المصادقة على الدستور الأوروبي: «هبة باردة وأخرى ساخنة» تهب على الفرنسيين

حملات الإقناع والتخويف لم تفلح لتغيير آرائهم.. وآخر الاستطلاعات يشير إلى الرفض

TT

«هبة باردة، هبة ساخنة».. هكذا يمكن اختصار الحملة الفرنسية للتصديق على الدستور الأوروبي. فقبل عشرة أيام فقط على موعد الاستفتاء الذي سيجري في 29 من الشهر الجاري، وبعد أكثر من اسبوعين من «التفاؤل» بنتائج الاستفتاء وفق ما بينته استطلاعات الرأي، انقلبت توجهات الرأي العام مجددا. وبحسب أربعة استطلاعات للرأي نشرت نتائجها منذ السبت الماضي، فإن معسكر الرافضين للدستور الأوروبي عاد ليتفوق على الداعين الى التصديق عليه. ويظهر آخر استطلاع أجرته مؤسسة «أس.أو.أف.أر.آي.أس» لمصلحة القناة الإخبارية وصحيفة «لوموند» أن 53 بالمائة من العينة المستفتاة الممثلة للناخبين الفرنسيين أكدت انها ستصوت ضد الدستور. وتمثل هذه النسبة زيادة 5 نقاط قياسا بالاستفتاء السابق. وتظهر الاستطلاعات الأخرى تفوقا إضافيا لمعسكر الرفض إذ حصل في استطلاع مؤسسة «إيفوب» الذي نشرت نتائجه السبت الماضي على 54 بالمائة من الأصوات. وتبين كل الاستطلاعات تقدم نسب الرافضين يمينا ويسارا على السواء إلا أن اعلى نسبة للرفض توجد في اوساط المزارعين حيث تزيد على 60 بالمائة. والعامل المقلق الآخر يتمثل في تراجع نسبة التأييد لمعسكر الرفض في أوساط الحزب الإشتراكي الفرنسي الذي يعاني من أخطر أزمة سياسية قد تودي به عقب الاستفتاء. وفيما يدعم الخط الرسمي للحزب ممثلا بأمينه العام فرنسوا هولند التصديق على الدستور، يعارضه تيار واسع داخل المحازبين داخل القيادة. ويمثل رئيس الوزراء السابق لوران فابيوس، الرجل الثاني في الحزب، رأس حربة الرفض وهو يحظى بدعم العشرات من نواب الحزب وكادراته العليا. و«يتمنى» 44 بالمائة من الفرنسيين فشل الاستفتاء فيما يتمنى 39 بالمائة منهم نجاحه.

وقبل عشرة أيام من موعد الاستفتاء، تبدو صورة الموقف على الشكل التالي: الحزبان الرئيسيان في فرنسا اي الحزب «الرئاسي» الاتحاد من أجل حركة شعبية، والحزب الاشتراكي، يقفان رسميا الى جانب الدستور مع وجود أقلية غير مؤثرة داخل التجمع وأقلية نشطة متنامية داخل الحزب الاشتراكي ضد الدستور. ويضاف الى معسكر المؤيدين حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية الفرنسية الذي يرأسه فرنسوا بيرو. وما عدا ذلك، فالأحزاب الأخرى من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، بما فيها اليمين المتطرف، تشكل جبهة الرفض التي يجمع بينها فقط العداء للدستور ولكن لأسباب متباينة تماما، فبينما يرى اليساريون أن الدستور الجديد يطيح بالنظام الاجتماعي الفرنسي وبالمكتسبات النقابية ويفتح الباب أمام الليبرالية «المتوحشة» على الصعيد الأوروبي، يندد اليمين واليمين المتطرف بالتخلي عن السيادة الوطنية وعن الهوية الفرنسية وخلافها.

وحتى الآن لم تنجح حملة «التخويف» الحكومية والسياسية من دفع الناخبين الى تغيير مواقفهم. وآخر من لجأ الى هذا الأسلوب رئيس الحكومة جان بيار رافاران الذي حذر مواطنيه من أن عدم التصديق سيقود الى أزمة سياسية واقتصادية على المستوى الأوروبي. وقال رافاران ليل أول من أمس في تجمع كبير في مدينة بوردو إن «الصدمة السياسية (الناتجة عن عدم التصديق على الدستور) ستترجم بالفوضى، بينما ستترافق الازمة السياسية بأزمة اقتصادية». وشدد رافاران على غياب «خطة بديلة» يمكن اللجوء اليها في حال رفْض الفرنسيين التصديق على الدستور. ويرى أنه لو أعيد النظر بالدستور «بعد عشر سنوات أو أكثر» فإن باريس «ستكون في موقف ضعيف» إزاء الأوروبيين.

وما يقوله رافاران ليس فقط من باب التهويل، فالبناء الأوروبي قام أساسا على التعاون الوثيق بين ألمانيا وفرنسا، والرفض الفرنسي سيضع الحكومة في موقف صعب وهش إزاء شركائها في الإتحاد ناهيك من أنه سيجمد العمل بالدستور بحيث لن يفيد تصديقه في الدول الأخرى. ويتحمل الرئيس شيراك الذي يلتقي اليوم في مدينة نانسي (شرق فرنسا) المستشار الألماني غيرهارد شرودر والرئيس البولندي كواسنيفسكي في إطار «مثلث وايمر»، جانبا كبيرا من المسؤولية. فقد اختار الاستفتاء بدل التصديق على الدستور في البرلمان الفرنسي، بمجلسيه النواب والشيوخ، لإحداث شرخ داخل الحزب الإشتراكي. وإذا كانت خطته قد نجحت الى أبعد الحدود، إلا أنه سيكون هو شخصيا ومعه فرنسا الخاسر الأكبر.

ومنذ الآن، بدأ السياسيون الفرنسيون برسم سيناريوهات ما بعد الاستفتاء وما سيترتب عليه من تغيير حكومي والإتيان بفريق جديد يتيح لشيراك إنجاز السنتين الأخيرتين من ولايته في ظروف مقبولة. وحتى الآن تبرز ثلاثة أسماء لخلافة رافاران إذا ما أراد شيراك تغييره وهي: دومينيك دو فيلبان (وزير الداخلية) وميشال أليو ماري (وزيرة الدفاع) وجان لوي بورلو (وزير الشؤون الإجتماعية). لكن الرئيس الفرنسي، الشهير بقدراته على المناورة، يمكن أن يخرج فلتة شوط من جعبته. وفي هذا المضمار فإن المراهنات كثيرة والطامحين كثر أيضا. ش