كبير عائلة الحناشات: سرعة وعدالة القضاء حسمتا قبولنا لعملية الصلح ثمن الصلح مليونا جنيه دية وطريق خاص ومشيخة وإنشاء مدرسة تعليمية

«الشرق الاوسط» في بيت علام بسوهاج مركز الخصومة الثأرية بمصر

TT

معجزة حقيقية تلك التي حدثت أول من أمس بين عائلتي الحناشات وعبد الحليم، اللتين يسكن جميع أفرادهما في قرية بيت علام التابعة لمركز البلينا بمحافظة سوهاج جنوب مصر. هكذا بدأ حشمت أبو الخير، عضو مجلس الشورى وأحد رعاة الصلح بين العائلتين، حديثه مع «الشرق الأوسط». وأضاف: «لقد مكثنا عامين في محاولات لإقناع عائلة الحناشات بالصلح، كانت جلساتنا معهم تستمر كل يوم حتى الفجر من دون أن نصل إلى حل، ولكننا لم نيأس». ويشرح أبو الخير السبب وراء عدم يأس الاشخاص الثلاثة الذين تدخلوا في عملية الصلح منذ بدايتها وحتى النهاية، وهم: الدكتور خليفة رضوان، والعمدة زكي الدين، بالإضافة إليه، قائلا: «كان أمامنا أحد حلين، إما أن نترك هذا البلد ليخرب عن بكرة أبيه، أو نستميت في هذا الصلح حتى إتمامه».

فالحدث كان مروعا والجريمة كانت نكراء، وقد اتفق الجميع على أنها تجاوزت كل قواعد الثأر المتعارف عليها في الصعيد.

البداية 1991: يلتقط الخيط عبد الحميد أبو حنيش، كبير عائلة الحناشات، التي قتل منها اثنان وعشرون رجلا دفعة واحدة في أغسطس (اب) عام 2002، ليقول: «البداية كانت عام 1991، عندما قتل أحد أفراد عائلة عبد الحليم، المرحوم محمد يوسف، وظل الوضع على ما هو عليه حتى عام 2002، عندما قتل كبير عائلة عبد الحليم، الحاج همام عبد الرحيم. هنا بدأت الأزمة الحقيقية بيننا وبين عائلة عبد الحليم، فقد كمن لنا عدد منهم في أغسطس من نفس العام عندما كان بعضنا في طريقه لمتابعة محاكمة الرجلين اللذين اتهما في قتل الحاج همام، فقتلوا اثنين وعشرين شخصا».

ويكمل وجيه ابو حنيش، أحد كبار عائلة الحناشات، الذين حضروا الصلح: «ان الله وحده هو الذي تدخل لإنهاء هذه المأساة، فقد حاصرت الشرطة القرية لمدة طويلة، كان أغلب أعضاء عائلة عبد الحليم غير موجودين في القرية وقتها، وظلوا هكذا لفترة طويلة». وأضاف ان «سرعة إصدار القضاء لحكمه على منفذي هذه الجريمة البشعة، برّد قليلا من النار التي كانت متوهجة في صدورنا، فلقد تمت الجريمة في أغسطس عام 2002، وحكم على ستة من عائلة عبد الحليم بالإعدام، بالإضافة إلى الحكم بالمؤبد على عشرة آخرين في مايو (أيار) 2003، أي بعد الحادثة بثمانية أشهر فقط». ويشير وجيه إلى أن هذا الحكم كان له أثره الكبير في نفوس العائلة، «وهو ما جعلنا في النهاية، خاصة بعد الانتهاء من تنفيذ حكم الإعدام وعدم قبول النقض، ننزع جميعا لفكرة الصلح».

ويعود حشمت أبو الخير ليؤكد على أن الخيار الوحيد الذي كان مطروحا أمام وسطاء الصلح الثلاثة، هو تنفيذ كل مطالب الجهة صاحبة الحق وهى عائلة الحناشات. ويضيف: «ارتضينا أن ننفذ الشقين الشرعي والعرفي الخاصين بمطالب عائلة الحناشات، وتولت هيئة الإفتاء الجزء الشرعى (فيما يتعلق بتحديد قيمة الدية، حيث حددتها بمليوني جنيه)، وتولينا نحن الجزء العرفي، وهو عملية «القود» أو «الجود» (وهو أن يقوم القاتل بحمل كفنه على يده لتقديمه لولي الدم) بحضور أهل القرية ورعاة عملية الصلح».

يقول وجيه أبو حنيش إن السلطات الأمنية أخذت تعهدات موقعة من كافة أطراف العائلتين للقبول بأي حكم تحكم به هيئة الإفتاء قبل إرسال الأوراق إليها. ويكمل: «ان هذا الصلح أزال غيمة كبيرة من الحقد والحزن كانت تخيم على ميت علام بالكامل». وأكد أن «منع الاحتكاك ومراعاة كافة الأطراف لتصرفاتها بما لا يمثل إهانة من طرف للطرف الآخر، هو ما سيحفظ لهذا الصلح عافيته واستمراره».

ومن جانبه، قال أبو الخير، عضو مجلس الشورى الذي رعى الحوار، إن الدولة وافقت على عدة طلبات لعائلة الحناشات لمنع مثل هذه الاحتكاكات التي أشار إليها وجيه منها: إنشاء طريق خاص (بحري البلد) بخلاف الطريق الاساسى الذي كان يستخدمه أفراد عائلة الحناشات فقط، وكذا بناء مدرسة للمرحلتين، التعليم الأساسي والتعليم الإعدادي، خاصة بأبنائهم، ومشيخة، بعيدا عن المشيخة التي تضم عائلة عبد الحليم، يمارسون من خلالها كل المسائل الخاصة بالانتخابات وإدارة العلاقة مع الدولة.

والجدير بالذكر أن ظاهرة الثأر في انحسار مستمر في مصر، فلم تشهد السنوات العشر الأخيرة في محافظة سوهاج، على سبيل المثال، وهي أكثر المحافظات تعرضا لهذه الظاهرة، سوى سبع عشرة حالة، مقابل مائة حالة كل عام في مرحلة الستينات والسبعينات من القرن الماضى.

ويأتي دائما القتل العمد كسبب مباشر لعملية الثأر في الصعيد، والذي غالبا ما ينتج عن أسباب قد تكون شخصية أو جماعية، مثل الخلاف على قطعة أرض، أو حدود بين عائلتين في السكن أو الأرض الزراعية، أو شجار بين أطفال في القرية، أو خلاف مالي بين شخصين على جنيهات قليلة.

فيتجاوز حدود الخلاف العادي إلى استخدام القوة والعنف وصولا إلى عمليات القتل. وتستفحل القضية بعد ذلك بحكم ثقافة الثأر التي جلبتها معها القبائل العربية التي هاجرت إلى مصر، وبخاصة قبائل سليم اليمينة التي تنتمي إليها عائلتا الحناشات وعبد الحليم، صاحبتا الصلح الأخير في مصر.

والمطالبة بالثأر لها ضوابط معروفة في الصعيد، كما يؤكد اللواء محمد غانم، أحد الضباط الذين خدموا لأكثر من ربع قرن في هذه المناطق. فالأبناء هم الأحق بالقصاص لدم أبيهم، يليهم الأخوة الأشقاء، فالأخوة غير الأشقاء، وإذا لم يكن للقتيل أبناء أو اخوة، فحق المطالبة بالدم ينتقل إلى أبناء العم الأشقاء، ومنهم إلى أبناء العمومة غير الأشقاء، والثأر في الصعيد لا يلزم سوى أقارب «الدم»، أي من ناحية الأب، ولا علاقة لأقارب الأم بعملية الثأر، وإن كان الأمر لا يخلو من الدعم والمساعدة. ويضيف اللواء غانم، أما فيما يتعلق بمن يتم أخذ الثأر منه، فالأمر أكثر تعقيدا، ففي الغالب يتم استهداف القاتل باعتباره المسؤول عن اندلاع الخصومة، ولكن في بعض الأحيان تحرص بعض العائلات على قتل من يوازي القتيل في أهميته، فإذا كان المقتول أحد كبار العائلة يتم قتل من يساويه مقاما في العائلة الأخرى، وإذا كان القتيل شابا يتم اختيار أحد شباب الخصوم، وفي كل الأحوال يتم الحرص على أن تقتصر دائرة الثأر على القاتل أو الدائرة الضيقة من أقاربه ممن يشتركون معه حتى الجد الخامس. ويلفت اللواء غانم الانتباه إلى أنه لا يسقط حق الثأر بالتقادم، حتى لو ظل القاتل مختفيا أو خلف القضبان لسنوات طويلة. ويضيف ان أهالي الصعيد لا يعتبرون السجن بديلا عن الثأر، فحق الدولة غير حقهم، وقانونها غير قانونهم، ولكن في السنوات الأخيرة بدأ هذا المفهوم ينحسر كثيرا، خاصة إذا حصل القاتل على حكم بالإعدام فهذا الحكم عادة ـ وهو ما حدث في قضية بيت علام ـ ما يفتح الطريق للصلح بين العائلتين.