الإجراءات الأمنية للعراقيين المتعاملين مع البريطانيين فاقت التي يتخذها زعماء الدول

TT

يذهب ابو العلاء كل يوم الى منزله في منطقة خمسة ميل شمال مدينة البصرة الى شرقها حيث يعمل مترجماً يرافق دوريات للقوات البريطانية في كتيبة دوق ولينغتون المتمركزة على شط العرب.. وهو يدرك تماماً أنه مُعرض للاغتيال في أي وقت خلال عمله، بل حتى أثناء وجوده في منزله على ايدي جماعات مناهضة لقوات التحالف الذي تقوده بريطانيا في جنوب العراق. وأبو العلاء، 42 سنة، واحد من بين اكثر من 50 مترجماً عراقياً يعملون لدى هذه الكتيبة ويعيش كل منهم الحال نفسها.. كل يوم يمر يشعر في نهايته بأن حياة جديدة كُتبت له مع كل ما يتخلله هذا اليوم الطويل من خوف وقلق وحذر وترقب. واختار هذا المترجم اسم ابو العلاء، وهو ليس اسمه الحقيقي، لأسباب أمنية واضحة، وقال: «ان كلا من المترجمين هنا اختار اسماً آخر غير اسمه الحقيقي، فنحن لا نعرف بعضنا البعض إلا بهذه الاسماء المستعارة كي لا يصل الاسم الحقيقي بطريقة ما الى جماعات الاحزاب المناهضة للبريطانيين فتتقصى عن مكان إقامتنا، وعندها نصبح هدفاً اسهل للاغتيال».

سألته «ما الذي يدفعك الى اختيار مثل هذا العمل الذي يجعل حياتك عرضة لخطر دائم»؟ فأجاب :«انا لم اختر هذه الوظيفة إلا بعدما فشلت في ايجاد عمل مناسب كي اعيل اطفالي الثلاثة وزوجتي ووالدي.. احمل شهادة الدكتوراه في الكيمياء من قبل سقوط نظام صدام حسين، ولم يصدر قرار بتعييني في وظيفة حكومية آنذاك وبقيت عاطلاً عن العمل.. ترددت كثيراً قبل انضمامي الى فريق المترجمين.. لكني لم استطع تحمل مشاهدة عائلتي تتضور جوعاً أمامي».

تسير القوات البريطانية المتمركزة في مدينة البصرة دوريات شبه متواصلة في العربات المدرعة «سناتش لاندروفر» على مدى 24 ساعة يومياً في معظم شوارع المدينة، ويرافق مترجمون عراقيون معظم هذه الدوريات كي يترجموا لعناصرها في حال حصول مشكلة او في حال أرادوا التحدث الى السكان عن امر ما او الى مسؤولين في الادارات المدنية. ويتبادل المترجمون عملية المرافقة في شكل شبه دوري ليلاً ونهاراً.

غالبية المترجمين الذين تحدثت اليهم يحملون شهادات عليا باختصاصات متنوعة، لكنهم لم يجدوا عملاً في اختصاصاتهم او في اي مجال آخر سوى العمل لدى القوات البريطانية، وكل منهم يدرك خطورة هذا العمل الذي قد يطال عائلته ايضاً. فقد اقتحم مسلحون منزل زميلهم هاني الشهر الماضي وقتلوا زوجته التي كانت تعمل مُدرسة ولم تتجاوز العقد الرابع من عمرها. كان هاني وقتذاك في عمله ضمن دورية بريطانية تسير في شوارع البصرة... وهو ترك عمله بعد عملية اغتيال زوجته، لكنه ما يزال اليوم يسير في شوارع المدينة يبحث عن عمل! المهندس المدني عبد الله، 35 سنة، يشكو مثل زملائه من عدم الاهتمام الكافي من البريطانيين بأوضاع المترجمين الاجتماعية، ويقول: «نعمل في اوضاع غير طبيعية، وهم (البريطانيون) يعرفون اننا نتعرض في شكل شبه يومي الى تهديدات وضغوط من جماعات الاحزاب المناوئة لهم.. كنا في السابق نبلغهم كلما تلقينا أي تهديد.. لم نعد نفعل ذلك، لانهم لا يتخذون اي إجراء».

ويضيف :«انا مسؤول عن رعاية تسعة افراد من عائلتي وعائلة شقيقي الذي قتله نظام صدام حسين، وأتقاضى كما غيري من المترجمين 200 دولار شهرياً، وهذا المبلغ لا يكفي لاكثر من اسبوعين بسبب ارتفاع اسعار السلع بشكل غير طبيعي منذ سقوط النظام السابق.. اننا نعمل في الظروف الأمنية نفسها التي تعيشها قوات الشرطة، خصوصاً التعرض للتهديدات والاغتيالات، لكن الشرطي يتقاضى 350 دولارا ويحصل على امتيازات في العمل وتعويضات لاسرته مع استمرار صرف راتبه في حال اغتياله... قلنا للبريطانيين ان القوات الاميركية تدفع 600 دولار للمترجم لديها، فقالوا لنا اذهبوا واعملوا لدى الاميركيين».

علي العبادي، 47 سنة، ليس مترجماً، لكنه متعهد اعمال لدى القوات البريطانية في القاعدة العسكرية وخارجها، حيث ينفذ بعض المشاريع الانمائية في البصرة. وحاله الأمنية ليست افضل بكثير من المترجمين، لكنه يتقاضى اكثر منهم على المشاريع التي ينفذها. يملك علي محلاً داخل القاعدة البريطانية حيث يبيع سلعاً للجنود، ويساعده ابنه واحد اقاربه.. لكن لا يمكن ان تعرف في أي وقت من النهار يفتح علي محله كل يوم او من الذي يفتحه.. هو ام ابنه او قريبه. وليس ذلك بسبب الفوضى او الكسل، بل مجرد اجراء أمني. وترى علي يقف امامك ويحدثك لدقائق ثم يختفي.. ويعود، ليتابع حديثه، يلتفت بنظراته في كل الاتجاهات رغم انه موجود في القاعدة العسكرية بأمان، لكن عدم الشعور بالامان خارج القاعدة يسيطر على سلوكه.

ويؤكد علي انه تعرض لتهديدات عدة ونجا مرتين من محاولتي اغتيال، وهو يتخذ احتياطات أمنية ربما فاقت تلك التي يتخذها بعض زعماء الدول والمسؤولين الذين يتوقعون تعرضهم لاغتيال، ويقول: «لا استخدم الطريق نفسه عندما اخرج من المنزل واعود اليه.. استخدم اكثر من سيارة في تنقلاتي، واحياناً كثيرة لا أنام في منزلي.. احاول تغيير شكل الملابس التي ارتديها، احياناً ارتدي ملابس تقليدية محلية واحياناً اخرى اوروبية، واعتمر في الطريق قبعات مختلفة في كل مرة اعبر فيها منطقة معينة».

علي وابو العلاء يعيشان كغيرهم من المتعاملين مع قوات التحالف في حال خوف دائم لا تبدده الاحتياطات الأمنية التي صارت جزءًا اساسياً من حياتهم اليومية. وبين سندان العوز والجوع ومطرقة التعامل مع قوات الاحتلال، يختار العديد من ابناء البصرة العاديين اليوم التستر في ظل تدابير أمنية تفوق تلك التي يتخذها زعماء الدول.