سكان البصرة يتحدثون «همسا» عن مظاهر النفوذ الإيراني في مدينتهم

مساعدات مالية للأحزاب ومعارض كتب وتهريب مخدرات

TT

لمدينة البصرة التي تبعد عن بغداد مسافة 600 كلم جنوبا، وهي ثاني أكبر محافظة بعد العاصمة العراقية، مشكلة تتعلق بالموقع الجغرافي المحاذي لجارتها ايران، هذه المشكلة قائمة سواء في زمن الحرب او السلم.

في سنوات الحرب العراقية ـ الايرانية الثماني كان اهالي هذه المدينة يتعرضون لقصف المدفعية الايرانية من الشاطئ الآخر لشط العرب من مدينة عبادان التي لا يفصلها عن البر العراقي سوى مياه شط العرب. هذه المدفعية التي عبثت بالبشر والابنية من غير ان تفرق بين مدرسة او مسجد او مستشفى او معسكر، في الوقت الذي كان فيه اعلام الجمهورية الاسلامية يحيي اهالي البصرة، الذين نزح غالبيتهم هربا من القصف المدفعي، ويدعوهم للتمرد على النظام.

في حالات السلم تعاني البصرة من تدفق آلاف الايرانيين عليها والذين دخلوها بدون وثائق رسمية لاسباب سياسية ولتأسيس نفوذ للجمهورية الاسلامية واجهزة مخابراتها، وكذلك تدفق اللصوص ومهربي المخدرات التي ينقلونها من افغانستان لتمر في العراق حيث يأخذ العراقيون حصتهم منها قبل ان تصل الى دول الخليج.

وتاريخيا فان ايران وفي عهد شاهها الاول اقتطعت مدينة كبيرة من جسد البصرة تلك هي مدينة المحمرة بعد اختطاف أميرها الشيخ خزعل حيث ما يزال سكان عربستان يتحدثون العربية بلهجة اهالي البصرة. لا يحتاج المتسلل من ايران، سواء كان ايرانيا ام افغانيا او من اية جنسية اخرى، للعبور الى الاراضي العراقية في البصرة، سوى اجتياز حاجز بري بسيط في منطقة الشلامجة، او التوغل بين بساتين النخيل ومن ثم العبور الى الاراضي العراقية. اما نهريا فيكفي عبور نهر شط العرب بواسطة زورق بسيط ليكون في العراق.

يعلق احد مؤرخي البصرة مشاكل مدينته مع ايران على مشجب الجغرافيا، منذ ان أمر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ببناء البصرة.

ويذكر هذا المؤرخ الذي رفض نشر اسمه لاسباب أمنية حكاية طريفة تتعلق بالمشكلة الجغرافية قائلا «يبقى التجاور المكاني للبصرة مع إيران هو قدر البصريين وحكايتهم تشبه الى حد ما حكاية وراق يجاوره من اليمين حداد ومن اليسار نجار، وكانا يزعجانه بضجيج الآلات، واراد ان يتخلص منهما، فجاء الى الحداد وعرض عليه مبلغا من المال ليغادر المكان وفعل الشيء نفسه مع النجار وفي الصباح وجد الوراق ان الحداد انتقل الى دكان النجار وانتقل النجار الى دكان الحداد». وكان الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين قد فكر جديا بحمل مدينة البصرة الى عمق الصحراء وابعادها عن متاخمة ايران وبناء مدينة جديدة كان سيطلق عليها تسمية «صدامية البصرة»، لكن فكرته هذه كانت شبه مستحيلة.

ومدينة البصرة أساسا لم تبن في الموقع الذي هي فيه الآن بل كانت قرب مدينة الزبير. فعندما تقطع مسافة أكثر من 20 كيلومترا من مركز العشار في اتجاه الجنوب ستصل الى بقايا مدينة البصرة التي بناها عتبة بن غزوان بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب لتكون معسكرا للفتوحات الاسلامية باتجاه بلاد فارس، وهي اول حاضرة بنيت في العهد الاسلامي، وما تزال منارة مسجد الامام علي قائمة بين انقاض البصرة القديمة عند مدخل مدينة الزبير الحالية.

ويرى بعض من مواطني المحافظة في أحاديث لـ «الشرق الأوسط» ان التدخل الإيراني في المحافظة قد توزع على اكثر من محور منها معلوم ومتداول بين الناس، فإضافة الى تجارة المخدرات هناك عمليات التهريب وخاصة تهريب النفط الخام ومنتوجاته التي اصبح لها أسواق وعملاء عبر المسالك البرية والبحرية بين الجانبين، واستقبال غنائم السراق واللصوص وخاصة من المواد المعدنية الناتجة عن صهر الكابلات والمحولات الكهربائية والحديد والسيارات والأجهزة وتدفق المتسللين عبر الحدود بحجة زيارة العتبات المقدسة في كربلاء والنجف وتسويق المعلبات النافدة الصلاحية الى الأسواق المحلية، الى جانب محور إنساني تحاول الجهات الايرانية تبرير وجودها من خلاله يتمثل بوضع خزانات للماء العذب في عدة مناطق بالمحافظة على اعتبار ان اهل البصرة يعانون من شحه المياه وارتفاع نسبة الملوحة فيه.

كما تدعم ايران نفوذها من خلال اقامة معارض للكتب بالاشتراك مع جهات محلية، وتضم هذه المعارض مؤلفات وخطبا لآية الله الخميني ورئيس الجمهورية علي خامنئي وكبار المسؤولين الإيرانيين ومباحث في الفقه والتشيع وولاية الفقيه والسير الذاتية لشخصيات سياسية معاصرة مثل كتاب (حياتي) لرفسنجاني وتعلم اللغة الفارسية. ويلاحظ في هذه المعارض غياب الكتب الابداعية مثل دواوين حافظ شيرازي او عمر الخيام او الروايات الفارسية المترجمة للعربية، كما ان اسعار هذه الكتب رمزية وبعضها يوزع مجانا.

ومن ظواهر التدخل الايراني في مدينة البصرة توزيع المساعدات على دور الأيتام والأرامل والمعوزين في محاولة لكسبهم.. فيما يتركز المحور الرئيسي على الدعم اللوجستي والفكري والسياسي لجماعات وأحزاب وتكتلات شبه سياسية.

يقول رجل دين شيعي مستقل من محلة «المشراق» في البصرة القديمة ان «اقطاب الجمهورية الاسلامية الايرانية وخاصة مخابراتهم ورجال الدين يريدون ربط شيعة العراق بهم مع اننا نختلف فقهيا عنهم ولا نؤمن بولاية الفقيه، ثم اننا عرب ونفخر بعروبتنا وبعلاقاتنا الاخوية مع السنة والاكراد والمسيحيين في العراق»، مشيرا الى ان «السلطات الايرانية لها نفوذ واسع في البصرة، فهم يدعمون ماليا وبسخاء أي حركة او حزب شيعي بحجة تشجيع الديمقراطية، لهذا توجد هنا عشرات الاحزاب الشيعية، كما انهم اقاموا ملاجئ للبنات اليتيمات واجبروهن على ارتداء الحجاب (الشادور) الايراني وصاروا يعلموهن اللغة الفارسية بدلا عن العربية. اخشى اننا لن نتحدث العربية في البصرة بل ستكون الفارسية هي لغتنا الرسمية».

ويضيف باحث في مركز دراسات تابع لجامعة البصرة ان «تخصيص حكومة جمهورية ايران الإسلامية مبلغ مليار دولار ضمن مساهمات الدول المانحة لاعادة اعمار العراق ينصب في تنفيذ المشاريع التي يعزز تدخلها في الشأن العراقي، والذي ظهر علنا وعلى رؤوس الأشهاد من خلال تصريحات لكبار المسؤولين الإيرانيين منها: (على ايران ان تزيد من حضورها الفعال في أزمة العراق ولا تخشى ان يعد البعض هذا الحضور تدخلا) و(استعداد ايران الكامل لدعم اية جهة تحارب الشيطان الأكبر في العراق(». الكتابة في البصرة عن موضوع التغلغل الايراني في هذه المدينة يعد من المحرمات، والحديث حوله يتم همسا، وكل من نلتقيه ويدلي برأيه يرفض نشر اسمه لاسباب أمنية.

من ينشر اسمه هنا هم فقط من تحدث ايجابيا عن ايران مثل سالم جابر البطاط، وهو واحد من الآلاف العراقيين الذين عاشوا في إيران لسنوات طويلة وتزوجوا وانجبوا أطفالا ويعانون الآن بعد عودتهم الى ذويهم في البصرة من مشاكل جمة في مقدمتها اللغة العربية والانسجام الاجتماعي ومشكلة الحصول على الجنسية والبطاقة التموينية وغيرها. يقول البطاط «ان التحامل على جمهورية إيران الإسلامية هو امتداد لثقافة النظام السابق، وان إيران تسعى في تعاطفها مع العراقيين لإزالة الظلم الطويل الذي لحق بهم والتخلص من المحتل الأميركي الذي بات في عتبة أبواب إيران، يطرقها كل يوم بنفس اسلوبة المهيمن المعروف»، مؤكدا على ان «التعاطف والمساندة بين أفراد الدين الواحد والطائفة الواحدة امر مشروع وتعمل عليه كل الأديان السماوية وليس الطوائف الإسلامية لوحدها».

ويختلف علي الحسيني في رأيه عن سابقه قائلا ان «أسباب التدخل الإيراني يعود الى رغبة إيران في نقل المعركة مع أميركا الى العراق وإفشال التجربة الأميركية في إحلال الديمقراطية فيه، وبالتالي ستخسر أميركا أي تأييد دولي اذا ما أرادت احتلال ايران ومحاولة الحكومة الايرانية من ايجاد لها قاعدة شعبية في العراق والتخلص من أزماتها الداخلية».

ويروي الحسيني، وهو رجل دين ويدرس في حوزة قم، تجربته في إيران فيقول «عندما أردت العودة الى بلدي من ايران ذهبت الى مكتب الامم المتحدة في الاحواز الذي ابلغني ان عودة العراقيين عن طريقهم متوقفة حتى إشعار اخر، فذهبت بعدها الى الحوزة العلمية في قم وكنت احد منتسبيها وطلبت من القائمين عليها إذنا بالدخول الى العراق، فردوا «اذا أردت العودة بعنوان داعية ومبلغ عن النظام السياسي الايراني وولاية الفقيه فلا توجد مشكلة»، فأجبتهم بالإيجاب بغية الحصول على الموافقة وبذلك تم تزويدي بتصريح الى حدود الشلامجة وعندما وصلت الى منطقة الشلامجة في الجنوب سلمت الكتاب وأذن لي بدخول أراضي بلادي التي كنت محروما منها».

ويتحدث شاكر. ل. سعد،47 عاما، عن الفترة التي امضاها في معسكرات اللاجئين في ايران منذ هروبه وعائلته منطقة من الاهوار الى الحدود الايرانية في اواسط الثمانينات، فيقول «كنا نمضي حياتنا تحت الخيام صيفا وشتاء، محرومين من حق العمل وحريتنا محدودة للغاية، كما ان اطفالنا كانوا محرومين من حق التعلم»، مشيرا الى ان هناك استثناءات «للذين كانوا ينخرطون في فيلق بدر لمقاتلة القوات العراقية، اذ تصرف لهؤلاء رواتب متواضعة ولهم بعض الحقوق والامتيازات التي تمكنهم من العيش بالحدود الدنيا».