الترابي: سجين أجاد توظيف السجن بدرجة الامتياز

سؤال اللحظة.. يستدير ليصادق ساجنيه وخصومه ثم ينقلب عليهم.. هل يفعلها هذه المرة؟

TT

يظل حسن عبد الله الترابي (74 عاما، من مواليد مدينة كسلا في شرق السودان ووالده الشيخ عبد الله الترابي عالم إسلامي)، رقما سياسيا لا يمكن تجاوزه في خريطة السودان السياسية، وربما بنفس الدرجة في خريطة المنطقة العربية والإسلامية، على خلفية حالات التماس والحراك التي تعيشها حركة الإسلام السياسي من ايران الى ماليزيا والجزائر ومصر وتونس والأردن وفلسطين واليمن، بل وعلى خلفية علاقات تنظيمه، أي الترابي، بتنظيمات الإسلام السياسي المتطرفة، وقد آوى السودان أسامة بن لادن لسنوات، الى أن سمح له بالتراضي بالمغادرة الى أفغانستان في 1996، التي دبر منها هجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001، على برجي مركز التجارة الدولي بنيويورك لاحقا. ( الترابي هو مهندس المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي وقد أسسه في مايو (ايار) 1991 بعد غزو صدام حسين للكويت، الذي ضم قادة الإسلام السياسي في العالم العربي، فيما ظلت الخرطوم مقرا له الى أن جمد نشاطه الرئيس البشير على خلفية الصراع الذي نشأ بينه وبين الترابي، في ما عرف بصراع القصر والمنشية في 1999، والذي قاد لاحقا لحل البرلمان السوداني الذي يترأسه الترابي وتجريده من منصب أمين عام حزب المؤتمر الوطني الذي يرأسه البشير في 12 ديسمبر (كانون الاول) 1999على خلفية تبني الترابي لمشاريع قانونية يقلص بموجبها سلطات الرئيس البشير بإعطاء الأقاليم حق انتخاب الولاة وتعيين رئيس وزراء بصلاحيات جديدة)، بل ان السودان استضاف الإرهابي كارلوس لسنوات في عقد التسعينات أيضا الى أن سلمه لفرنسا من دون علمه في 12 أغسطس (اب) 1994، حيث نقل من المستشفى الى باريس بطائرة فرنسية في رفقة قادة المخابرات الفرنسية ليحاكم بالسجن هناك.

ولم يكن السجن أو الخروج منه أمرا جديدا أو عابرا في حياة حسن الترابي السياسية عبر 40 عاما، فانقلاب 25 مايو 1969 زج به في السجن لست سنوات، ليغادر بعدها الى ليبيا وليسهم في تأسيس الجبهة الوطنية المعارضة مع الصادق المهدي والشريف حسين الهندي، لنظام جعفر نميري (الهندي توفى بنوبة قلبية في 1981 بفندق امباسدور بأثينا، فيما صالح الصادق المهدي نميري بعد لقاء على ظهر سفينة بميناء بورتسودان عام 1977 لتنخرط الجبهة الوطنية المعارضة في برنامج مصالحة، تملص منه المهدي لاحقا، فيما واصل الترابي وتقلد مناصب كثيرة أبرزها حقيبة النائب العام التي صاغ منها قوانين سبتمبر 1983 الإسلامية، التي أسهمت مع تقسيم الإقليم الجنوبي إداريا في تأسيس العقيد جون قرنق للجيش الشعبي والحركة الشعبية لتحرير السودان في 15 مايو 1981 ( الترابي عاد ووقع عبر مندوبين من حزبه على مذكرة تفاهم مع حركة جون قرنق في 19 فبراير (شباط) 2001 بجنيف، وأوضح أسبابها في مؤتمر صحافي بعد يوم واحد، ليعتبرها نظام البشير بمثابة الانقلاب ويودع الترابي السجن بعد يومين في 22 فبراير، وكان قبلها قد التقى الصادق المهدي المعارض في جنيف في 1998 في خطوة استبطنت محورا من خلافاته مع محور البشير ـ علي عثمان، التي لم تكن قد خرجت الى السطح فانفجرت بقرارات ديسمبر 1999 سالفة الذكر).

وعودة لمسيرة الرجل مع نظام جعفر نميري، فقد استدار واعتقل الترابي مع كل قادة حركته الإسلامية في مارس (اذار) 1985 بتهمة التآمر، ليسقط النظام بانتفاضة 6 أبريل بعد أقل من شهر على اعتقال الترابي، فخرج مع جماعته بعفو من المشير سوار الذهب، رئيس المجلس العسكري المؤقت ويؤسس، أي الترابي، الجبهة القومية الإسلامية ويخوض بها انتخابات 1986 البرلمانية موظفا سجن نميري له سياسيا لتفاجئ الجبهة القومية الإسلامية خريطة السودان السياسية بحصدها لـ 52 نائبا برلمانيا بفارق مقعدين عن الحزب الاتحادي الديمقراطي ثاني أكبر الأحزاب السياسية السودانية مع حزب الأمة، فيما لم يفز مسمى الحركة الإسلامية السابق «جبهة الميثاق الإسلامي (أسسها الترابي في ستينات القرن الماضي) سوى بمقعدين فقط في انتخابات 1964 و1968 البرلمانيتين.

ولكن الترابي عاد وانقلب على التجربة الديمقراطية الثالثة وعلى حكومة الصادق المهدي شقيق زوجته (وصال المهدي)، مثلما انتقل بمسمى الجبهة القومية الإسلامية الى «حزب المؤتمر الوطني»، ليؤسس لاحقا «حزب المؤتمر الشعبي»، الذي يرأسه على خلفية قرارات ديسمبر 1999 التي جردته من منصب الأمين العام وحلت البرلمان الذي يرأسه، ليتوالى التصعيد بينه وبين المؤتمر الوطني، فيحيله من سجن 22 فبراير 2001 في 13 اكتوبر 2003 الى الإقامة الجبرية في منزل بحي كافوري بالخرطوم، وقد أضرب خلالها عن الطعام عدة مرات احتجاجا، الى أن أعيد للسجن هذه المرة في 30 مارس 2003 بتهمة المشاركة في عملية انقلاب كانت رواياتها قد جاءت على خلفية انفجار قضية دارفور، لتتهمه الحكومة السودانية وحزبه بأنهما وراء تكوين ونشاط حركة العدل والمساواة كجناح عسكري للمؤتمر الوطني.

مجمل تلك اللوحة بتفاصيلها الدقيقة تلك، يوحي بأن الترابي قد نجح في توظيف السجن سياسيا لصالح النقلات الدرامية التي يظل يقودها في شكل ومسميات ومضامين الحركة الإسلامية التي أعطاها من جهده وفكره ما يقارب النصف قرن من الزمان، فمن سجن نميري وعودته لمصالحات، تأسست مصارف ومؤسسات اقتصادية إسلامية رفدت الجبهة القومية الإسلامية لاحقا، ومن انقلاب يونيو (حزيران) ترسخت تلك المؤسسات أكثر، فهل يستطيع أن يوظف سجنه الأخير لجهة سياسية بعد أن جرده خصومه من ريع كل تلك الصروح المالية التي أسهم في إنشائها؟

الإجابة صعبة اعتمادا على حقائق ومستجدات كثيرة، لم تكن معها ساحة السودان السياسية داخليا على مثل هذا المستوى من السيولة الساخنة والقابلية القائمة على التأرجح، فيما توشك البنية التحتية والفوقية لفضاء السياسة السودانية الحالية إقليميا أن تقول إن النوافذ أمام أي تحرك للترابي بشخصه أو بحزبه توشك أن تكون مغلقة، دعك عن بقية العالم، وذلك بعد أن سوق خصومه استداراتهم السياسية الأخيرة، وتوجهاتهم الإيجابية في التأسيس لسودان جديد، كما لو أنها ما كان لها أن تحدث في وجود حسن الترابي شريكا، وذلك قد يصدق في ناتجه، وإن مؤقتا، إقليميا ودوليا، ولكن ماذا عن الجبهة الداخلية؟

يكفي لتبرير قتامة الصورة القول ببعض حيثيات وإلقاء أسئلة أكثر من تقديم أجوبة.

هل سيجد الترابي خطوط تماس مع جون قرنق (والترابي أول من حاوره بعد الانشقاق ودخل السجن بسبب مذكرة التفاهم معه)، بعد توقيع قرنق لاتفاق سلام مع المؤتمر الوطني اقتسما بموجبه السلطة بنسبة 25 الى 28 تاركين لكل الأطراف الأخرى في الشمال 14 في المائة؟

هل سيعيد تحالفا بأي شكل مع الصادق المهدي (والترابي بدأ مشوارا كهذا بمحادثات جنيف).

هل سيدمج نفسه مع التجمع الوطني المعارض ليجمع بينهما واقع التهميش في مسار عمليات السلام وتبعاتها الحالية؟

هل سيحاول، وإن مضطرا على ركوب الصعب، مخاطبة قضية دارفور بلغة جديدة بكل التعقيدات التي يمكن أن تصاحب ذلك، وهل سيحاول الاقتراب من حركتيها المعارضتين وكلاهما يحمل السلاح في وجه النظام؟

هل سيقتحم الساحات الطلابية ويستعيد سنوات أكتوبر 1964 التي كان فيها فاعلا في قيادة طلاب جامعة الخرطوم لثورة أسقطت نظام الفريق إبراهيم عبود 1958-1964، وهل سيحاول إعادة سيناريو مارس أبريل 1985 الذي انطلقت شرارات انتفاضته من جامعة أم درمان الأهلية احتجاجا على اعتقاله مع معطيات أخرى؟

هناك أسئلة أخرى كثيرة تضيق عنها المساحة، ومن مجمل الأسئلة يوحي بأن خروج الشيخ من السجن هذه المرة لن يكون بأي حال نسخة مكررة من النسخ الماضية، أقلها بسبب أن مياها كثيرة قد مرت من تحت الجسور كما يقال.