تأثير الحرب الحاضرة ـ الغائبة على نتائج الانتخابات لا يزال برسم التكهنات

«حرب توني بلير» على العراق تلاحقه كشبح يصعب الإفلات منه

TT

أربعة أيام في العد التنازلي للانتخابات البريطانية العامة المقررة الخميس المقبل. «الشرق الاوسط» تواصل متابعة الحملة الانتخابية يوماً بيوم حتى نهار الاقتراع وما يليه في حلقات تعرض القضايا الرئيسية التي ستلعب دوراً اساسياً في تحديد خيارات الناخبين المسلمين والعرب وتلقي الضوء على بعض الدوائر ذات الاهمية الخاصة لسبب او آخر، فضلاً عن آفاق التحولات التي ستحدثها الانتخابات على المشهد السياسي الحالي, وهنا الحلقة الاولى: كادت حرب العراق تغيب نهائياً عن الحملة الانتخابية البريطانية في ايامها العشرين الاولى، مما شجع البعض على اعتبارها عديمة الاثر في نتائج الانتخابات العامة. لكن ما أن بدأ العد التنازلي لموعد الاقتراع في الخامس من مايو (أيار) حتى عادت لتفرض نفسها بقوة على الشارع السياسي، فأطلق آخرون العنان لتكهناتهم بأن الحرب ستكون الصخرة التي ستتحطم عليها آمال حزب العمال بولاية جديدة. ومن بين المعطيات التي استند اليها اصحاب هذا الرأي هو ان الحرب تأتي في طليعة القضايا التي تشغل المسلمين البريطانيين (حوالي مليون و700 الف شخص) الذين قد يلعبون دوراً حاسماً في 40 دائرة انتخابية. كان من المتوقع ان يعمد حزبا المعارضة الرئيسيين، المحافظون والديموقراطيون الاحرار، الى إثارة قضية «حرب توني بلير» على العراق ليوم واحد قبل ان يتحولا عنها الى الملفات المحلية. بيد ان الجدال حول نص المشورة القانونية التي قدمها المدعي العام اللورد بيتر غولدسميث للحكومة عشية الحرب، ساعد على جعل المسألة المادة الابرز على اجندة الاسبوع الثالث من الحملة وذلك خلافاً لما جهد «العمال» لتجنبه. والحال أن «الحرب تبدو حاضرة وغائبة في الوقت نفسه» اينما تلفت المراقب، كما قال المحلل جوناثان فريدلاند. صحيح ان استطلاعاً للرأي في صحيفة «ذي غارديان» دل على ان 3 في المائة من الناخبين سيعتمدون الحرب على العراق معياراً يصوتون على اساسه. الا ان هذا كان كغيره من استطلاعات الرأي عبارة عن تكهن حسابي بالمستقبل لا ضمانة لنجاحه. ولئن كانت الحرب قضية تتعلق بالسياسة الخارجية التي لم تكن يوماً كبيرة الاثر لجهة تحديد توجهات الناخبين البريطانيين، فهي «حاضرة» فعلاً بصورة غير مباشرة في ميدان السياسة المحلية. لم يكف شبح الحرب عن ملاحقة بلير في القسط الاكبر من ولايته الثانية التي بدأت 2001. وقد كانت موضوعاً لثلاثة تحقيقات رسمية ابقت جذوة الجدال حول سلامة القرار بشن الغزو لاهبة لاشهر عدة. بيد أن هذا كله لم يفِ بالمطلوب في رأي حزب «الاحرار الديموقراطيين» المعارض، الذي جدد دعوته قبل ايام بفتح تحقيق جديد شامل يكشف خبايا لا تزال محتجبة. وها هو «المحافظون»، اكبر احزاب المعارضة، يبدأ العزف على وتر الحرب من جديد، مع ان نوابه صوتوا لمصلحة قرار الاشتراك بها ولولاهم لما استطاع بلير جر البلاد اليها بهذه السهولة. وحماس الحزبين الرئيسيين في الايام العشرة الاخيرة من المعركة الانتخابية لاستغلال الحرب في المواجهة مع الحزب الحاكم، يعود اساساً الى إدراكهما انها سلاح ماض خصوصاً انه يصلح للاستخدام بطرق مختلفة. الزعيمان المحافظ مايكل هاوارد و«الديمقراطي الحر» تشارلز كينيدي اشارا بوضوح الى ما يأملان به من قضية الحرب، حين اكدا انها معيار لصدق بلير ومدى جدارته بثقة البريطانيين. وذهب الاول الى حد ابعد من الآخر حين اتهم رئيس الوزراء صراحة بـ«الكذب» بخصوص مبررات الحرب, الامر الذي يجعله زعيماً لا يمكن تصديق وعوده في شأن الصحة او الأمن او التعليم... اما كينيدي، فشدد بدوره على هذه الصلة بين التعهدات التي لم يف بها بلير على نفسه في شأن السياسات المحلية وبين تأكيداته التي سرعان ما تخلى عنها حول حيازة صدام اسلحة دمار شامل. ولا ننسى هنا ان الزعيم كان قطع على نفسه وعداً في البرنامج السابق بعدم فرض رسوم مالية جديدة على طلاب الجامعات. غير انه لم يلبث ان «نسي» ذلك، موفراً لخصومه فرصة ذهبية لربط «الكذب» في شأن العراق مع الاخلال بالوعود في الميدان المحلي. وكينيدي لم يقصر اهتمامه على الماضي والحاضر وحدهما، بل اعرب عن قلقه من تكرار «خطأ» الحرب مرة او مرتين او ثلاث مرات في المستقبل. فالقائمة الاميركية للانظمة المرشحة للتغيير، كثيرة على رأسها اسماء مثل ايران وكوريا الشمالية وربما سورية ايضاً. والديمقراطيون الاحرار يرون ان شيئاً لا يضمن عدم استجابة بلير مرة اخرى لرغبة اميركية بإطاحة أحد هذه الانظمة كما فعل مع صدام. والغزو يقلق حزب العمال الحاكم لانه يمثل «الحرب بالنسبة الى البعض وشيئا مختلفا بالنسبة الى البعض الآخر»، كما نسب الى احد الوزراء المقربين من بلير. وإذا كان هناك ناخبون، كالذين شاركوا بتظاهرة المليون، لا يزالون مصممين على «الاقتصاص» من بلير بسبب الحرب وتداعياتها وآخرون يرون فيها مقياساً لجدارته بالثقة، فإن مجموعة ثالثة تجدها دليلاً على تفرغه لبناء امجاده في الميدان الخارجي وذلك على حساب اهتمامه بالملفات المحلية. ولسوء حظ الحزب الحاكم، يتوزع افراد هذه الفئة على دوائر في شمال انجلترا المعروفة بولائها التاريخي للعمال. وربما كانت الحرب سبباً مباشراً لنقمة قلة من الناخبين، كما اظهرت استطلاعات للرأي، لكن ثمة احتمالات بتعاظم عدد اولئك الذين يأخذونها دليلاً جديداً على عدم جدارته بالثقة أو لسعيه الحثيث الى «دخول التاريخ» من باب الازمات العالمية، مثلما اتهمته وزيرة التنمية الدولية السابقة كلير شورت. وثمة احداث ملموسة تؤكد ان هذه المواقف منفردة او مجتمعة تجعل الحرب عاملا لا يستهان بأثره في الانتخابات. وكان من المستبعد ان ينجح العام الماضي حزب الديمقراطيين الاحرار الذي عارض الحرب بقوة في تسجيل إصابات مباشرة ضد العمال لولا العراق. فقد انتزع مرشحاه في انتخابات استثنائية مقعدين من «العمال»، احدهما في شمال غربي لندن والآخر في مقاطعة ليستر وسط البلاد. وكاد مرشح ثالث للحزب ذاته ان يحرم الحزب الحاكم من مقعد آخر في دائرة تابعة لمدينة برمنغهام وسط انجلترا. والادهى ان هذه المقاعد في دوائر كانت تعتبر على الدوام من معاقل الحزب الحاكم.

قد يكون أثر الحرب على الخيارات الانتخابية للبريطانيين ذوي البشرة البيضاء موضع تكهنات، لاسيما ان مواقف غالبيتهم من الغزو قابلة للتصنيف في خانة اللامبالاة. والارجح ان تأثيرها سيكون أقوى على من يسمون بـ«الناخبين المتذبذبين» الذين لا يحسمون امرهم حتى يوم الاقتراع. بيد ان دورها في تحديد اولويات الناخب المسلم المقبل من باكستان وبنغلاديش والهند الخ لا يقبل الكثير من الجدل. ولعل النصر الذي حققه الديمقراطيون الاحرار في ليستر وبرمنغهام وشمال غربي لندن، يعود في جانب اساسي منه الى الكتلة المسلمة في كل من هذه الدوائر. ولعل هذا هو سبب حرص عدد من المرشحين العماليين، خصوصاً في دوائر يكثر فيها المسلمون، الى الاعلان بالخط العريض انهم عارضوا قرار جر البلاد الى الحرب. وكان من الطريف ان يضطر وزير الخارجية جاك سترو، الذي يعد احد مهندسي الدور البريطاني في الحرب على العراق، الى التعويل على سلفه روبن كوك لاستمالة الناخبين المسلمين في دائرته بلاكبيرن بشمال انجلترا. ويُشار الى ان كوك قد استقال من الوزارة احتجاجاً على قرار المشاركة بالحرب. لكن «وحدة الصف» التي هيأت للناخبين المسلمين في هذه الدوائر «معاقبة» بلير بسبب الحرب، قد لا تتحقق لهم مرة أخرى. وبوادر التصدع في الوحدة الهشة التي جمعتهم، بدت تلوح للعيان قبل اشهر. وعدا ان هناك بين الاسلاميين المتشددين من «يشجب» المشاركة في الانتخابات معتبراً انها من قبيل الكفر، تكبر الفجوة أو تصغر بين هذا الفصيل او ذاك في عدد من الدوائر التي يشكل المسلمون فيها قوة ضاربة. واللافت مثلاً أن الصراع الحقيقي في هذه الدوائر يدور بين مرشحين مسلمين، الامر الذي يهدد بشق وحدة الصف وتوزع الاصوات المعارضة للحرب بين عدد من الاحزاب تصبح معه الكتلة المسلمة ضعيفة يكاد تأثيرها على نتائج الانتخابات يكون معدوماً. والمفارقة انهم حين يختلفون فيما بينهم، كما في دائرة بيثنال غرين بشرق لندن، فقد ينتهي الامر بهم جميعاً الى الخسارة وترك الباب مفتوحاً لمرشح آخر بالوصول الى مجلس العموم.