بأحلام متعبة وجروح غائرة على وجهها.. بغداد تعبر إلى عام الانتخابات

TT

منذ سنوات عديدة لم نعد نتذكر عددها، وبغداد لم «تتبغدد» ولم «تتدلل» بالرغم من قصائد غزل شعرائها وعشاقها من غير العراقيين ، وبالرغم من اغاني مطربها الساهر «بغداد» و«بغداد لا تتألمي.. بغداد انت في دمي» وأخيرا «احبيني بلا عقد» التي يتوسل فيها حب مدينته ، تلك الاغنية التي تنطلق اليوم من كل مقهى ودكان هناك ومن كل سيارة مارة .

كأن السنوات تمر بعيدا عن هذه المدينة التي تمضي اليوم بخطى ثقيلة تجرجر احلامها المتعبة نحو عام جديد وندوب جروحها وآثار حرائق ابنيتها فوق وجهها مثل ذاكرة صعبة بينما ما تزال بناية المتحف العراقي في «علاوي الحلة» تقف لتذكر بعار سرقة محتوياتها.

البغداديون اكثر تفاؤلا واملا من غيرهم من عراقيي الخارج ومن العرب الذين يعلنون حبهم لها. يصف الكاتب العراقي الدكتور صفاء صنكور نفسه وسواه ممن بقوا هناك طوال السنوات الصعبة بـ«سدنة الخراب النبيل»، يقول «بقينا نحصي جراح هذه المدينة منذ اول الحروب وحتى آخرها من غير ان نحظى برصد بناية جديدة جميلة تشرق في مساحة المدينة ، خرائب هنا واخرى هناك».

عندما يلف الليل بغداد يمضي صنكور الى مقهى الزهاوي في شارع الرشيد ، اول الشوارع التي شقت في بغداد وأجملها حتى فترة قريبة، ليدخن الارجيلة البغدادية بالتنباك الساخن، أهي عقوبة للذات؟ نسأله فيجيب «لا ادري، اذهب هاربا او مكتشفا لنفسي. شارع الرشيد بالمناسبة بدأ يتحول الى شارع لاصحاب ورش ميكانيك السيارات وسمكرتها بعد ان كان يزدحم بمقاهي المثقفين والمكتبات.

محمود الدجيلي ، محام سابق ومتقاعد حاليا من رواد مقهى التجار، يبدو منشغلا بأرجيلته وبصحيفة محلية من صحف هذه الايام ، يتوغل في التاريخ ، وبينما عيناه المتعبتان تسرحان نحو دجلة يقول «هذه بغداد لا تخافون عليها ، لقد واجهت ظروفا اقسى من هذه بكثير، احترقت وتهدمت مرة تلو الاخرى ثم قامت وصارت احلى مما كانت عليه ، مثل طائر العنقاء بغداد هذه ، تنبعث جميلة وقوية من رمادها». يتنفس دخانه ثم يحرجني بسؤاله «وانتم ليش باقين برة البلد لي هسة (حتى الآن)، صدام راح والبلد محتاجكم اليوم هل تنتظرون ان يبنوا بغداد لترجعون على الجاهز». وكيف يعود من هو في الخارج وهناك من يتربص به لاختطافه ظنا منه ان العائد هو مشروع مليونير! ففي بغداد اليوم لغة جديدة من الصعب فهمها من غير شروح، اينما ذهبت يهمسون بأذني «دير بالك لا تنعلس «وماذا يعني انعلس»؟ يشرح لي ابن خالتي نبيل هذا المصطلح فيقول «عندما يعرف احدهم ان عراقيا قد وصل توا من الخارج ويشم فيه رائحة المال يبلغ عنه احدى العصابات المختصة باختطاف الاشخاص. والشخص الذي يبلغ العصابة يسمى (علاس)، وهو يأخذ حصته من العصابة مقدما حال القبض على الفريسة ثم يدير وجهه بحثا عن فريسة اخرى «يعلسها». اما الشخص منكود الحظ ، المخطوف فيقولون انه انعلس»! المشهد الثقافي يتجسد في نشاطات وزارة الثقافة التي يحاول وزيرها مفيد الجزائري ومعاونوه اختصار الزمن نحو انجازات ثقافية متسارعة في ظل وضع امني صعب وجمهور منشغل برصد حركة عربات توزيع غاز الوقود والنفط الابيض (الكيروسين) او المبيت لأكثر من 48 ساعة في طوابير امام محطات البنزين. هناك مشاهد ثقافية اخرى اكثر اتساعا وشعبية ، وابرزها سوق السراي وشارع المتنبي، متنفس الكتب والباحثين عنها والذي يبلغ ذروة ازدحامه نهار الجمعة.

الحروب تغير عادات الشعوب، لكن اهالي بغداد يحاولون التمسك بعاداتهم كعلامة من علامات تحدي القوات الاميركية.

بغداد تزدحم بالمطاعم والمقاهي، وهذه تزدحم بالزبائن طوال اليوم. شارع (الكرادة داخل) بقي هو هو، الباعة الجوالون يشغلون كل ليلة مولدات الطاقة الكهربائية مفترشين بضاعتهم على الارصفة ليس بعيدا عن باعة (الشاورما) ومناقل شي السمك المسقوف التي انتقلت من شارع (ابو نؤاس) الى الكرادة.

بغداد تسهر كل ليلة حتى العاشرة حيث موعد منع التجول. البغداديون يصرون على السهر في المنصور والكاظمية والاعظمية والكرادة ( بشقيها الخارج والداخل)، والشوارع الرئيسية تحولت الى اسواق تجارية تجد فيها كل ما تحتاجه او حتى ما لا تحتاجه، والمفارقة ان بغداد صارت تباع فيها البضائع المستوردة بأرخص الاسعار على الاطلاق.

بغداد ايضا مزدحمة بالسيارات (اكثر من ستة ملايين سيارة حديثة في شوارعها). امام هذا العدد من السيارات هناك 68 طريقا رئيسيا اغلقته القوات الاميركية في قلب العاصمة وخاصة في جانب الكرخ مما يعني ان فوضى السير هي القانون السائد في شوارع هذه المدينة المصرة على ان تحيا بالرغم مما نسمعه من تفجير هنا وآخر هناك.

يقول الشاعر والكاتب فاروق سلوم، مدير عام سابق لدائرتي السينما والمسرح والفنون الموسيقية ، «نمضي ايامنا ما بين اللقاءات في بيوتنا او ممارسة رياضة المشي او قيادة الدراجات الهوائية ونتواصل مع العالم عبر الانترنت والفضائيات».

في منزل سلوم حيث يستقبل اصدقاءه: عازف بيانو شهير، طبيب عراقي ، نجله اوراس مهندس مدني، تاجر، كاتب ، شخصيات تعبر عن تنوعها المهني ، منهم السني والشيعي والمسيحي والكردي المتحدر من عائلة زنكنة من كركوك، يناقشون بهدوء ولكن باصرار وضع البلد ومحاولات الوقوف ضد أي مد طائفي او قومي.

يقول تاجر شيعي سيصوت للقائمة الشيعية «لن اهتم حتى اذا حكم العراق عراقي يهودي.. شرطي هو ان يكون عادلا»، مشددا على انه سيقبل ان يكون الرئيس القادم الزعيم الكردي مسعود بارزاني «طالما هو عراقي وعادل».

ما نسمعه خارج العراق عن تقسيمات طائفية وقومية حادة ومتطرفة لا تكاد تشعر بها في الداخل على الاطلاق، غالبيتهم يرددون «أي سنة وأي شيعة نريد ان يرجع لنا عراقنا ويحكمنا رجل عاقل وعادل ويخاف الله».

حتى سدنة مرقدي الامام الكاظم (شيعة) والامام الاعظم ابو حنيفة (سنة) يؤكدون ان الشيعة والسنة انما هم عراقيون قبل كل شيء. نهار الجمعة زرنا مرقدي الامامين اللذين يفصل بينهما جسر الأئمة،ثم اشعلنا الشموع في كنيسة مريم العذراء في ساحة الميدان بجانب الرصافة، وليس غريبا ان تجد هذه الكنيسة تزدحم بالمسلمات المحجبات من كلا الطائفتين وهن يوقدن الشموع او يفرشن سجاجيد صلاتهن في اروقتها باعتبارها بيتا من بيوت الله. انتبه الى المشهد جيدا واردد مع نفسي: أي عراق هذا يريدون تقسيمه طائفيا او دينيا او قوميا والكثير من عرب العراق استضافتهم عوائل كردية في اربيل والسليمانية خلال ايام القصف الاميركي؟

ما يستفز البغداديون اليوم هو منظر الدبابات والمدرعات الاميركية وهي تجوب شوارع وازقة المدينة متسببة بمزيد من ازمة السير والخوف في نفوس الناس. ففي كل مؤخرة دبابة او مدرعة اميركية هناك لافتة تقول «قوة مميتة اذا تجاوزت هذه المركبة سوف تقتل»، وبالفعل راح ضحية هذا التحذير الكثير من العراقيين الذين وجدوا انفسهم في وضع محرج بل مرعب وهم يقودون سياراتهم في الشارع وفجأة اقترب منهم رتل من المدرعات الاميركية، فإن توقوا او استمروا فسوف يتلقون مطرا من الرصاص. كل ما على الواحد منهم هو ان يعطي اشارة التوقف جانبا ويدعو ربه بالنجاة اذ لا احد يحزر مزاج او نية الجندي الاميركي الرابض خلف مدفع رشاشته بينما يوجه نظرات التهديد والوعيد الى الآخرين واصبعه فوق زناد الاطلاق.

مفارز الشرطة والجيش العراقي وحدها من يشيع الامل في نفوس العراقيين في الشوارع لكن هذه المفارز التي تنتشر نقاطها ليلا ونهارا في غالبية الطرقات تبقى اهدافا سهلة يصطادها الارهابيون بسهولة، ويكفي ان نعرف ان اكثر من الف شرطي راحوا ضحية هذه الهجمات خلال العام الماضي، حسب تصريح لوزير الداخلية العراقي فلاح النقيب لـ«الشرق الأوسط».

بغداد تعبر الى العام الجديد وثمة اكثر من أمل تعلنه لوائح ولافتات الانتخابات التي يدشن العراقيون عامهم الجديد بها باعتبارها الانجاز الاهم في حياة العراق منذ اكثر من نصف قرن.

وعود واحلام وامان تزفها القوائم الانتخابية لتعيد للعراقيين ابتسامة ما، وكي «تتبغدد» بغداد و«تتدلل» بعيدا عن الموت المجاني والتخريب الاعمى.