تداعيات مسلسل التفجيرات في لبنان: ازدهار شركات الأمن في بلد يحلم بالأمن

مناخ شائعات وتحد ورعب جعل حتى دخول السوبر ماركت مسألة غير عادية

TT

ازدهر مسلسل التفجيرات المتنقلة في بعض المناطق اللبنانية، واعاد الى الاذهان مرحلة مرعبة من تاريخ الحرب الاهلية التي لم يقرر المستفيدون منها، على ما يبدو، طيها، رغم مرور اكثر من 15 عاماً على اقرار وثيقة الوفاق الوطني في الطائف، التي أرست أسس مسيرة السلم والأمن في لبنان، كما هو مفترض.

لكن جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، اعادت خلط الاوراق وفتحت ملف المحاسبة وسلطت الضوء على الاخطاء التي شابت هذه المسيرة، سواء لجهة فظاعة الجريمة او لجهة ما تبعها من مؤشرات ترمي الى اظهار لبنان بمظهر الدولة الهشة غير القادرة على حماية أمنها بمفردها. وفي ضوء موجة التفجيرات التي تنقلت من نيو جديدة الى الكسليك ومن ثم الى سد البوشرية، اضافة الى الانقسام السياسي الحاد بين اطراف الموالين لسورية والمعارضين لها والفراغ القائم الذي يهدد بنسف الاستحقاق الانتخابي وجر البلاد الى المجهول، تفاوتت ردود فعل الشارع اللبناني بين فئات خائفة من تفاقم التدهور الأمني، واخرى تشعر بالتحدي وتصر على كسر حاجز الخوف ومتابعة تحركات المعارضة باتجاه الوصول الى مطالب تؤمن لها قيام صيغة جديدة للحياة السياسية السليمة في لبنان، وكل ذلك وسط موجة شائعات عن وجود متفجرات هنا او هناك، الامر الذي قد يؤدي الى شلل المرافق الاقتصادية والسياحية ويخلف اضراراً يصعب تعويضها.

بداية على الصعيد الرسمي اعلنت قيادة الجيش في بيان لها انها وضعت قيد العمل في غرفة عمليات القيادة رقم الهاتف 1702. ودعت المواطنين للاتصال على هذا الرقم لدى الاشتباه في أي جسم غريب او اي عمل تخريبي آخر. كذلك عمدت قيادة الجيش الى تكثيف حمايتها للمؤسسات العامة لا سيما المقار الدبلوماسية الموجودة على الاراضي اللبنانية.

ومقابل بيان قيادة الجيش، لم يبرز جديد على صعيد التحقيق في التفجيرات الثلاثة، فيما يتوقع المتضررون ان تسجل هذه الحوادث ضد مجهول، كما جرت العادة.

اما على الصعيد الشعبي فقد راجع اللبنانيون حساباتهم، واستعادوا خطط طوارئ لتوفير الأمن الذاتي في غياب اي ضمانات للأمن الرسمي، الذي اظهر عجزه عن منع وقوع الانفجارات. لذا عادت الى المشهد اللبناني تدابير احترازية ووقائية، اهلية ومؤسساتية فردية وجماعية، في المناطق اللبنانية كافة.

وأول المستفيدين من هذه التدابير هو شركات «الأمن» التي نشطت اعمالها وخدماتها وازداد الطلب عليها، فعمدت الى توظيف مزيد من العناصر اختير معظمهم من قدامى الحزبيين المدربين. وشددت في مذكرات داخلية على تفعيل اداء العناصر من حراس ومفتشين بسبب دقة الاوضاع الأمنية ومنعاً لحصول اي اعمال مخلة بالأمن قد تتعرض لها المؤسسات التي تتولى حراستها.

وقد فرضت هذه الشركات على جميع الحراس البقاء في حالة اليقظة والانتباه طوال فترة خدمتهم. كما شددت على ضرورة افادتهم الادارة فوراً عن كل عمل مشبوه قد يتحققون منه. وشددت المراقبة ايضاً على المؤسسات الدبلوماسية والسياحية والمصرفية والتجارية والصناعية التي تقوم بحراستها، بحيث يتم تفتيش السيارات والحقائب والاكياس التي يرغب ايا كان ادخالها الى حرم هذه المؤسسات.

ولفتت مذكرات الشركات الأمنية الى اهمية عدم اقتصار التفتيش على السيارات القديمة الطراز، وانه من المفيد جداً ان يشمل السيارات الجديدة، اذ ان الاعمال الارهابية قد تتم بواسطة هذه السيارات ايضاً.

وحرصت الشركات على التدقيق في سيرة الحراس العاملين لديها وماضيهم، خاصة اولئك المولجين بحراسة المؤسسات الدبلوماسية والسياحية والمصرفية والتجارية والصناعية، وتكثيف نشاط المفتشين العامين ودوريات رؤساء الاقسام وجولاتهم على الحراس لحثهم على عدم التساهل او الاهمال في تنفيذ المهمات الموكلة اليهم. كما دأبت على تغيير المهملين منهم بآخرين اكثر انضباطية.

والملاحظ ان عناصر الشركات الأمنية تقيدوا بهذه التعليمات، فلم يعد دخول «السوبر ماركت» مثلاً مسألة عادية، وانما باتت سيارات الزبائن تخضع لتفتيش دقيق يطال محركها وصندوقها، وليس بواسطة النظر فقط، وانما بواسطة اجهزة متطورة من شأنها ان تكشف وجود اي اجسام غريبة. كذلك الامر بالنسبة لحقائب السيدات.

لكن اكثر مشاهد التشدد يعكسها بيت الامم المتحدة في وسط بيروت، اذ تحول غداة اعلان الامين العام كوفي انان تقرير لجنة تقصي الحقائق بشأن جريمة اغتيال الحريري، الى قلعة محصنة غارقة في متاريس الرمل، اضافة الى استعارة بضع مئات من الامتار من الطرق المحيطة بها وقطعها على السيارات والمارة واحاطتها بقوى الجيش والأمن الداخلي وفريق الحراس الخاص بالمنظمة الدولية المزودة بكاميرات المراقبة والتي صارت اشبه بجزيرة أمنية يصعب الدخول الى حرمها من دون اجراءات مشددة تصل الى حد الارباك والازعاج.

مواقف السيارات ايضاً دخلت دوامة الخوف، فلم تعد تستقبل سيارات مجهولة، لتكتفي بسيارات زبائنها المعروفين بعد تفتيشها.

وعدا الاجراءات الواسعة لحفظ الأمن، تبرز جملة من الاجراءات الفردية، لتأتي الترتيبات متشابهة، اذ عمد معظم اقطاب القوى السياسية، سواء في صفوف الموالاة او في صفوف المعارضة، الى الاستعانة بخدمات الشركات الأمنية وافراغ محيط اماكن اقامتهم من السيارات المجهولة المركونة، اضافة الى مراقبة تحركات العابرين.

اما على صعيد أمن الشارع في الاحياء والقرى، وفي المناطق البعيدة عن بيروت، فالإجراءات تشبه مبدأ «العونة» المعتمد في الارياف لمواسم القطاف والحصاد والافراح والاتراح. لذا رتبت البلديات والاحزاب وفعاليات الاحياء اوضاعها من «حواضر البيت» بحيث اجريت احصاءات سريعة عن السكان وسياراتهم وحددت لهم اماكن الركن مع بطاقات بارزة لكل سيارة، تحمل اسم صاحبها ومكان سكنه، ومنعت السيارات الغريبة من التوقف في الاحياء. وعاد الى الظهور على جوانب الطرق الشريط الاصفر لمنع توقف السيارات، كذلك عادت العوائق الاسمنتية للغاية ذاتها. واضافة الى هذه الاجراءات حرصت عناصر الاحزاب على المراقبة الدقيقة لكل ما يدور في مناطق «نفوذهم» وعلى القيام بدوريات ليلية لتفقد الاوضاع الأمنية، فعاد المسلحون الى الظهور بكثافة يبررها مسلسل الانفجارات، وتوقيف المارة والسيارات بعد منتصف الليل عند حواجز طيارة استدراكاً لأي خرق أمني قد يحدث.

حتى الناس العاديون دخلوا في دوامة الرعب، فتحولوا الى مراقبين لكل تحرك مشبوه حولهم. وقالت احدى الامهات انها تقصد مدرسة اولادها قبل انتهاء الدوام باكثر من ساعة تحسباً لما قد يطرأ ويحول دون وصولها اذا وقع حادث، لا سيما ان خطوط الهاتف تتأثر بسرعة لا تفسير لها، فتتوقف فور حصول اي خلل أمني.

وقالت والدة اخرى انها اتخذت اجراءات منزلية خاصة، كأن تفتح النوافذ حتى لا تتحطم في حال وقوع اي انفجار، كما ابعدت الاسرّة عن الابواب والنوافذ حتى لا يصاب احد بشظايا الزجاج.

لكن هذه التدابير الاحترازية لم تحل دون رفض فئات واسعة من اللبنانيين البقاء في اسر الخوف، لا سيما ان الخسارة الفادحة بفقدان الرئيس رفيق الحريري، سلحت جميع اللبنانيين بجرأة قلما عرفها شارع عربي تعود القمع، كما يقول ابراهيم الطالب الجامعي الذي جعل من ساحة الشهداء قبالة قبر الحريري مقراً دائماً له بعد انتهاء دروسه كل يوم، مضيفاً: «لا يمكن لمن يفخخ البلد والسلم الاهلي بمسلسل التفجيرات ان يخيفنا ويعيدنا الى الوراء. نحن نؤكد اننا لن نتراجع ما لم نعرف حقيقة من قتل الرئيس الشهيد، وما لم تتحرك هذه السلطة لتجري الانتخابات النيابية الحرة التي ستسفر بالتأكيد عن ولادة وطن، وفق ما يرضي روح الشهيد الذي دفع حياته ودمه لاجل لبنان».

اما نائلة، وهي موظفة في احدى الدوائر الرسمية «الموالية» كما تقول، فهي تصطحب اولادها الى كل تحرك يزعج «الموالاة» ويؤثر سلباً على وضعها الوظيفي، لكنها لا تهتم. وتقول: «انهم مهما حاولوا تمديد هذا الواقع للاستفادة من عامل الوقت ستنتهي ايامهم، وتعود الامور الى نصابها. ولن يتمكنوا حينها من قمعنا او تخويفنا بمتفجراتهم المجرمة».

والامثلة اكثر من ان تحصى، حتى التجار الذين تضرروا من هذه التفجيرات وبنسبة كبيرة، لم يتوقفوا عند اداء الجهات الرسمية، بل نفضوا عنهم اي خوف وبدأوا اجراءاتهم الخاصة لمواصلة مسيرة الاعمار والوحدة الوطنية التي كان الرئيس الراحل يبشر بها ويعمل لترسيخها.