بوتفليقة يطلب من فرنسا الاعتراف بـ«جرائمها» وبارنييه يدعو إلى «تجاوز الصفحات الأليمة»

في الذكرى الـ60 لمجازر 8 مايو 1945

TT

طلبت السلطات الجزائرية من الحكومة الفرنسية تقديم اعتذار رسمي عن «الجرائم» التي اقترفتها خلال فترة استعمارها الجزائر (1830 ـ 1962)، لإعادة بناء علاقات ثنائية تقوم على أسس صحيحة خالية من الضغائن. وجاء هذا الطلب على لسان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بمناسبة الذكرى الـ60 لمجازر مايو (ايار) 1945 التي راح ضحيتها 45 ألف جزائري على أيدي الجيش الفرنسي آنذاك.

وقال بوتفليقة في خطاب أول من أمس، ان الجزائر «تريد مواجهة الماضي الذي كنا أحد ضحاياه، ونريد أن يتجاوزه الآخرون (فرنسا) بمواجهة الحقيقة بشجاعة ومسؤولية لا بالهرولة نحو المجهول». وعلق الرئيس على الزيارة التي قام بها السفير الفرنسي بالجزائر للمنطقة التي كانت مسرحا لمذابح 8 مايو قبل شهرين، حيث قال: «العبارات التي قالها السفير يشتم منها محاولة التكفير عن سيئات من أمروا ومن نفذوا مجازر 8 مايو، لكن الشعب الجزائري ما زال ينتظر من فرنسا أن تعترف بما جرى في فترة الاحتلال، لتنفتح آفاقا واسعة وجديدة للصداقة والتعاون. وليس الطلب بغريب ولا هو بمعجز، ففرنسا ذاتها اعتذرت على لسان فخامة الرئيس جاك شيراك، عن تجاوزات الدولة الفرنسية أثناء فترة فيشي المشؤومة».

ويرى بوتفليقة أن «الرؤية التصالحية (مع فرنسا) في بعدها الاستشرافي المستقبلي الشامل، تقوم على تصفية التاريخ من الاستعمار بعد تصفية الأرض من الاحتلال المباشر».

وقد وقعت مجازر 8 مايو 1945، عندما خرج مئات الآلاف من الجزائريين في مدن تقع شرق البلاد، في مظاهرات لمطالبة فرنسا بالوفاء بالتزاماتها تجاه الجزائر، عندما واعدت الجزائريين بمنحهم الاستقلال في حالة انخراطهم في الحرب ضد ألمانيا النازية، غير انها نكصت الوعد، مما دفع بآلاف الجزائريين للخروج الى الشوارع، خاصة فى مدن اسطيف وقالمة وخراطة، للتعبير عن غضبهم الشديد من التراجع الفرنسى عن الوعد، لكن الجيش الفرنسى واجه المتظاهرين بالذخيرة الحية وقتل 45 ألف شخص، في مشهد دموي ما تزال ذاكرة الأرشيف الفرنسي تحمله بكل بشاعة، وهي الصور التي لا تزال تعرض لحد الآن عبر التلفزيونين الفرنسي والجزائري على حد السواء في العديد من المناسبات.

وذكر وزير الشؤون الدينية أبو عبد الله غلام الله أمس، أن «الضمائر التي تعذبت يصعب عليها أن تضرب صفحا عن الظالم، إذ لا يمكن أن نبدأ صفحة جديدة مع فرنسا إذا لم تقم بالاعتذار». ويعد الطلب الذي رفعه بوتفليقة لفرنسا سابقة، بحيث لم يحدث أن طرحت الجزائر علاقاتها مع فرنسا، في جانبها التاريخي، بهذه الحدة، مع أن العلاقات الاقتصادية والحوار السياسي بين الدولتين عرفا تطورا إيجابيا منذ مجيء بوتفليقة إلى الحكم في ربيع 1999. وجاء الطلب استجابة لنداء قطاع واسع من المثقفين والمؤرخين والجمعيات والمنظمات في الجزائر، التي دعت إلى الضغط على فرنسا لكي تعترف بمجازرها قبل التوقيع على معاهدة الصداقة المرتقبة في ديسمبر (كانون الأول) المقبل. وقال عبد العزيز بلخادم، وزير الدولة ممثل الرئيس بوتفليقة، قبل أيام، إن المعاهدة تتناول «واجب الحفاظ على الذاكرة» كخطوة ضرورية لإعادة بناء العلاقات الثنائية.

ومن جهته، قال وزير خارجية فرنسا، ميشال بارنييه، لصحيفة «الوطن» الجزائرية أمس، إن البلدين مدعوان لمعالجة الماضي لتجاوز الصفحات الأليمة، واعتبر ذلك ضروريا لبناء مستقبل مشترك. وأوضح بارنييه أن فرنسا «تشجع المؤرخين في كلتا الجهتين للعمل سويا وبجدية حول تاريخنا المشترك». وظلت فرنسا سنوات طويلة تسمي الثورة الجزائرية (1954 ـ 1962)، «أحداث الجزائر»، وتحت ضغط قطاع من المجتمع المدني الفرنسي، عوّض برلمانها هذه التسمية بـ«حرب الجزائر» عام 2001، وهو ما اعتبره البعض بداية الاعتراف بالجرائم الفرنسية في الجزائر.

وفى هذا السياق، أحيا الجزائريون أمس أحداث هذه الذكرى الأليمة في عاصمة الهضاب العليا مدينة سطيف بشرق الجزائر، التى تعرضت للقسط الأكبر من تلك الاغتيالات الجماعية فى الثامن من مايو (ايار) 1945. وشارك آلاف الاشخاص في مسيرة سلكت الطريق نفسها التي سلكها المتظاهرون قبل ستين سنة، مطالبين باستقلال الجزائر انذاك. وتوقف المشاركون في المسيرة في المكان الذي سقط فيه اول قتيل وهو أحد شبان الكشافة الجزائرية يسمى بوزيد سعال بحضور وزيري التشغيل والتضامن الوطني جمال ولد عباس والشباب والرياضة يحيى قيدوم.

وبعد ان ساروا في شارع الثامن من مايو حيث رفعت عدة لافتات تقول: «الثامن من مايو 45: جريمة ضد الانسانية وبداية نهاية القوات الاستعمارية»، تجمع المتظاهرون امام منبع «عين الفوارة» التي تعتبر رمز المدينة. وفي السابع والعشرين من فبراير (شباط)، وفي مبادرة غير معهودة، انحنى سفير فرنسا في الجزائر هوبير كولان دي فيرديار في المكان نفسه، الذي سقط فيه اول متظاهر امام ضحايا المذبحة التي قال انها «مأساة لا تغتفر». وأعرب السفير عن الأسف لأن «هوة من انعدام التفاهم بين المجموعتين» الجزائرية والفرنسية أدت «الى هذا التسلسل واجواء الخوف والتظاهرات والقمع والاغتيالات والمذابح». واشاد دو فيرديار امس بصانعي الانتصار على ألمانيا النازية في الثامن من مايو 1945، مكرما في الوقت نفسه ذكرى آلاف الجزائريين، الذين قتلوا بعد ذلك اليوم في حملة القمع الدامية للتظاهرات المطالبة بالاستقلال. وقال امام العاملين في السفارة المجتمعين بمناسبة ذكرى انتهاء الحرب العالمية الثانية: «دعونا نبقي ذكرى جميع الضحايا ماثلة في اذهاننا، في مسعى متشدد وبالتالي مصمم، من اجل الحقيقة».

وتناضل مؤسسة الثامن من مايو 1945 التي أسسها الوزير السابق بشير بومعزة في 1990 من اجل الاعتراف بهذه الاحداث، على انها «جرائم حرب» و«جرائم ضد الانسانية».

وأعرب رئيسها محمد الكورسو في مقابلة مع وكالة الصحافة الفرنسية الاربعاء، عن الامل في ان تقدم فرنسا «الاعتذار» لمسؤوليتها في هذه المذابح. ويقول المؤرخون الجزائريون ان 45 الف قتيل سقطوا في هذا اليوم بسطيف ومنطقتها، بينما تعتبر المصادر الفرنسية ان عددهم يتراوح ما بين 15 و20 ألفا بمن فيهم 103 أوروبيين.

من جهة أخرى، شرع وفد من منظمة العفو الدولية (أمنيستي إنترناشيونال) في مهمة استعلامية بالجزائر أمس، حيث ينتظر أن يجري اتصالات ومقابلات، مع السلطات وتنظيمات المفقودين وعائلات ضحايا الإرهاب وعائلات المختطفين من طرف الإرهابيين، وأفراد الجماعات المسلحة الذين وضعوا السلاح منذ سنوات، ومنظمات حقوق الإنسان. ونزل الوفد المكون من شخصين، إلى الميدان بعيدا عن أضواء الصحافة وينتظر أن تدوم المهمة 15 يوما، يزور خلالها المناطق التي ضربها الإرهاب ويستفسر عن حالة الطوارئ التي تدوم منذ مطلع عام 1992 وأوضاع الحريات السياسية والنقابية في ظلها. لكن الملف الذي يثير اهتمام المنظمة الدولية غير الحكومية، هو ملف الاختفاءات القسرية الذي فتحه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لمعالجته، وأفضت التحريات بشأنه إلى أن قوات الأمن مسؤولة فرديا عن اختطاف 6146 شخصا في فترة التسعينات. وذكرت مصادر من «الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان» لـ«الشرق الأوسط»، أن وفد منظمة العفو الدولية طلب لقاء قطاع من عائلات المفقودين يرفض مبدأ التعويض المادي ويطالب بالقصاص من المتورطين في الاختفاء القسري، وطلب أيضا مقابلة فريق ذوي المفقودين الذي رحب بمبدأ «عفا الله عما سلف»، تماشيا مع مشروع المصالحة الوطنية الذي يسعى بوتفليقة إلى تجسيده لاقتلاع جذور الأزمة الأمنية. وستلتقي بعثة «أمنيستي» مع «جمعية صمود» التي تضم أسر الذين اختطفهم وقتلهم أفراد الجماعات المسلحة. وقال رئيس الجمعية علي المرابط للصحافة، إن عائلات كل المفقودين أعدوا تقريرا مفصلا يحمل مطالبهم ومسار قضيتهم، لرفعه إلى أعضاء «العفو الدولية»، الذين سيسمعون من وزير الداخلية يزيد زرهوني، أسباب تمسكه بحالة الطوارئ. وتسعى بعض الأحزاب والمنظمات ومحامون إلى إلغاء قانون حالة الطوارئ، لكن الحكومة رفضت مرارا الطلب بدعوى أن الوضع الأمني لم يتحسن بعد. وظلت السلطات الجزائرية، ترفض لسنوات طويلة طلب زيارة الجزائر قدمته «أمنيستي» ومنظمات حقوقية عديدة، على أساس أنها «تخدم مصلحة الجماعات الإرهابية». وكانت منظمة العفو والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان و«هيومن رايتس ووتش»، قد انتقدت الشهر الماضي بشدة مبدأ العفو، وقالت انه «يحرم الضحايا وعائلاتهم بصورة نهائية من حقهم في الكشف عن الحقيقة وفي إقامة العدل والإنصاف».