عرفات بعد صراع مع مرض مجهول وتدهور مستمر في صحته استغرق أقل من شهر واحد قبل أن يقضي عليه.

ففي 12 أكتوبر (تشرين الأول)، اشتكى الرئيس عرفات من نزلة برد حادة في المعدة تسببت في حالات تقيوء وغثيان وفقدان للشهية، واستمرت الحالة مع حلول شهر رمضان المبارك، مما زاد الأمر تعقيدا مع إصرار عرفات على الصيام وما يعنيه ذلك من عدم تناول الأدوية اللازمة، وازداد جسمه هزالا. واستدعى الأمر استدعاء فريق طبي تونسي في 16 نوفمبر الذي أخضعه لسلسلة من التحاليل الطبية، وتبعه فريق طبي مصري، ثم فريق أردني. واستبعدت التحاليل إصابة الرئيس بأي من الأمراض المعروفة، لكن التحاليل أظهرت أنه يعاني من تكسر خلايا الدم، ولم تنجح الأدوية التي أعطيت له في وقف التدهور السريع، في صحته. فدقت اجراس الخطر.

وارتأى الاطباء ضرورة نقل الرئيس للعلاج في مستشفى تخصصي خارج رام الله بسبب وضعه المحرج والتدهور المستمر وفقدانه للوعي والذاكرة في كثير من الأحيان.

ونتيجة الاتصالات التي أجراها رئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع (أبو علاء) مع نظيره الإسرائيلي ارييل شارون، وافقت الحكومة الإسرائيلية على خروج عرفات من رام الله، التي لم يغادرها لحوالي أربع سنوات محاصرا في مقر الرئاسة المدمر جزئيا، للعلاج في الخارج مع السماح له بالعودة. ورحبت فرنسا ورئيسها جاك شيراك باستقبال الرئيس الفلسطيني في مستشفى بيرسي العسكري، في إحدى ضواحي باريس الجنوبية الغربية، والذي يعد أفضل مستشفى للعلاج من أمراض الدم في العالم.

وفي 28 أكتوبر، وافق الرئيس عرفات على الخروج من مقر الرئاسة. وفي ساعات الصباح الأولى من يوم 29 أكتوبر، غادر الرئيس مقره في رحلة اللاعودة وسط حشد من محبيه وأنصاره ومساعديه وحراسه، الذين لم تمنعهم رداءة الجو من الخروج، للعلاج في باريس على متن طائرة عسكرية أردنية، أقلته إلى عمان حيث كانت في انتظاره طائرة فرنسية مجهزة بأحدث المعدات الطبية. وخرج عرفات من مقره بغير الهيئة التي كان يحرص دوما على الظهور بها، بالكوفية والبدلة العسكرية. استقل الطائرة مرتديا بدلة رياضية وقبعة صوف روسية، والهزال الشديد باد عليه، لكن هزاله الشديد لم يمنعه من إرسال القبل إلى مودعيه، الذين لم يخطر في بالهم في تلك اللحظة، انها قبلات الوداع الأخير.

وزاد وضعه الصحي انتكاسا لدى وصوله إلى باريس، وكثرت الأشاعات حول أسباب مرضه. وما بين النفي والتأكيد بشأن وضعه ووفاته اكلينيكيا، ضاعت الحقيقة وبات إعلان وفاته مسألة وقت، واستمر الوضع على هذه الحال حتى وصول وفد فلسطيني برئاسة محمود عباس (أبو مازن) وأبو علاء وروحي فتوح ونبيل شعث،، قبل إعلان الوفاة بيومين، بعد مناوشات بين القيادة الفلسطينية وزوجته سهى الطويل، التي كانت غائبة عنه طيلة سنوات الحصار، والضجة الإعلامية التي أثارتها بعد ندائها عبر إحدى القنوات الفضائية العربية، ووصفها لبعض القادة الفلسطينيين بمستورثي السلطة.

ونجحت القيادة الفلسطينية في احتواء الأزمة بأقل الخسائر. وفي الساعة الثالثة من فجر يوم الخميس المصادف التاسع والعشرين من شهر رمضان الموافق 11 نوفمبر، فارقت روح الرئيس عرفات جسده، وفقا للإعلان الطبي الرسمي الفرنسي، لينتهي بذلك العهد العرفاتي، الذي واكب التاريخ الفلسطيني الحديث ما يقارب 50 عاما. وحظي الرئيس عرفات، أو بالأحرى جثمانه، وداعا فرنسيا رسميا يليق به كزعيم شغل العالم لأكثر من 35 عاما، ويليق بالشعب الذي يقوده، وحظي أيضا بوداع رسمي في مصر، شارك فيه عدد من الزعماء العرب ليعود بعد 15 يوما إلى مقره جثمانا ليوارى التراب في قبر مؤقت في انتظار نقله إلى مثواه الأخير تلبية لرغبته، في القدس الشريف.

وكما كان في حياته سيبقى عرفات في مماته لغزا محيرا، فقد رحل بمرض عجز عن كشف كنهه أطباء فرنسا، وتقريرهم الطبي الذي جاء في 558 صفحة. يبقي السبب المرجح في وفاته حسب ما قاله ناصر القدوة، ابن شقيقته الذي تسلم التقرير، هو التسمم بمادة يصعب كشفها.

رحل عرفات وبقيت من بعده القضية ليتسلمها من بعده خليفته المنتظر أبو مازن. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل سيسهل غياب عرفات مهمة أبو مازن في التوصل إلى حل عادل للقضية، كما يقول البعض، أم أن تمسك أبو مازن بالثوابت الفلسطينية، التي ظل عرفات قابضا عليها كالقابض على الجمر، كما أكد أكثر من مرة، سيجعل منه عرفات ثانيا؟ ما علينا إلا أن ننتظر لنرى...