عدد المستوطنات يفوق البلدات العربية بأكثر من 6 أضعاف واستعداد لدى المستوطنين للموت من أجل البقاء فيها

TT

38 سنة مرت على احتلال مرتفعات الجولان، هذا المقطع النفيس من الوطن السوري، شهد خلالها كل ما يخطر على بال. اسرائيل ضمته رسميا الى حدودها في عام 1981، الا ان أربعة رؤساء حكومات متتالين فاوضوا سورية على إعادته لها، ما عدا شارون الذي يرى فيه أهم موقع استراتيجي. ولذلك نراه يتهرب من الدعوة السورية للتفاوض، ويغذي الحملة الأميركية ضد الرئيس بشار الأسد.

ماذا يدور على أرض الجولان حاليا؟ ماذا يفعل أهله السوريون وجلهم من الدروز؟ ماذا يفكر شبابهم؟ وكيف أثرت فيهم اسرائيل؟ وبماذا يفكر المستوطنون في الجولان؟ وما الذي يميزهم عن مستوطني الضفة الغربية وقطاع غزة؟ هل يقفون بالدور للإخلاء؟ أم يؤمنون بخلود احتلالهم؟ وللوقوف على أجوبة لهذه التساؤلات زارت «الشرق الأوسط» الجولان المحتل، وجاءت الردود مثيرة.

في أواسط يوليو (تموز) 1974، استدعى الحاكم العسكري الإسرائيلي للجولان السوري المحتل 140 شخصية دينية وسياسية من الوطنيين لاجتماع عاجل. كان واضحا انه غاضب أشد الغضب. فقد جاء اللقاء بعد أقل من شهر من توقيع اتفاقية فصل القوات التي أعقبت حرب أكتوبر (تشرين الأول) التي انسحب بموجبها الجيش الإسرائيلي من حوالي نصف المنطقة التي احتلت عام 1967. وبدا ان العلاقات بين سورية واسرائيل انتقلت الى عهد جديد من السلم والتعايش. لكن المخابرات الاسرائيلية فوجئت باكتشاف خلية فدائية تضم 40 شابا سوريا في قرى الجولان، خططوا لمقاومة الاحتلال وطرده بقوة السلاح.

اجتمع القادة الروحيون والسياسيون في خلوة (مكان العبادة لدى الدروز) مجدل شمس وقرروا التجاوب الجزئي مع دعوة الحاكم. فأرسلوا اليه 12 شخصية من المدعوين، فيما تغيب الآخرون. وازداد غيظا، فصاح بهم «أنا لم أدعكم لأستمع إليكم أو أناقشكم، بل لأوضح لكم بعض الأمور. أولا، نحن نلاحظ انكم تتعاملون معنا بجفاء ولا تتقدمون الينا بالطلبات. وثانيا، نحن نلاحظ بقلق ان التحريض ضد اسرائيل يزيد عندكم عن الحدود. وثالثا، نحن غاضبون من ازدياد تجاوبكم مع دعوات اذاعة دمشق. من هنا فإنني أقول لكم ان لدينا حلولا لكل هذه المشاكل، وهي لن تعجبكم. وأقول لكل الموهومين منكم: انزعوا من رؤوسكم حنين العودة الى سورية، لأن ذلك عبث باطل. فاسرائيل لن تنسحب من المزيد من الأراضي بعد اليوم. ومن لا يصدق، فليتجول في الجولان ويرى ما نحن فاعلون. ولأصحاب الرؤوس القاسية الذين يصرون على مقاومتنا، أقول: أمامكم طريقان; إما البقاء هنا بهدوء أو الذهاب الى سورية. ونحن سنفتح لهم الطريق ومستعدون لوداعهم. وأخيرا أقول لكم: الحاضر يعلم الغائب.

وأعلم الحاضرون الغائبين فعلا، والنتيجة تبدو واضحة: كما لو ان شيئا في الأجواء لم يتغير. الاحتلال مستمر، ويعمق احتلاله أكثر. وأهالي الجولان ما زالوا على موقفهم ضد الاحتلال وعلى انتمائهم السوري. ولكن الأمور لا تقتصر على هذه البساطة. فهذه المنطقة التي تبدو غائبة عن ذهنية المفاوضين وبعيدة عن طاولة المفاوضات، حاضرة وبقوة في البرامج المستقبلية في المنطقة. وفي هذه الأيام، التي نقترب فيها من تطبيق خطة الفصل في قطاع غزة، يطرح النقاش يوميا وفي كل بيت من بيوت القاطنين في الجولان، المستوطنون منهم والأهالي العرب السوريون على السواء، والكلام كله يدور حول السؤال: هل سيأتي دور الجولان؟ متى وكيف؟ وحملت «الشرق الأوسط» هذا السؤال وغيره، وطافت به في البلدات السورية المحتلة والمستوطنات. وجاءت ردود الفعل مثيرة.

رحلة ساحرة الطرق الموصلة الى الجولان السورية المحتلة، جميعها، تمر بالجليل الساحر. أجمل المناطق في فلسطين، بل قل في الشرق الأوسط كله. فهي الامتداد الطبيعي للبنان الجنوبي المترامي الأطراف ما بين البحر المتوسط وجبل الشيخ... الجبال الشاهقة الخضراء، البحر والسهول الخصبة المثمرة على مدار السنة، المياه الجارية بغزارة، الغابات، الطرق الصخرية، الهواء النقي العليل، الألوان الزاهية، النباتات والزهور الغنية الفريدة، التربة الحمراء الداكنة المتجاورة والمتمازجة بالتربة البركانية السوداء، القلاع الحصينة، التاريخ والحضارة، بحيرة طبريا ومنابع نهر الأردن، كل هذه في آن، تشاهدها خلال رحلة لا تزيد مدتها على ساعتين. وتحتار كل مرة فيها، من اين تبدأ والى أين تنتهي. لكنها، كيفما سرت فيها او بدأتها، تعتبر رحلة ساحرة. كل بقعة منها مهمة وخاصة ولها جمالها المميز. وأينما سرت فيها ستجد العوازل ينافسونك عليها. وليس صدفة ان هذه المنطقة تكون ملأى بالزوار في نهاية الأسبوع وفي الأعياد، اذ انها مرتع المستجمين في كل الفصول والمواسم. اخترنا في الزيارة الأولى الى الجولان، طريق طبريا. الجبال السمراء على يميننا، هذه التي كانت القوات السورية ترابط فوقها قبل حرب 1967 وتكشف منها كل سهول الشمال الإسرائيلي والبلدات اليهودية وتقصفها بالمدافع، والبحيرة على يسارنا. بعد قليل سنصل الى المقطع الشمالي الشرقي من الشاطئ، الذي بسببه امتنع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، اسحق رابين، والرئيس السوري في حينه، حافظ الأسد، عن توقيع اتفاق سلام. فقد أصر الأسد على استعادة كل شبر من أرض الجولان، فيما قال رابين: لن تطأ قدماه (يقصد ألرئيس الأسد) مياه البحيرة.

وتنظر الى هذه البحيرة من هذه الزاوية، فيتملكك الحزن والأسى. فمن هنا، من المنطقة السورية الشرقية المحتلة، تختلف طبريا عنها من المنطقة الاسرائيلية الغربية. ربما لأنها محتلة وربما لأنها مهملة. تجدها يتيمة، رغم كثرة الشطآن المنظمة فيها وأماكن الاستجمام. الا انها في الجهة الغربية تبدو طافحة بالحيوية والنشاط والعمران، مغمورة بالحدائق ونابضة بالحياة. المستوطنون الشباب

* عندما قطعنا الجسر الأول، الواقع على نقطة انطلاق نهر الأردن من بحيرة طبريا، وجدنا مجموعة كبيرة من الشباب اليهودي ينتظرون على محطة الحافلة ويحاولون التعمشق على أية سيارة تمر من المكان لكي يستقلوها عائدين الى بيوتهم. كان من الصعب تجاهلهم. فهم يفرضون أنفسهم بقوة عليك، يرجونك ان تأخذهم، ورجاؤهم ملح الى درجة الفرض القسري. ولكننا، بصراحة، كنا بالشغف نفسه لأخذهم. فقد كنا معنيين بسماع رأيهم في ما نحن ذاهبون اليه. ثلاثة شباب ما زالوا في الثانوية، وصبية أنهت لتوها الخدمة العسكرية في الجيش، وعمرها 22 عاما. هي مقبلة من زيارة لقريبة لها في تل ابيب، وهم مقبلون من مظاهرة للتضامن مع المستوطنين المقرر إخلاؤهم من إحدى المستوطنات الأربع التي ستنسحب منها اسرائيل من شمال الضفة الغربية في اطار خطة الفصل.

قبل ان يعتلوا السيارة أوضحنا لهم أنهم في سيارة عربية، فلا بد من توضيح الأمور من البداية في مثل هذه الحالات في اسرائيل. إذ حدث ان حصلت مشاكل للكثير من العرب الذين أخذوا بسياراتهم مواطنين يهود من دون ان يكشفوا عن هويتهم. فلما اكتشف اليهود ذلك راحوا يصيحون «لماذا لم تقل انك عربي، أعدني من حيث أخذتني»، وفي أحسن الأحوال «أنزلني هنا». وهناك من وقع في مشاكل أكبر، اذ اتهم بمحاولة خطف، أو اعتداء من نوع آخر. لكن هؤلاء الشباب اعتلوا السيارة، من دون ان يبدوا أي استعداد لسماع الملاحظة بأنهم في سيارة عربي، فقد كانوا مرهقين للغاية. ويبدو انهم كانوا ينتظرون منذ فترة طويلة قدوم سيارة. ففي هذه المناطق يندر مرور السيارات. فالجولان منطقة شبه خالية من السكان، رغم الاستيطان المكثف فيها. اذ ان مجمل عدد السكان فيه اليوم لا يزيد على 38 ألف نسمة، نصفهم عرب سوريون ونصفهم مستوطنون، يعيشون على بقعة واسعة جدا نسبيا تبلغ مساحتها 1158 كيلومترا مربعا.

ـ هل أنت من سكان الجولان؟ أرادت الشابة ان تطمئن. جميعهم وافقوا على التجاوب مع أسئلتنا، عندما عرفوا غرضنا. بل ان الشباب كانوا متحمسين للكلام، وكأننا أنسيناهم التعب «من الجنون ان تسأل اذا كنا سننسحب من الجولان. نموت ولا نرحل من هنا. هذه قضية غير مطروحة أصلا. كيف يخطر ببالك ان تطرحها؟ ما الذي دفعك الى ذلك؟»، هكذا كطلقات الرصاص جاءت ردود أحدهم على السؤال. وانطلق الباقون يرددون مثله الكلام بالحدة نفسها وأكثر. ـ«انتم العرب غريبون. الدول العربية كبيرة وغنية وواسعة جدا، تبلغ مساحتها مئات أضعاف مساحة إسرائيل، فلماذا تصرون على هذه المنطقة؟» قالت الصبية.

لا يعرفون شيئا عن منطق الحق. لا يريدون سماع كلمة احتلال. كلمة الحرب ترددت كثيرا على ألسنتهم جميعا «كانت هناك حرب، وانتم خسرتموها، فادفعوا ثمن الخسارة»، و«نحن متمسكون بهذه الأرض لأنها لنا، ومن لا يعجبه ذلك فليتوجه الى ساحة الوغى»، و«نحن مستعدون للحرب والموت في سبيل البقاء في هذه الأرض».

وعندها ذكرناهم بأن رئيس الحكومة أرييل شارون، كان يتكلم مثلهم وبشكل أقسى، لكنه توصل الى قناعة بأنه لا بد مما ليس منه بد، ولذلك يقود خطة الفصل، قاطعونا بالقول «لا تذكر اسم هذا الخائن أمامنا، فنحن نكرهه». وعندما ذكرناهم بأن هناك أربعة رؤساء حكومات إسرائيلية فاوضوا سورية وكانوا مستعدين لأن ينسحبوا من معظم أراضي الجولان، هم: اسحق رابين وشيمعون بيريس وبنيامين نتنياهو وايهود باراك، راحوا يشتمونهم ويتمنون لهم الموت بأبشع الوسائل. لكن أحدهم طلب الا يجملوا نتنياهو مع بقية الرؤساء «فأنا لا أصدق انه كان جادا في مفاوضاته مع سورية. هذا فقط تكتيك». فأجابه آخر «هكذا يقولون أيضا عن شارون، بأنه يخدع العالم، كما فعل في الحروب. ولكنني لا أصدق. أعتقد انه أصبح مسحورا. جورج بوش، هذا المبشر المسيحي، قد سطا عليه وسحره».

كان النقاش معهم مثل حوار الطرشان. فهم ليسوا مستعدين لأي تنازل عن أفكارهم الجامدة تجاه أي قضية. وعندما سألناهم ان كانوا مستعدين لأن تبقى إسرائيل تعيش على الحراب، أجابوا «نعم، اذا كانت الضرورة تقضي بذلك». فقلنا ان ما يقولونه حرام، حتى حسب التوراة، فاستدركوا «ولكننا لا نعيش هنا على الحراب. فنحن نعيش بهدوء وسلام في الجولان. فهل سمعت عن حرب في السنين الأخيرة؟!».

الشبان الثلاثة نزلوا أمام مستوطنة للمتدينين، تابعة سياسيا لحزب المفدال اليميني المتطرف الذي يؤمن بأن الجولان هو منطقة يهودية قديمة إنما حررتها إسرائيل وأعادتها الى أصحابها.

من تلك المستوطنة انطلقنا شرقا الى عمق الجولان باتجاه حدود وقف إطلاق النار. أراض شاسعة فارغة. الكثير من قطعان المواشي والأبقار ترعى (40% من مساحة الجولان مخصصة للمراعي، وفيها أكبر مزرعة في الشرق الأوسط، يملكها أحد المستوطنين المعروف بصداقته الشخصية مع رئيس الوزراء أرييل شارون). أصدقاؤنا من العرب السوريين حرصوا على تحذيرنا منها وقالوا «حوادث طرق عديدة وقعت هنا بسبب الأبقار، فهي بلا رقيب. تفاجئك من حيث لا تدري».

لكن سيارات الجيش تسرح هنا أكثر. فرغم ان الجولان أصبح منطقة مدنية، بفعل القانون الذي سنته سلطات الاحتلال رسميا سنة 1981 ويقضي بتطبيق القانون الإسرائيلي على الجولان (لكنه لا يضم أراضي الجولان الى اسرائيل كما يعتقد كثيرون)، الا ان الجيش الإسرائيلي يسيطر على ما يعادل 40% من الأراضي. يقيم عليها القواعد ومناطق التدريب والمناورات ويسّير الدوريات على طول الحدود. ويدير الرادارات المنتشرة بشكل واسع فوق كل تلة وجبل تشرف على الأراضي السورية. ويحرس عشرات النصب التذكارية. ويراقب العديد من المناطق التي أعلنت محميات طبيعية لمكافحة ظاهرة صيد الغزلان وغيرها من الحيوانات النادرة (المحميات الطبيعية تعادل 21% من مساحة الجولان). والأهم من كل ذلك يحرس الجيش المستوطنات. انه غير صادق من يدعي انها منطقة مدنية. فالمستوطنات المنتشرة هنا تبدو كأنها معسكرات جيش، محاطة بالأسلاك من كل جانب ولكل منها بوابة حديد كهربائية، لا تفتح الا بجهاز سري يحتفظ به كل مستوطن. وعلى الزائر الغريب ان ينسق زيارته مع أحد المستوطنين الذين يحملون جهاز التحكم من بعد، حتى يدخل او يخرج من المستوطنة.

الجيش الاسرائيلي يزعم انه كان قد احتل هذه الأراضي بعد ساعة فقط من القتال. وحسب أحد المشاركين في الحرب، الذي يسكن في الجولان اليوم ويدير كراجا لتصليح السيارات في إحدى المستوطنات، فانه وجنوده ذهلوا في حينه من عظمة الانتصار «نحن لم نعرف قيمة الجولان الا بعد ان احتللناه. لقد وقفنا فوق جباله الغربية مشدوهين، اذ تبين لنا ان الجنود السوريين كانوا يطلون على البلدات اليهودية في اسرائيل وكأنها بساط. يشاهدون كل حركة داخل بيوتنا. ومن الجبال الشرقية استطعنا ان نشاهد دمشق».

من هنا راح يتحدث عن ضرورة ان يتشبث الجيش الإسرائيلي بكل شبر من أراضي الجولان، حتى لو كان ثمن ذلك خوض حرب أخرى مع سورية. وعندما لفتنا نظره الى تصريحات رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق موشيه يعلون، بأن بإمكان اسرائيل ان تدافع عن نفسها أيضا اذا انسحبت من الجولان وعقدت اتفاق سلام مع سورية، أجاب «في سنة 1967 كان يعلون صبيا صغيرا وهو لا يعرف شيئا عن معاناة سكان الشمال من القصف السوري. ولحسن حظنا فان يعلون ليس رئيس حكومة ولن يكون». الاستيطان

* نزلت الصبية أمام مستوطنة سكانها من اليساريين نسبيا. ومع ذلك فإنها بدت هي أيضا متطرفة. ومستوطنات الجولان بالمناسبة، موزعة بين كل أقطاب السياسة الإسرائيلية من أقصى اليمين الى أقصى اليسار. بل ان اليسار هو أول من بادر الى هذا الاستيطان، بعد شهر واحد من انتهاء الحرب سنة 1967. ففي 15 يوليو (تموز) من تلك السنة، دخلت مجموعة من شبيبة حزب «مابام» (لم يعد قائما اليوم، اذ ان قسما منه انضم الى حزب العمل الليبرالي وقسما آخر الى حزب ميرتس اليساري)، الى معسكر الجيش السوري المهجور في منطقة نفح لتعلن فيه عن اقامة مستوطنة «مروم هجولان» (أي أعالي الجولان). وانتقلت هذه المستوطنة الى مدينة القنيطرة، وبعد ذلك زحفت الى المنطقة التي تقوم بها حاليا في قلب هضبة الجولان. ومن هنا بدا مشروع الاستيطان اليهودي الكبير في الجولان.

صحيح ان هذا المشروع لم يحقق الأهداف التي وضعت له. فالمخطط كان ان يصل عدد المستوطنين الى 40 ألفا في سنة 1980. وتم تجديد هذا الهدف، المرة تلو الأخرى، سنة بعد سنة. الا عدد المستوطنين اليوم لا يتجاوز 19 ألفا موزعين على 33 مستوطنة، قسم منهم لا يعيشون في المنطقة لكنهم يحتفظون بالبيت هنا من أجل التعويضات المستقبلية، عندما يضطرون الى الانسحاب واخلاء المكان.

قصة هذا الاستيطان بدأت قبل الاحتلال الإسرائيلي في عام 1967. فقد شتملت خطط الحرب منذ البداية، هدم كل البلدات السورية في الجولان وترحيل سكانها بالقوة. ونفذ المخطط بدقة، باستثناء اربع قرى، رفض أهلها الرحيل، فقررت اسرائيل استغلال كونها درزية لدق الأسافين بينهم وبين الوطن الأم. كل وحدة وكتيبة عسكرية شاركت في الاحتلال، نفذت الترحيل والهدم بشكل منهجي، ولم يخرج عن هذه القاعدة أي فصيل. وهدموا البيوت والمساجد والكنائس والمواقع الأثرية بلا تمييز. دفعوا الناس الى الهجرة بقوة القتل والبطش بلا رحمة. وأزالوا جميع لوحات المرور وكل ما كتب باللغة العربية. وهكذا، من مجموع 110 قرى و120 خربة، و130 ألف مواطن (113 ألف سوري و17 ألف لاجئ فلسطيني)، لم يبق سوى خمس قرى عربية (القرى الأربع المذكورة وقرية الغجر التي كانت ضائعة بين اسرائيل وسورية ولبنان. وهذه قصة أخرى سنأتي على ذكرها في الحلقة المقبلة). ولم يزد عدد الأهالي السوريين الباقين على 13 ألفا (أصبحوا اليوم 19 ألفا). وليس هذا فحسب، بل ان المستوطنة الأولى في الجولان كانت عسكرية. أقامتها مجموعة من الضباط والجنود الذين أنهوا للتو خدمتهم العسكرية. واليوم توجد 33 مستوطنة أقام 20 منها حزب العمل وغيره من أحزاب اليسار، وأقام الليكود وغيره من أحزاب اليمين البقية. معظم هذه المستوطنات أقيمت بعد عام 1974، أي بعد التوقيع مع سورية على اتفاقية فصل القوات. فما قاله الحاكم العسكري الإسرائيلي لوجهاء الجولان العرب لم يكن صدفة، فهذه هي السياسة الرسمية: إسرائيل انسحبت يومها آخر انسحاب.

المغريات استخدمت الحكومة الإسرائيلية ومعها الوكالة اليهودية العالمية كل ما يخطر ببال من المغريات كي تجلب المستوطنين الى الجولان، وما زالت تفعل ذلك حتى اليوم. ووضعت مسألة تسويق الجولان للجمهور اليهودي، بأيدي اشهر شركات الدعاية في إسرائيل والعالم. ونحن، بعد زيارتنا لبعض المستوطنات، واطلاعنا على بيوتها العصرية المبنية على الطراز الأوروبي، توجهنا الى أحد مراكز التسويق، مدعين أمامها اننا يهود من وسط اسرائيل ومعنيون بالتعرف على شروط السكن في مستوطنات الجولان. وبعد الاستقبال الحار وجهت لنا صبية في المركز دعوة للزيارة، وحاولت الامتناع عن تقديم المعلومات. وفقط بعد إلحاحنا راحت تسرد لنا المغريات التي تعرض على كل من يتوجه الى الجولان للاستيطان:

ـ أولا، جميع البيوت هنا أرضية، أي كل منها فيللا مستقلة والأرض تمنح مجانا لمن يقرر البقاء في المستوطنة. ـ ثانيا، سعر البيت يبلغ نصف سعر بيت مماثل في المنطقة الوسطى. وعلى سبيل المثال، فان بيتا مساحته 120 مترا مربعا في مستوطنة «كتسرين» (التي اعلنت مدينة وأصبحت مركزا رسميا بالنسبة لمستوطنات الجولان)، عرض علينا بمبلغ 140 ألف دولار، ويعرض نفس البيت في رعنانا مثلا (مدينة كبيرة تقع على بعد 25 كيلومترا شمال شرق تل أبيب)، بسعر 280 ألفا وفي تل أبيب بسعر 350 ألفا.

ـ الوكالة اليهودية تمنح كل عائلة استيطانية في منطقة الجولان مبلغا من المال (يصل الى 12 ألف دولار) كمساعدة. وهذا المبلغ لا يرد الا اذا حدث ان تراجع المستوطن عن رأيه وقرر العودة الى المناطق الوسطى من البلاد قبل ان يتم السكن خمس سنوات. ـ في الجولان توجد كل المرافق الضرورية لمعيشة الفرد ورفاهه: حوالي 20 مطعما وحانة، وأماكن لهو متعددة ونواد ومكتبة عامة ضخمة، ومنطقتان صناعيتان تبلغ مساحة الأولى 1400 دونم والثانية 4300 دونما (منها 50 ألف متر مربع من المباني الصناعية الجاهزة).

ـ منح طلابية لتمويل 3 سنوات تعليم لكل طالب علم في المعاهد العليا من سكان الجولان الذين أمضوا فيه7 سنوات (قسط الدراسة الجامعية في إسرائيل يتراوح ما بين 3000 و5500 دولار في السنة). ـ تخفيضات واسعة في ضريبة الدخل لكل مستوطن.

ـ مركز طوارئ يعمل في خدمة السكان 24 ساعة في اليوم، ويتعامل مع طلباتهم، بدءا بالعلاج الطبي والنفسي والإسعاف وحتى القضايا الأمنية.

(غدا الحلقة الثانية والأخيرة)