ماذا تغير .. وما تحمله الذاكرة من أيام الحرب الأهلية (1)

كيف غيرت الحرب الخريطة السياسية والطائفية في لبنان؟

TT

ثلاثون عاماً مضت منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في الثالث عشر من نيسان (ابريل) 1975، والتي انتهت رسمياً بعد التوقيع على اتفاق الطائف (السعودية) في 22 اكتوبر (تشرين الاول) 1989بين الاطراف اللبنانية والذي أرسى توازناً جديداً بينها. وما بين 13 نيسان 1975 واليوم نفسه في 2005 تغيرت التركيبة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلد. وغابت زعامات لبنانية تقليدية عدة وبرزت زعامات ميليشيوية وأخرى جديدة على المسرح السياسي اللبناني.

بعد 30 سنة من الحرب هل ما زالت الطوائف المؤسسة الاساسية في فكرة الوطن ـ الدولة؟ وهل انتهت آثار الحرب الى غير رجعة، أو هل ما زال هناك ثمة جمر تحت الرماد ربما يعيد إشعال تلك الحرب؟

الملف التالي يحاول الاجابة على بعض من تلك الاسئلة، كما يعود بالذاكرة الى فصول من الحرب الاهلية اللبنانية في محاولة لفهم ما حصل وقت اندلاع الحرب وقبلها.

احدثت الحرب الاهلية اللبنانية تغيرات جذرية في الحياة السياسية، وفرضت على جميع القوى والاحزاب مسارات عدلت كثيراً من خريطتها وتحالفاتها وحتى في مشاريعها. كانت الامور قد بدأت تسير باتجاه التأزم قبل 13 ابريل (نيسان) وحادثة «بوسطة عين الرمانة» التي كانت الشرارة التي ادت الى اندلاع الحرب. ويمكن القول انه بعد هزيمة 1967 أخذ العامل الخارجي بالتأثير على مجمل الصراع السياسي في لبنان. وازداد هذا التأثير مع وصول الرئيس حافظ الاسد الى السلطة في سورية وموت الرئيس المصري جمال عبد الناصر والدخول الفلسطيني الكثيف الى لبنان بعد «أيلول ألاسود» في الاردن، وكلها احداث أدت الى التقاطع الكامل بين العوامل الداخلية والخارجية، وجعلت الانقسامات السياسية الحادة بين القوى والاحزاب اللبنانية تتم وفق منطق هذا التداخل.

عندما حصلت حادثة البوسطة في 13 ابريل كانت الانقسامات الطائفية قد بدأت تطغى على ما عداها من انقسامات سياسية واجتماعية برزت في سنوات ما قبل الحرب بفعل انتعاش النضالات الطلابية والنقابية. وبروزت تكتلات سياسية وفق مفاهيم اليمين واليسار المتجاوزة بطبيعتها الفرز الطائفي التقليدي في لبنان. إلا ان اندلاع الحرب وضع حداً سريعاً لاستمرار هذا النوع من الظواهر. وكرست بالمقابل الفرز الطائفي الحاد، الذي زاد من حدته انقسام البلاد جغرافياً بين مناطق ذات غالبية طائفية معينة، وقيام ما سمي بالتحالف الوطني الاسلامي، الذي جمع احزاب اليسار الى جانب القوى التقليدية الاسلامية، تحت شعار الدفاع عن المقاومة الفلسطينية وعروبة لبنان ووحدته، مقابل نشوء «الجبهة اللبنانية» التي جمعت احزاب اليمين المسيحي وعدداً من الزعامات التقليدية المسيحية، تحت شعار الدفاع عن لبنان. الابرز في التحالف الاول كان زعامة كمال جنبلاط، المحاط بقيادات اليسار اللبناني وتنظيم«المرابطون» والتنظيمات الناصرية، والمدعوم من القيادة الفلسطينية وقوى فصائلها المسلحة. أما الابرز في التحالف الثاني فكان حزب الكتائب الذي كان بدأ يتسلح جدياً منذ احداث 1973 التي وقعت بين الجيش اللبناني والفلسطينيين، الى جانب حزب الوطنيين الاحرار وبعض التنظيمات الصغيرة الاخرى. هذا الانقسام المناطقي والسياسي تغير نسبياً مع دخول الجيش السوري الى لبنان، والصورة المعبرة عن هذا التغيير كانت في وقوف عاصم قانصو ممثلاً حزب البعث الى جانب أمين الجميل المسؤول الكتائبي وداني شيمعون قائد «نمور الاحرار» في برمانا لاستقبال الجيش السوري، في حين كانت قوات الحركة الوطنية والفلسطينيين تشتبك مع السوريين في محاولة لوقف تقدمهم. لم تسمح زيارة السادات الى القدس لهذا الوضع ان يستمر. وجاءت اتفاقات كمب ديفيد لتعيد خلط الاوراق على الساحة اللبنانية ولتدفع السوريين الى كسر تحالفهم مع القوى المسيحية والالتفات مجدداً الى «الحلفاء الطبيعيين»، حيث بات الامساك بالورقة الوطنية ـ الفلسطينية في لبنان شرطاً ضرورياً للمواجهة السورية مع الواقع الجديد الذي افرزه خروج مصر من معادلة المواجهة مع اسرائيل. ويقول كريم بقرادوني عن هذه المرحلة ان «المسيحيين لم يفهموا هذا التغيير الكبير ولم يراعوا وضع سورية التي اضطرت الى العودة للتفاهم مع الفلسطينيين والحركة الوطنية. فذهبوا الى اسرائيل وكانت النتيجة تدمير الاشرفية عام 1978».

الوضع الجديد ادى الى تجذر الانقسامات والمشاريع، وشهدت تلك المرحلة صراعات داخل المناطق الواحدة. في المناطق الشرقية جرت حروب «توحيد البندقية» التي هدفت الى جعل بشير الجميل القائد الوحيد للقرار العسكري ومن ثم السياسي، وادت الى سيطرته الكاملة على «القوات اللبنانية»، الذراع العسكرية لـ«الجبهة اللبنانية»، والى وصوله في النهاية الى سدة الرئاسة الاولى مع الاحتلال الاسرائيل. وفي الوقت ذاته تقريباً كانت المناطق الاخرى تشهد صدامات مسلحة متعددة بين حركة أمل، بزعامة الرئيس حسين الحسيني اولاً ثم برئاسة الاستاذ نبيه بري، وبين فصائل واحزاب الحركة الوطنية والفلسطينيين. واستمرت هذه الحروب الصغيرة قائمة حتى الاجتياح الاسرائيلي الذي أحدث انقلاباً جذرياً في تموضع جميع القوى والاحزاب، وادخل لبنان والحرب فيه الى مرحلة جديدة مختلفة كلياً عن السابق.

الاجتياح ادى الى مفاعيل كبيرة حددت مسار الاحداث اللاحقة في لبنان. فقد تفكك الوجود الفلسطيني وغادرت قوات منظمة التحرير مع قيادة المنظمة بيروت نهائياً وانتهى معها عملياً العامل الفلسطيني الذي حكم التطور السياسي في لبنان لسنوات طويلة، ونشأت المقاومة الوطنية اللبنانية. وترافق ذلك، بشكل يؤشر الى سقوط المشاريع التي كانت قائمة، مع حل الحركة الوطنية وتشتت أحزابها، لحساب انتعاش وتجذر الحالات والتنظيمات الطائفية. كما ادى الاجتياح الى خروج الجيش السوري من معظم المناطق اللبنانية التي كان منتشراً فيها وخصوصاً من بيروت والجبل. وانتشرت «القوات اللبنانية» في مناطق الوجود الاسرائيلي وصولاً الى جزين وشرق صيدا فضلاً عن كل الجبل والمناطق الدرزية فيه. وانتخب بشير الجميل رئيساً للجمهورية.

ومرة جديدة، لم يطل الزمن على هذه المرحلة، اذ سرعان ما ادى مجيء اندروبوف الى رأس الزعامة السوفياتية خلفاً لبريجنيف الى تعويض سوريا خسائرها العسكرية والسياسية في المواجهة مع الاجتياح الاسرائيلي. وتضافرت عوامل الدعم السوفياتي، وتعزيز التحالف الايراني السوري، وتطور عمليات المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال، ورفض القوى السياسية اللبنانية التي تجمعت في منزل الزعيم البيروتي صائب سلام للواقع السياسي الجديد الذي قام بفعل الاحتلال، لتعيد الاعتبار الى توازن بدا لفترة وجيزة وكأنه اختل نهائياً لصالح المشروع الاميركي ـ الاسرائيلي في لبنان.

دماء كثيرة سالت في هذا التحول. اغتيل الرئيس المنتخب بشير الجميل وانتخب اخوه مكانه. حصلت مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا. قامت حرب الجبل. وبدأت اسرائيل تنسحب تدريجياً من الكثير من المناطق التي احتلتها وأولها بيروت. ثم كانت حرب 6 شباط التي فرضت من خلالها القوى المسلحة في غرب بيروت على الجيش اللبناني الانسحاب من المناطق التي انتشر فيها في اعقاب الدخول الاسرائيلي الى العاصمة. ثم تم اسقاط اتفاق السابع عشر من ايار الذي حاولت من خلاله اسرائيل والولايات المتحدة وفشلتا في تكريس نتائج الاجتياح واهدافه. في هذه الاثناء، وبفعل صعود نجم التحالف الايراني ـ السوري، وبفعل انتعاش المشاريع الطائفية من كل جهة في لبنان، اخذ يسطع نجم حزب الله الذي بدأ يتسع وينتشر بدعم سوري كامل ليصبح الحزب الاقوى والاكثر انتشاراً في الطائفة الشيعية، والحزب الابرز والاكثر قدرة في المقاومة ضد اسرائيل، والتي اصبح اسمها المقاومة الاسلامية.

لم يستفد اللبنانيون طبعاً من هذا التحول. لم يكن عندهم مشروع وطني جامع. كانت الصراعات والانقسامات الطائفية والمذهبية تنتشر بينهم كالوباء. وفي تلك المرحلة استمرت الدماء تسيل، وبشكل عبثي، ومن دون اهداف واضحة. عادت الحروب الصغيرة الى داخل المناطق الواحدة : حرب التحرير وحرب الالغاء في المناطق الشرقية بعد بروز ظاهرة العماد ميشال عون، وحرب العلم وحروب التصفية بين «الحزب الاشتراكي» و«حركة امل» و«المرابطون» والشيوعيون.. الى ان اصبح مشروع السلام العربي الاسرائيلي موضوعاً من جانب الولايات المتحدة على نار التنفيذ، وبدأ الاعداد لمؤتمر مدريد، فحل أوان مؤتمر الطائف لوقف الحرب اللبنانية. اذا كان صحيحاً ان اتفاق الطائف هو في الظاهر اتفاق اللاغالب واللامغلوب على الطريقة اللبنانية، الا انه، بنظر المسيحيين اقله، كان اتفاقاً قسرياً في اضعف الاوصاف. ولأن الاتفاق نص على اصلاحات في النظام السياسي، الذي كان قائماً في السابق على اساس امتيازات للمسيحيين وللموارنة تحديداً، فقد وجد فيه المسيحيون سبباً للإحباط الذي دفعهم الى مقاطعة الانتخابات النيابية عام 1992. في هذه الاثناء، كانت ظاهرة العماد عون تنتشر في الوسط المسيحي كالنار في الهشيم. تحول الى الزعيم المنقذ، بعد انهيار بقية المشاريع وسقوط اصحابها. وجاء إسقاطه بالحرب ومن ثم نفيه الى فرنسا ليزيد من هالة حضوره وتكريس ظاهرته كظاهرة مقاومة لـ«مشروع الهيمنة السورية» على لبنان، تماماً مثلما تحول حزب الله، من خلال حصر مشروعه بمقاومة الاحتلال كأولوية مطلقة، الى حزب المقاومة الاول والوحيد الذي تجوز له كل الاستثناءات، بما فيها جواز استمراره بحمل السلاح من دون غيره من القوى.

ان الرعاية العربية للبنان، التي اصبحت بعد الدخول العراقي الى الكويت رعاية سورية بامتياز، تركت المجال مفتوحاً لدمشق لكي تعيد صياغة الوضع اللبناني بما ينسجم مع كامل خطة ومشاريع سوريا في المواجهة مع متطلبات الصراع والتفاوض في المنطقة، بموافقة عربية ودولية استمرت حتى انسحاب اسرائيل من الجنوب اللبناني في العام 2000. وما يحصل اليوم في لبنان هو اسدال الستار على ذلك المجال المفتوح، والذي من خلاله تعيد القوى السياسية اللبنانية تموضعها من جديد، وتتغير طبيعة تحالفاتها، ويجد حزب الله نفسه أمام خيارات صعبة، تفوق بصعوبتها خيارات القوى الاخرى التي ارتبطت بالكامل بالخطط والمشاريع والسياسات التي تطلبها نظام الحمايات السوري اللبناني السابق للقرار 1559، وهو القرار المعبر عن انتهاء مدة تفويض الوصاية على لبنان.