عنجر تحولت من موقع أموي إلى مركز للاستخبارات السورية

TT

في ظل المخاض السياسي الحاصل في لبنان حاليا، ومع مواصلة القوات السورية انسحابها من الاراضي اللبنانية باتجاه البقاع، يدور الحديث عن تفكيك اجهزة المخابرات السورية التي كانت توجد في العاصمة بيروت بشطريها الغربي والشرقي والتي تأخذ من العاصمة وبلدة عنجر بوادي البقاع على بعد 58 كيلومترا شرق بيروت مقرا لها منذ عام 1976 بالإضافة الى وجود مقر رئيس جهاز الأمن والاستطلاع للقوات السورية في لبنان والذي تناوب عليه 3 أشخاص هم العقيد محمد غانم والعميد الركن غازي كنعان وفي سنة 2002 تولى العميد الركن رستم غزالي رئاسة هذا الموقع.

وعنجر التي تشكل الموقع اللبناني الوحيد الذي يعود تاريخ انشائه الى العصر الاموي، تلك الحقبة الزاهرة في تاريخ الحضارة العربية، والموقع المميز الذي يصل مناطق سورية الشمالية بشمال فلسطين والساحل بدمشق، بالاضافة الى انه مركز للتبادل التجاري مؤلف من 99 محلا بتصميم عربي بأربعة مداخل، واسطبلات للخيول، وتشتهر بالاثار اليونانية والرومانية والبيزنطية والعربية. ويقيم اليوم في عنجر والمنطقة المحيطة بها 2600 شخص من الجالية الارمنية التي نزحت من ارمينيا واستوطنت في لبنان، بالاضافة الى 1000 من عناصر القوات والمخابرات السورية.

تاريخيا، كتب لهذه المنطقة ان تدمر بسبب الصراع على السلطة بأمر من الخليفة مروان الثاني عام 744 ميلادية بعد انتصار ابراهيم بن الوليد في معركة دارت رحاها قرب البلدة التي أخذت تتداعى حتى تحولت في القرن الرابع عشر الى أطلال محاطة بالمستنقعات.

وبقيت أثار هذه البلدة مخفية حتى الاستقلال اللبناني، اذ اكتشفتها مديرية الاثار اللبنانية عام 1943 وعملت على ترميمها.

وعلى الرغم من تاريخ بلدة عنجر الحافل غير انه لم يكن اسمها لينال كل هذه الشهرة لولا انها امست المقر الرئيسي لجهاز الأمن والاستطلاع في القوات السورية العاملة في لبنان، وأصبحت هذه البلدة التي تبعد كيلومترات قليلة عن الحدود اللبنانية ـ السورية وتفصلها 8 كيلومترات فقط عن مدينة زحلة عاصمة البقاع اللبناني، معلما من معالم السياسة اللبنانية لكثرة زوارها من رؤساء ووزراء وعسكريين ومعتقلين لبنانيين من قبل عناصر المخابرات السورية.

وعندما قامت «الشرق الأوسط» بمقابلة عبد الله احد المعتقلين السابقين لدى المخابرات السورية في عنجر ظهرت الدهشة واضحة في عينيه عند ذكر اسم مدينة عنجر، وقال معلقا إنها مكان سيئ و«مركز لمعالجة المعلومات التي يتم الحصول عليها من الاشخاص بالإكراه». يمثل هذا المكان في أذهان كثيرين رمزا للتهديد والقسوة. ويقول شخص آخر طلب عدم ذكر اسمه: إن الغرض الاساسي في ذلك الاسلوب هو تخويفنا ووضع القلق داخل اجسادنا وعقولنا».

تبدو مدينة عنجر الآن في سبات واضح بعد ان تقلص النشاط داخلها بصورة ملحوظة مقارنة بالمدن المجاورة التي تعج بالحركة في الأسواق والمقاهي والمتاجر. الوجود العسكري السوري منتشر في كل المنطقة المحيطة بعنجر حيث نقاط الحراسة السورية ترقب النشاط اليومي للسكان. وفي قلب مدينة عنجر تظهر ثكنات الجيش السوري وعلى بوابتها الرئيسية جنود سوريون، فيما تشاهد الشاحنات العسكرية وهي تدخل وتغادر الثكنات، وتشكل هذه الحركة غالبية النشاط في هذه المدينة. يقول واحد من سكان المدينة، طلب ايضا عدم ذكر اسمه، إنه سبق ان دخل هذا المكان، رفع الرجل سرواله وأشار الى كاحليه ثم الى آثار جرح، مشيرا الى انه تعرض للتعذيب بالصدمات الكهربائية، حدث ذلك قبل عشرة أعوام، لكنه لا يزال يتردد على الطبيب لإجراء فحوصات من وقت لآخر بسبب آثار الاعتداءات التي تعرض لها في ذلك الوقت، وتحدث عن أول تجربة له مع المخابرات التي كانت في عقد الثمانينات، وقال إن نحو 30 فردا، بعضهم كان يرتدي الزي العسكري والبعض الآخر كان يرتدي زيا مدنيا عاديا، جاءوا الى منزله بعد منتصف الليل وتعرض الى معاملة سيئة أمام اسرته. إلا ان الأسوأ كان بانتظاره، حيث عصبت عيناه ووضع بداخل الصندوق الخلفي لسيارة صغيرة وتم نقله الى المركز الرئيسي للمخابرات السورية في بيروت. ويقول في سياق وصف الضرب الذي تعرض له والصدمات الكهربائية إنه فقد 40 كيلوغراما، وهو نصف وزنه، خلال 25 يوما قضاها في الاعتقال. وأضاف ان ما كان يشعر به لم يكن ألما فحسب وإنما ألم مبرح لا يمكن ان تصفه مجرد كلمات، على حد تعبيره. وأضاف انه عند انتهاء زيارته الاولى الى المركز الرئيسي للمخابرات السورية ابلغ بأن اعتقاله كان عن طريق الخطأ وإنهم كانوا من المفترض ان يلقوا القبض على شخص آخر لم يذكروا اسمه. هناك شخص آخر قضى بعض الوقت في المركز الرئيسي للمخابرات السورية في بيروت لكنه أحجم عن الحديث حول تجربته، وقالت زوجته: «إن الحديث أمر صعب عليه لأنه يجعله يشعر بأنه يعيش التجربة مرة اخرى».

هناك آخرون مروا بمعاملة شبيهة، ويقول واحد من هؤلاء عندما كان في عنجر: «كنت أقف داخل غرفة مليئة بالفئران مع أربعين شخصا ينتمون الى مختلف الطوائف ويعكسون التركيبة التعددية للمجتمع اللبناني، وسوف سيتحدثون، ولكن ليس اليوم وذلك لانهم لا يستطيعون الحديث الآن، فالوقت لا يزال مبكرا، والحديث خلال الفترة الانتقالية السياسية الهشة في لبنان لا يزال أمرا خطرا».

وعندما سئل حول ما اذا كان يشعر بالتفاؤل ازاء الانسحاب السوري، رد قائلا: «ماذا أقول؟ ماذا تريد عندما يمر شخص بما تعرضنا له؟ بماذا تشعر؟»، فيما قال شخص آخر كان يتابع حديثنا: «إننا لا نكره الشعب السوري، إننا نكره القانون السوري»، وقال الشخص الذي تعرض للضرب والصدمات الكهربائية خلال اعتقاله: على الرغم من الذي أصابني غير انني لا اكره الشعب السوري، في واقع الأمر أتحدث لأول مرة لأشارك متضامنا مع ضحايا التعذيب وللمعتقلين في السجون السورية».

ذهبت مع ذلك الرجل الذي تعرض للتعذيب بالصدمات الكهربائية في جولة حول البناية، وواصل حديثه قائلا: «هل ترى باعة الفواكه هؤلاء، انهم يعملون لدى المخابرات، وهذا المخبز أيضا وأيضا ذلك المتجر الذي يبيع المأكولات».

وصلت جملة عدد الاشخاص الذين قال إنهم يعملون لدى المخابرات السورية في بناية سكنية صغيرة غرب العاصمة بيروت الى 11 شخصا، وأضاف انهم في كل مكان في هذه المنطقة السكنية يراقبون كل حركة.

خلال جولتنا بدا الانفعال واضحا على وجهه عندما تذكر ما تعرض له، وقال: «عندما يقدم لنا الطعام كنا نتعرض للضرب، وعندما كنا نرفض الطعام كنا نتعرض للضرب والتعذيب أيضا، ويحدث ذات الشيء عندما يأتون إلينا بالماء، لم نكن نستطيع فعل أي شي».

كما التقت «الشرق الأوسط» بعدد من اللبنانيين الذين اعتقلوا من قبل القوات السورية الموجودة في لبنان واقتيدوا الى عنجر، حيث قالوا انهم خضعوا للتعذيب قبل التحقيق! ومن بين هؤلاء المعتقلين السابقين احد الموالين للعماد ميشال عون ويدعى جوزيف وهو في منتصف العقد السادس من العمر، تم اعتقاله في اكتوبر (تشرين الاول) عام 1993 واقتيد الى مركز البوريفاج ثم الى عنجر، روى «للشرق الأوسط» تجربته أثناء اعتقاله. وساهم جوزيف في تأسيس التيار العوني على الرغم من انه لم يكن يوما ضمن الكادر الرسمي للتيار. كما كان له نشاط في حقبة السبعينات ضمن حركة حزبية ما، ويتولى اليوم أمانتها العامة.

وروى حديثه بتذكر ليلة اعتقاله: «في تمام الساعة الثانية عشرة والنصف من مساء يوم احد من ليالي شهر اكتوبر من عام 1993 اعتقلني اربعة اشخاص من منزلي، احدهم باللباس المدني ويتكلم اللهجة اللبنانية»، وقال انهم ضربوه بعنف وبشكل مستمر على ركبته، وهو جالس على كرسي ويداه مربوطتان الى خلف الرأس.

ويضيف: بعدما خرجت من المعتقل أمضيت حوالي 35 يوما أمشي مستعينا بعكاز كما أنني لم استطع ارتداء حذاء على مدى شهرين.

كنت أضرب بالكرباج على ظهري وكافة نواحي جسمي وعلى كعب قدمي. خلال التحقيق كانوا يسألونني وعيناي مكشوفتان تارة ومعصوبتان طورا، كما انهم كانوا ينهالون عليّ احيانا باللكمات على صدري. بدأوا بالضرب قبل بدء التحقيق ثم اخذوا يسألوني عن علاقتي بالبطريرك صفير واذا ما كنت اتردد عليه.

جوزيف يعاني حتى اليوم من آلام في الظهر والركبتين ويواجه صعوبة عند الجلوس والوقوف. وعن تفاصيل تعذيبه، يقول: «وأنا أضرب قال لي احدهم «انت عميل اسرائيلي»، انفعلت وأجبته «لو كنت عميلا اسرائيليا لما كنت هنا»، سألني «أين كنت اذن؟»، اجبته: كنت في فيلا وانت تحرسها. فاستاءوا جدا وطرحوني أرضا على بطني ووضعوا كرسيا حديديا على ظهري وأدخلوا أرجل الكرسي تحت إبطي محاولين كسر عمودي الفقري. وكرروا هذه العملية مرتين.

عندها صرخت صرخة مدوية، وطويت رقبتي وفتحت فمي متظاهرا بأني مت فخافوا عندها وتركوني. ويضيف: في احدى المرات هددوني بالتعرض لابنتي وزوجتي وايذائهما.

ويتابع «عند ظهر يوم الثلاثاء اخرجوني من المبنى واقتادوني لمبنى مجاور وأنا مكشوف العينين. في الطابق الثالث من هذا المبنى التقيت ضابطا سألني: «ألا تريد ان تتعاون معنا؟». قلت: «بخصوص ماذا؟». ثم ذهبوا بي لدى شخص آخر أعلى رتبة، وأول ما رآني بادرني قائلا: « لم اكن اعرف انك بعمر ابي، ولو كنت اعلم انك بهذه السن لأرسلت لك دعوة». عاد واستدرك وقال: «وانت تعلم انا استطيع الاتيان بك». ثم سألني ووجهي ازرق من جراء الكدمات «هل ضربوك وآذوك؟». اجبته: «كلامك ينسي كل شيء». سألني: «ستتعاون معنا؟» قلت: «بخصوص ماذا؟». اجابني ان هناك من يقوم بأعمال ارهابية على الجيش السوري. تفاجأت وسألته اين؟ اجابني بأنهم تعرضوا لانفجارات عدة.

علقت بأنني لا اعلم عنها شيئا. وأضفت: «انا اعمل في السياسة واعرف انه ما من حرب اليوم ومن يرتكب هذه الافعال انما يعمل ضدنا واطلب منكم ان تقبضوا عليهم».

الضابط الكبير كان لطيفا ومهذبا وأكد لي ان (السوريين) لا يقبلون بأن يستغلنا احد ثم اكد لي أنهم لم يأتوا ليبقوا طويلا. ارادني ان اقر واعترف على من ينفذ هذه الهجمات. لكنني بالفعل لم اكن ادري عنها شيئا. ويتابع «ثم قدم لي كوبا من الشاي وسيجارة وكرر على مسامعي بأنهم يريدونني ان اتعاون معهم. وبعد حديث ودود، بادرني قائلا: «انت لم تعد موقوفا لدينا انما ضيف عندنا». بعدها نقلوني الى مبنى آخر لم يكتمل بناؤه وأجلسوني على كنبة وبقربي جندي».

وقال انهم نقلوه الى مقر آخر للاستخبارات اشبه بمزرعة وفيها اسطبلات للخيول. وفي المزرعة تقع فيلا صغيرة يتخذها الضابط مقرا له.

بقيت 4 أيام بالاسطبل مقيد اليدين، كنا 12 شخصا في الاسطبل الواحد. من ضمننا من هم محكومون بسبب تهريب بضائع وآخرون عادوا الى عنجر بعد ان حوكموا في سورية. بعدها استدعيت لدى احد العناصر. فور دخولي انهال علي بالضرب بالكرباج وأعاد كل الاسئلة التي سألوني اياها في بيروت: وعن علاقتي بعون وصفير واسرائيل. ثم أتى محقق آخر وبدأ يضربني ضربا مبرحا».

وعندما جاء يوم الجمعة سألوني هل تعلم اين انت؟ اجبت: في البقاع لدى الجيش السوري. قالوا، وما الذي يؤكد لك ذلك؟ اجبت في البقاع لا يوجد اسرائيليون. وبعدها اخذوني بالسيارة باتجاه دمشق لكن وقبل ان نصل الى الحدود اللبنانية ـ السورية توقفنا امام فيلا، ( تبعد حوالي ربع ساعة عن المقر الذي كنت فيه)، اوروبية الطراز ودخلت الى قاعة كبيرة في آخرها مكتب. ثم دخل شخص ببدلة رمادية انيقة وبادرني قائلا: «انا فلان» قلت له اعرفك. وحدثني حديثا طويلا جدا حول ميشال عون ولبنان والحرب وأضاف ان السوريين علمانيون ولكن يهمهم ان يكون لبنان ذا وجه مسيحي.

وعندما خرجت من المعتقل ذهبت الى دائرة استقصاء جبل لبنان لرفع دعوى لانني كنت موقوفا لدى الجيش السوري، فرفض المحقق تدوينها فعدت وقلت له: اكتب انني اعتقلت لدى جيش عربي موجود في لبنان... ولا ادري اذا كان كتبها». ويتابع: «بعدما خرجت طلبت السفارات الاميركية والفرنسية والالمانية ان تقابلني بواسطة ناشط من لجنة حقوق الانسان بعدما عمم التيار العوني قصتي. تجدر الاشارة الى ان السفارة الاميركية سألتني عن تفاصيل علاقتي بعون وأجبتها بأنني لست تابعا لعون.. انما انا مواطن لبناني اناضل من اجل قضية تحرير بلادي، ومن يحمل هذه القضية انا معه».