معتصمو ساحة الشهداء يخترقون الأوامر والحواجز وينقلون مجلس النواب إلى الشارع

TT

في اليوم الخامس عشر لاغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري لم تحل الاجراءات المشددة في اكثر من منطقة لبنانية دون وصول المتظاهرين والمعتصمين والمعارضين للحكومة والسلطة الى ساحة الشهداء في وسط بيروت، حيث ترقد جثامين الراحل الكبير ورفاقه.

ولم ينفع قرار وزارة الداخلية القاضي بمنع التجمعات في وقف الدفق البشري، ولا اخاف المعتصمين تلويح النائب ناصر قنديل باعتصام مضاد امام الضريح مع «جمعية المشاريع الخيرية الاسلامية» (الاحباش) احتجاجاً على زيارة نائب مساعد وزيرة الخارجية الاميركية ديفيد ساترفيلد الى لبنان، وتصريحه (قنديل) بانه سيكنس «الحثالة» الموجودة في ساحة الشهداء، الامر الذي تراجع عنه قنديل والغى اعتصامه.

كذلك لم تتمكن الحواجز الأمنية التي اقيمت على مداخل بيروت الكبرى من جونيه شمالاً الى الدامور جنوباً فالجبل شرقاً، من وقف ارتال السيارات التي اصر ركابها على قضاء الليل بانتظار بزوغ الصباح للانطلاق سيراً على الاقدام والوصول الى وسط العاصمة والتحايل على «تساهل» القوى الأمنية لاختراقها من جهة المرفأ وفق حركة «كرّ وفرّ» اتبعها معتصمو الداخل لاستقبال رفاقهم خارج هذه الحواجز، او عبر «مسارب» عممت عبر الهواتف الجوالة لتسهيل التحرك.

ورداً على سؤال عن سبب هذه التسهيلات قال احد رجال الأمن: «ماذا تريدين؟ هل نضربهم؟ انهم عنيدون ولم يتركوا لنا الخيار. لذا تركناهم يمرون، لاسيما انهم مسالمون». لكن الواضح ان العناصر الأمنية تعهدت بتفادي حصول اي اشكالات ولم يمنعها تنفيذ الاوامر من التصرف اللائق مع المواطنين.

هذه المرة ايضاً وصل الجميع في اوقات متفاوتة. بعضهم حمل للمعتصمين ليلاً وبينهم نواب من قادة المعارضة خبزاً وفطائر ومناقيش. وكان لافتاً التحاف المعتصمين الذين امضوا ليلتهم في الساحة بأغطية صوفية، لاسيما ان الطقس بدأ يميل الى البرودة، كما تساقطت بعض الامطار. وهو امر لم يؤثر على كثافة الحضور الذين واصلوا هتافهم «حقيقة، حرية، وحدة وطنية» و«حرية، سيادة، استقلال» وحملوا شارات حمراء كتب عليها «استقلال 2005».

الا ان الجديد بعد اليوم الخامس عشر على جريمة اغتيال الحريري كان دخول غضب الشارع الى البرلمان وخروج البرلمان ليصير صوتاً من اصوات هذا الشارع من خلال النقل المباشر لجلسة مجلس النواب الاستثنائية.

المشهد في محيط البرلمان كان مناقضاً لما يجري في ساحة الشهداء. فقد بدا شارع المعرض وساحة النجمة وتفرعاتهما خاويين الا من العناصر الأمنية والمخابراتية بلباس مدني وعدد من الصحافيين والمصورين في ساعات الصباح الاولى. ومع اقتراب العاشرة، بدأت سيارات النواب تصل الواحدة تلو الاخرى. وبالتأكيد حظي النواب مروان حمادة وباسم السبع وبطرس حرب بحصة كبيرة من التصريحات. اما النائب نادر سكر والوزير عاصم قانصوه فقد جهدا قبل دخولهما البرلمان لاظهار رباطة جأش وعدم توتر. وقال قانصوه ان ضميره مرتاح ولا يتوقع استقالة للحكومة في الجلسة، مؤكداً «ان هذه الحكومة تلبي طموحات الشعب اللبناني» و«ان المعارضة لا تمثل هذا الطموح». وقال رداً على سؤال عن الحشود الموجودة في ساحة الشهداء: «انا عندي حشود اكثر اذا بدي انزل. انا ديمقراطي وهم معارضة ولكل منا احجام مختلفة».

في ساحة الشهداء ثبتت شاشتان كبيرتان ومكبرات للصوت ورفعت صور الشهيد الحريري، الى جانب الاعلام اللبنانية، لتغيب اعلام الاحزاب. كلمة رئيس مجلس النواب نبيه بري استقبلت بالتصفيق من معتصمي الساحة. ورافقها النشيد الوطني، سواء داخل البرلمان او خارجه. اما كلمة النائبة بهية الحريري فقد اعادت الدموع الى عيون المعتصمين، واعادت اليهم الكرامة والامل بقيامة لبنان، كما قال احدهم. لا سيما، عندما هاجمت الحكومة من خلال مقارنة بين موقف الرئيس الشهيد رفيق الحريري في نيسان 1996، اثر اعتداء اسرائيل على جنوب لبنان في عملية «عناقيد الغضب» وتحرك الراحل في عواصم العالم لتغيير المعادلات وانتزاع شرعية المقاومة، وبين موقف الحكومة اليوم، واصفة اياها بانها «تفتقر الى الرجال الكبار» الذين كان يجب «ان يقوموا بعمل مماثل ويقتحموا عواصم العالم ليكتشفوا من قرر ومن خطط ومن نفذ ومن قصّر ومن تجاهل هذه الجريمة».

وتفاعل المعتصمون مع دموع بهية الحريري ووعدها بجعل لبنان اكثر ازدهاراً بعدما روى ارضه الشهيد بدمائه.

واثناء القاء مروان حمادة كلمته، بلغت حماسة المعتصمين ذروتها مع الاتهامات التي وصفها البعض بانها من «العيار الثقيل». فيما ردد البعض الآخر «حماه الله» عندما اتهم الحكومة والسلطة والمخابرات السورية بتسهيل مقتل رفيق الحريري، ليعلو التصفيق الذي غاب عند ذكره المقاومة. وقد استغرب احد المعتصمين الامر، ليجيبه رفيق له: «يجب ان ينزلوا الى الساحة ويصفقوا ويهتفوا معنا. لم يعد مسموحاً غيابهم. ونحن نعرف انهم منا واننا منهم».

و«هاي يلا حكومة اطلعي بره» هتف الجميع قبل اعلان عن دقيقة صمت في تمام الساعة الثانية عشرة وخمس وخمسين دقيقة، لحظة الانفجار المجرم الذي اودى بحياة الشهيد الحريري ومرافقيه، وليتبعها ايضاً وايضاً النشيد الوطني مع رفع للايدي باشارة النصر. ثم يتابع الجميع كلمة مروان حمادة الذي عاد الى مكانه هاتفاً «حرية سيادة استقلال».

الشعارات التزمت علناً بتوصيات اقطاب المعارضة، لتقتصر على الحرية والحقيقة والسيادة. لكنها افلتت احياناً من عقالها، لتعود الى مطالبة السوريين بالانسحاب، فيعود احد المسؤولين عن التنظيم ويضبطها.

الرسائل عبر الهواتف الجوالة دخلت على الخط وبينها رسالة تقول: «شوية كرامة... يا عمر كرامي». كذلك تلقى بعض المعتصمين رسائل هي عبارة عن مقتطفات من الاغنيات الوطنية لفيروز والرحابنة.

الحشود استمرت تتدفق، فيما تراخت القبضة الأمنية قرابة الظهر. احد المشاركين قال: «جئت من الكسليك (البعيدة عدة كيلومترات عن بيروت) مشياً على الاقدام مع مجموعة من رفاقي، نحن نسير منذ الثامنة صباحاً».

معظم المناطق اللبنانية شهدت اقفالاً شبه تام، لاسيما المدارس والقطاعات التجارية. وبدت الحركة مشلولة في الشوارع والساحات باستثناء المواكب السيارة التي عبرت حاملة الاعلام اللبنانية.

وكانت مجموعة كبيرة من المحامين قد اعتصمت في باحة قصر العدل في بيروت قبل ان يتوجه افرادها مرتدين الروب الاسود الى ساحة الشهداء، بعد كلمة لنقيب المحامين سليم الاسطا أكد فيها على «ان قرار منع التجول المفروض هو مناف للدستور لانه يمس بحرية التعبير». وطالب المجلس النيابي بكشف حقيقة جريمة اغتيال الحريري، مسترجعاً تاريخ الاغتيالات في لبنان مروراً بجريمة مقتل القضاة الاربعة في صيدا وصولاً الى اغتيال كمال جنبلاط والمفتي الشيخ حسن خالد والرئيسين بشير الجميل ورينه معوض وغيرهم.

مع اعلان تعليق جلسة النواب الى السادسة مساء، ساد التعب في صفوف المعتصمين الذين امضوا الليلة في ساحة الشهداء فبدأ بعضهم ينسحب ليرتاح قليلاً استعداداً لمعاودة نشاطه. اما البعض الآخر فاكتفى بافتراش الارض والاستلقاء وكأنه في بيته على رغم الحشود والضجيج.

وتحدثت وكالات الانباء عن قيام متظاهرين بتقديم الزهور الى جنود الجيش اللبناني، فيما عمد متظاهرون آخرون الى نثر الزهور على الجنود. كما شوهد بعض العسكريين يساعدون متظاهرة سقطت ارضاً بسبب التدافع. وذكرت وكالات الانباء الاجنبية ان الجيش فتح الطريق امام آلاف المتظاهرين لينضموا الى التجمع في ساحة الشهداء.

وكانت الهيئات الصيداوية بالتعاون مع «تيار المستقبل» في مدينة صيدا قد نظمت مساء امس اعتصاماً على جزيرة قبالة شاطئ المدينة حيث اضيئت الشموع.