بعد نظام «الرعب الأحمر» كيف يتجه الإثيوبيون نحو الديمقراطية؟

TT

سألت رئيس الوزراء الاثيوبي ملس زيناوي في لقاء معه قبل أيام من إجراء أول انتخابات في تاريخ اثيوبيا ربيع 1994 اي بعد حوالي أربع سنوات من تسلمه الحكم «هل يمكن ان تطلق على تلك الانتخابات تسمية انتخابات تعددية حزبية ديمقراطية في وقت تتجاوز نسبة الاميين في البلاد 70% من عدد السكان، غالبيتهم يعيش في الارياف ولم يقترع في كل حياته، بل لا يعرف ماذا يعني الاقتراع فما بالك بالديمقراطية وممارستها؟». فأجاب مبتسماً «ربما تضيف الى ذلك مقاطعة احزاب المعارضة هذه الانتخابات... لكن ليس أمامي خيار آخر سوى إجرائها.. البدائل الأخرى هي ان احكم كما فعل الامبراطور هيلا سيلاسي بنظام امبراطوري اقطاعي (دام 44 عاماً)، او كما فعل بعده منغيستو هايلي مريام بنظام شيوعي (دام 17 عاماً)، وكلا النظامين ديكتاتوري يعزل اثيوبيا عن المجتمع الدولي بل ربما يعاقبها بقطع المساعدات عنها بسبب عدم انتهاجها النظام الديموقراطي».

جرت الانتخابات آنذاك من دون منافسة تذكر، وفازت «الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب اثيوبيا» الحاكمة بزعامة زيناوي، وكذلك فعلت في الانتخابات الثانية التي جرت 2000 في ظروف مشابهة. لكن ماذا تغير في الانتخابات الثالثة التي جرت الأحد الماضي، وأين اصبحت الديمقراطية والتعددية الحزبية في هذه التجارب الاثيوبية على امتداد 14 سنة من حكم زيناوي، الماركسي اللينيني السابق، الذي اطاح حكماً شيوعياً وأبى إلا ان يجري انتخابات بالمفهوم الغربي حتى ولو كانت من دون تعددية حزبية؟.

ربما يكون الجواب على ذلك بالعودة قليلاً الى ما قبل تسلم زيناوي الحكم. فهذا الشاب الذي كان يدرس الطب في جامعة أديس ابابا، هاله ما كان يمارسه نظام منغيستو الذي اُطلق عليه «نظام الرعب الأحمر» من قمع وقهر لشعبه، فترك دراسة الطب ليلتحق بثوار «الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي» (تيغراي اقليم في الهضبة الاثيوبية وقومية تحمل اسم الاقليم) ذات التوجه الماركسي، وسرعان ما صار زعيمها. والتقى زيناوي آنذاك مع ماركسي آخر ينتمي الى القومية نفسها هو اسياس افورقي (الرئيس الاريتري حالياً) الذي كان يقود «الجبهة الشعبية لتحرير اريتريا». ومع انهيار الاتحاد السوفياتي نهاية الثمانينات، بدأت الانظمة التي كانت تدور في فلكه تتفكك وتضعُف، بما فيها نظام منغيستو. ويبدو ان زيناوي أدرك بذكاء ورؤية بعيدة المدى ذلك التحول الاستراتيجي في العالم غداة انتهاء الحرب الباردة. وهو كما يعرف التركيبة الاجتماعية لبلده الذي يطلق عليه «متحف القوميات»، (اكثر من 80 قومية مختلفة و150 قبيلة تتحدث بحوالي 39 لغة ولهجة، وأديانها ومعتقداتها بالعشرات) أدرك في الوقت نفسه حمى التوجه الاميركي، الذي صار القوة الاكبر في العالم، نحو فرض الديمقراطية ومقايضتها بالمساعدات، خصوصاً في الدول الحليفة للاتحاد السوفياتي سابقاً. فاختار زيناوي هذا التوجه مذذاك، وكافأته واشنطن مباشرة بعدما وصلت قواته الى مشارف العاصمة أديس ابابا بأن اعلن مساعد وزير الخارجية الاميركي آنذاك هيرمان كوهين انتهاء مفاوضات لندن التي كان يرعاها في 27 مايو (ايار) 1991 بحضور زيناوي وافورقي ورئيس حكومة منغيستو، تسفاي دينكا، وقال«ان الادارة الاميركية توصي بأن تدخل قوات الجبهة الديمقراطية لشعوب اثيوبيا أديس ابابا لإعادة الأمن والاستقرار اليها في اسرع وقت ممكن».

دخل زيناوي بقواته العاصمة الاثيوبية، ولم ينتظر كي يتخلص من الامية والقبلية في بلده، كما لم ينتظر إعادة تثقيف ابناء القوميات الـ80 لاقناعهم بالانتماء الى الوطن اولاً ثم القومية والقبيلة. ووضع دستور البلاد ونص فيه على حق كل قومية بالانفصال شرط موافقة القوميات الاخرى وابناء القومية نفسها، وشروط اخرى (باستثناء اريتريا التي انفصلت مباشرة واستقلت رسمياً في 1993), ودعا الاثيوبيين لانتخابات جرت في 1994 تدفقت بعدها المساعدات الاميركية والغربية الى اثيوبيا، حيث استغلها زيناوي بالتنمية، بما في ذلك التعليم ونهضة القوميات المهمشة سابقاً، وأجرى بذلك عملية صهر للقوميات لإذابتها في مفهوم الوطن. وعلى مدى 14 سنة، تخللتها حرب دامية استمرت ثلاث سنوات على الحدود مع اريتريا (1998ـ2000)، استطاع زيناوي إلغاء الولاءات القومية والقبلية الى حد كبير في المجتمع الاثيوبي وزرع مفهوم الديمقراطية بشكل سليم كما يزرع مواطنو بلده الـ «بونا»، البن الاثيوبي الشهير.

وربما كان يوم الاحد الماضي موسم الحصاد السياسي وقطاف الديمقراطية على الطريقة الاثيوبية في انجح صورها. إذ اقترع الاثيوبيون في ذلك اليوم للمرة الثالثة في ظل نظام زيناوي، لكن للمرة الاولى بحضور مراقبين دوليين بلغ عددهم نحو 500 وفي مقدمهم الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر رئيس «مركز كارتر للتنمية والسلام» الذي لاحظ عقب الانتخابات بأنها «اتسمت بالشفافية» مشدداً على «التحسن الجذري» عن الانتخابات السابقة. واقترع الاثيوبيون للمرة الاولى بمشاركة كل احزاب المعارضة الرئيسية التي وفرت لها حكومة زيناوي بث ونشر برامجها في وسائل الاعلام الرسمية في مساحات وأوقات متساوية مع تلك المخصصة للجبهة الحاكمة. ولاحظ مراقبون ان عدد الذين شاركوا في التجمع الاخير للمعارضة قبل انتهاء الحملة الانتخابية الجمعة الماضي فاق العدد الذي شارك في تجمع جبهة زيناوي.

وبغض النظر عن النتائج النهائية للانتخابات التي ستعلن في الثأمن الشهر المقبل، فإن التجربة الاثيوبية في الديمقراطية تعتبر رائدة في كل القارة السمراء، خصوصاً في حال فوز المعارضة او حصولها على الحد الادنى من المقاعد في البرلمان للمشاركة في القرارات السياسية وممارسة اللعبة الديمقراطية من تحت قبة البرلمان. وذلك بدلاً من البقاء خارجه كما فعلت طوال الـ14 سنة الماضية.