زهرة «النيل» تفك لغز الجثث في دجلة ... وسكان المدائن يستغربون إضفاء طابع طائفي على عمل إرهابي

«الشرق الاوسط» تزور البلدة التي تحتفظ بآثار قصر كسرى

TT

هذه الحواجز التي أقامتها وزارة الري العراقية في نهر دجلة غير بعيدة عن بلدة المدائن (سلمان باك) إلى الجنوب من بغداد منعا لانتشار زهرة النيل التي كشفت السر. فمن دون هذه الحواجز ربما لم يكن في مقدور الرائد نبيل غانم ان يقف طويلا عند جسر الدريعية ليكتشف بمساعدة تلك الزهرة الخضراء عددا من الجثث التي أوقفت الحواجز سيرها جنوبا بفعل حركة النهر وجرى انتشالها من قبل قوات لواء الكرار التي يقودها العميد الركن محمد صبري لطيف القريشي الذي اقتحم البلدة بعد ورود أنباء عن عمليات خطف ليكون القائد العسكري لها ولحد الآن.

«الشرق الأوسط» شهدت نقل بعض جثث الضحايا إلى مستشفى البلدة، وكان بينهم طفل صغير، بينما ما زالت عمليات بحث مستمرة عن جثث أخرى ربما استقرت في قعر النهر بعد ان تم اكتشاف أربع جثث دفنت على الشاطئ وقام بالإخبار عنها صاحب قارب صغير يعرف محليا باسم (بلم). اثنتان من هذه الجثث تعود لامرأتين اغتصبتا حسب قول العميد القريشي الذي لم يشأ ان يتركنا منفردين طيلة رحلتنا داخل المدينة التي دخلناها عبر منطقة الزعفرانية ثم بلدية ناحية الجسر ثم منطقة التويثة لنجد، قبل اللقاء برئيس البلدية. إنهم يتحدثون أحيانا بألم وأحيانا أخرى باستهزاء عن بعض ما تردده وسائل الإعلام عن وجود بوادر حرب طائفية في هذه البلدة السياحية التي تضم آثار احد قصور كسرى، إمبراطور فارس.

يشرح احد أصحاب المحال التجارية ان الذي حصل هو ان المدينة غابت عنها الدولة فترة طويلة ولم يكن هناك مسؤول إداري أو مركز للشرطة إضافة إلى ان المدينة المحاذية لنهر دجلة تعد مفرق طرق إلى أربع مدن رئيسية هي العاصمة بغداد والكوت والحلة وبعقوبة، وهذا الأمر يجعلها عرضة لدخول أي شخص من هذه المدن. كما ان المدينة تحيط بها البساتين من كل جانب وهذا يزيد من الأمر سوءا.

يقول الرجل «كل ما حصل هو ان بعض الملثمين داروا في المدينة وقاموا بعمليات خطف وسلب من دون الإشارة إلى ان هذا سني وهذا شيعي، فالمسألة الطائفية لن تنجح هنا مطلقا لان اغلب العوائل أقارب، وهم من الشيعة والسنة على السواء. بعض الملثمين كانوا من المدينة وبعضهم جاء من خارجها وقاموا بتلك العمليات التي لم تستمر طويلا». وقالت سيدة مسنة من سكان المنطقة «عندما دخل الجيش العراقي شعرنا بالأمن والأمان لان غيابهما جعل البعض يستغل الفرصة ويؤذي أبناء المدينة».

عندما دخلنا المدينة وجدنا أيضا ان المحال مفتوحة الأبواب والبضائع معروضة فيها وان كانت مداخل المدينة توحي بفقر أهلها المدقع الذي جعل الكثير منهم يبحث عن فرص عمل في أماكن أخرى حسبما أشار لنا الكثير منهم. لكن مناطق الخطر كانت ابعد من ذلك وبالقرب من الأماكن المترفة التي كان يتخذها بعض الأشخاص من النظام السابق مكانا لقضاء أوقات ممتعة بعيدا عن صخب المدينة، ومن تلك الأماكن التي تقع على نهر دجلة الدريعية والخناسة واللج والتي تؤدي إلى منطقة الصويرة.

في جولة اكتشاف الجثث أوضح لنا العميد الركن القريشي ان هناك مواضع عسكرية حفرت حديثا بين هذه المناطق وبالقرب من هذه البيوت التي بدت لنا فارهة وان كان أصحابها لا يوحون بذلك. وقال العميد القريشي ان دخول القوات العراقية إلى المدينة «كان يسيرا وبدون مقاومة لان الذي حصل هو وجود بعض الخاطفين الذين قاموا بعمليات إرهابية وتم إلقاء القبض على تسعة منهم وجميعهم من العراقيين وسلموا إلى وزارة الداخلية ببغداد، كما تم العثور على مخازن للأسلحة تم تفجيرها مباشرة وكذلك عثرنا على موقع لأحد الأشخاص العراقيين الذين يسكنون في الخارج الآن واتخذ هذا الموقع لتعذيب المخطوفين، وقد عثرنا في هذا البيت على أثاث وتحف تقدر بملايين الدولارات».

وعن عمليات المداهمة داخل المدينة قال القريشي انها «تتم بناء على معلومات من داخل المدينة، وفعلا قمنا بمداهمات لبعض المناطق من اجل الوصول إلى كل الحقائق».

وحول هذا الأمر أيضا قال رئيس البلدية سعد هاشم الدليمي ان مجلس البلدية شكل لجانا لتعويض المتضررين من المداهمات وتعويضهم إذا ما كانت هناك أضرار تذكر، وأشار إلى ان الأوضاع في المدينة مستقرة الآن وان انفتاح المدينة وامتدادات نهر دجلة ربما أوقع المدينة في مطب تلك الجثث. وهذا الأمر عكس ما أشار له القائد العسكري للمدينة الذي أكد ان إحدى الجثث التي شاهدناها هي لواحد من أهالي المدينة وان كان الأمر لم يكن بالصورة التي تناقلتها وسائل الإعلام باعتباره قضية بين الشيعة والسنة، بل ان هناك إرهابيين من داخل المدينة وخارجها هم من قام بهذا العمل.

من جانبه أكد الدكتور حسن الشمري مدير مستشفى المدائن، ان الجثث التي تسلمها المستشفى هي لأشخاص ربما فارقوا الحياة منذ حوالي الشهر، وهو ما يمكن ان تقطع به الأجهزة الطبية عند التشريح، وأشار إلى ان الجثث كانت معصوبة الأعين وموثقة الأيدي وقد تعرضت للضرب ولإطلاق الرصاص من الخلف.

ورفض العقيد عماد إسماعيل مدير شرطة قضاء المدائن الحديث او الإجابة عن أسئلتنا إلا بعد الحصول على موافقة من الداخلية العراقية، فيما أبدى أفراد طاقمه المنتشر في أرجاء المدينة تعاونا في الاطلاع على طبيعة العلاقة بينهم وبين المواطنين. وقد ابلغنا احد أفراد الشرطة ان هناك متطوعين من المدينة سيباشرون عملهم قريبا جدا وسيتم إنشاء مراكز للشرطة والجيش للحفاظ على أمن المدينة.

وأثناء جولتنا التي دامت أكثر من خمس ساعات استقبلنا فيها أفراد الحرس الوطني والمغاوير بالأهازيج لمسنا ان أهالي المدينة سعداء بوجود هذه القوات التي توفر لهم الأمن وتمنى الكثير منهم السيطرة على منافذ المدينة التي تجلب لهم الموت في أحيان كثيرة خصوصا ان هذه المنافذ جعلت السيارات المفخخة تدخل إليهم وتقتل الأبرياء، وان هناك سيارات أخرى تم الإخبار عنها جرى التخطيط لإدخالها إلى المدينة حسبما أشار لنا مصدر مسؤول من داخل المدينة التي أوثقت على ما يبدو حزامها الأمني بينما غادرتها «الشرق الأوسط» عائدة إلى بغداد.