البطريرك الأرثوذكسي لـ«الشرق الأوسط»: القضية أخطر بكثير من بيع الأملاك

واسألوا لماذا ضغط مسؤول يوناني على أبو مازن وهدده ليسحب الاعتراف بي

TT

في أول لقاء صحافي له منذ انفجار الأزمة داخل بطريركية الروم الأرثوذكس في القدس المحتلة، قال البطريرك المقال ايرينيوس الأول لـ«الشرق الأوسط»، إن هناك كمية هائلة من المعلومات الخاطئة والموجهة من جهات معينة تحكم تصرفات العديد من الناس في قضية صفقة البيع غير القانونية لأملاك الطائفة في القدس القديمة وتجعلهم يقفون بشكل مذهل الى جانب القوى التي تهدد هذه الأملاك بالذات وغيرها من ممتلكات الطائفة في القدس نفسها وفي مدن أخرى أيضا. وأكد أن هناك مؤامرة كبيرة وخطيرة تحدق اليوم بهذه الأملاك وبالطائفة الأرثوذكسية. وأن هذه المؤامرة أكبر بكثير وأخطر مما يظهر. وقد حان الوقت لكشف الحقائق حتى لا يقع الفلسطينيون والعرب في خطأ فادح لا يسهل تصحيحه.

وردا على سؤال حول قرار الرئيس الفلسطيني، محمود عباس (أبو مازن)، بسحب الاعتراف منه وإقالته، وان كانت حقيقة هذه المؤامرة غائبة عن ذهن ابو مازن، تنهد عميقا ثم قال «أنا أشعر حقا بأسف وبألم شديدين من تسرع أبو مازن واتخاذه قرارا كهذا مليئا بالأخطاء والسقطات. أشعر بأسف مزدوج ومضاعف. فالمرسوم الرئاسي هو أولا منصوص بطريقة تدل على ان كاتبيه لا يعرفون لغة الكنيسة ولا قوانينها وأبسطها أن البطريرك لا يعين ولا يقال بمرسوم رئاسي من أي دولة، ولا نفهم لماذا اتخذ هذا الموقف ضدنا».

زارت «الشرق الأوسط» البطريرك المقال في بيته المتواضع، داخل أسوار البلدة القديمة في القدس المحتلة. ولكي تصل اليه في حارة النصارى لا بد من عبور باب الخليل، وهو أجمل مداخل المدينة على الإطلاق. عندما تسبر أغواره تشعر بشيء من السؤدد والفتح. فالأسوار هنا في أطول ارتفاع لها. ممر العبور ضخم وفخم وماض بصعود دائم لمسافة تزيد على مائتي متر. الرخام يزين الأرض والجدران. الاضاءة في الليل تضفي جمالا خاصا، يزيد من انبهار المشهد. وفجأة ينقبض القلب ويضيق الصدر ويشعر المرء بأن الهواء يختفي من الجو. فأنت تقف وجها لوجه مع ميدان عمر ابن الخطاب، الميدان الذي ترمي تلك الصفقة به الى أحضان الحركات الاستيطانية التي تعمل ليل نهار وبكل الطرق الشرعية واللاشرعية لتهويده ولتغيير معالمه العربية. إذن هنا تدور المؤامرة.

مئات الناس من كل الأجناس يروحون ويجيئون في الساحة: عرب ويهود وأجانب. كهنة وشيوخ ورهبان وحاخامات، كلهم يحتكون ببعضهم البعض، حتى يخال إليك أنهم يطرحون السلام وهم لا يتخاطبون أبدا. حوانيت التذكاريات والمرطبات تناشد المارة ان يكترثوا بها، عبثا. وندخل في الزقاق المؤدي الى دار البطريركية، وعلى جانبيه تترامى الكنائس والمكاتب والنوادي والمقرات لمختلف الطوائف المسيحية، الشرقية والغربية. ونصل الى مكاتب البطريركية فنجدها مغلقة بعدة أقفال، كأنها حوانيت مفلسة. فالكهنة المتمردون على البطريرك غيروا الأقفال القديمة لتبدو كأنها زنازين.

اللقاء بالبطريرك ايرينيوس حدد في بيته. حسبنا انه تلك الفيللا التي استخدمها البطاركة السابقون، الا ان الفيللا مغلقة ومهملة. فقادونا الى بيت قديم آخر صغير مؤلف من غرفة عقد وغرفة مكتب صغيرة وقالوا ان هذا منزل البطريرك. وردا على استغرابنا قال البطريرك «طول عمري في هذه البلاد أسكن في هذا البيت، منذ ان كنت راهبا شابا وحتى أصبحت بطريركا. فأنا لا أحب العيش في القصور ولا في البيوت الكبيرة. وتربطني بهذا البيت أجمل الذكريات. انه يكفيني للخشوع أمام الرب ولا أريد أكثر من ذلك أبدا». كان استقباله لنا بترحاب جاف مما يشير الى ان تجاربه الأخيرة مع الصحافة والسياسيين والموظفين، انتهت بالعديد من الطعنات. وبدا ان من الصعب عليه ان يثق بأحد. وقال «لا أدري ما الذي أصاب الناس. كثيرون جدا هم الذين لا يريدون معرفة الحقيقة. يطلقون الشائعات ويختلقون القصص والروايات، ونحن نطلب لهم السماح والخلاص». عمره خمسة وستون حولا. يوناني المولد والهوية. يرتدي الزي الكهنوتي منذ مطلع شبابه. في عام 2001 عين رئيسا لبطريركية القدس التي تعتبر مسؤولة عن رعاياه في الأردن وفلسطين واسرائيل.

هذا التعيين ترافق مع مشكلة سياسية كبرى، اذ رفضت الحكومة الإسرائيلية الاعتراف به بدعوى انه متعاطف مع الحق الفلسطيني ومتحيز لمنظمة التحرير الفلسطينية وصديق شخصي للرئيس (الراحل) ياسر عرفات. وحسب القانون فان من الضروري ان يتم هذا الاعتراف حتى تصبح المعاملات الرسمية مع البطريركية سالكة. الحكومتان الأردنية والفلسطينية اعترفتا به فورا. ومضى على هذا الموقف سنتان ونصف السنة، حتى غيرت اسرائيل موقفها ووافقت على الاعتراف به. وفي حينه بدا ان وراء الرفض الإسرائيلي تختفي أهداف سياسية واقتصادية محضة، وان عناصر من داخل الكنيسة تحاول التخريب عليه. وكما فهمنا من المحيطين به ومن غيرهم من المطلعين على الأحداث فان أساليب مخجلة اتبعت في هذه المعركة، مما زاد الطين بلة. وعندما تسمع الفرقاء تحسب انك في فيلم إيطالي عن المافيا.

وفي ما يلي نص الحوار:

* هل يعقل ان تمارس أساليب كهذه في الكنيسة؟

ـ هذا هو الواقع للأسف.

* لكنك لست بريئا من هذه الأساليب. فأنت أبو الكنيسة كلها؟

ـ يا بني، نحن كلنا بشر. وحتى في الكنيسة يوجد أناس يغلبون المصلحة الشخصية على المصلحة العامة. وقد جاء الدين لكي يرشد الناس الى الخير والطهارة.

* ونحن نتحدث عن رجال دين، من المفترض ان يكونوا نموذجا للخير والطهارة.

ـ سامحهم الله. لقد دخلوا في السياسة، ونحن ليس لنا في السياسة ونؤمن بأن رجال الدين يجب ان يتركوا السياسة للسياسيين.

* ألا ترى انك تتحمل مسؤولية عما جرى؟

ـ في الكثير من الأمور انطلقنا من الرؤية البريئة للناس، وفي هذا أخطأنا. ونحن نسعى للتصحيح.

* كيف؟

ـ بواسطة إبعاد أولئك الذين فرّطوا بمصالح الكنيسة والشعب واختيار كهنة آخرين ملتزمين لهذه المصالح ولا يخدمون جهات سياسية.

* هم يقولون الأمر نفسه عنكم.

ـ عندما يدخل الشيطان في نفوس البشر، لا تعود لديهم حدود في قلب الحقائق رأسا على عقب وفي انتهاج أسلوب الخداع والكذب. لكن حبل الكذب قصير. ولن يطول الوقت حتى يكشف الرب حقيقتهم. أما نحن فإننا نصب كل جهودنا اليوم، سوية مع غالبية الكهنة والرعية التي تعرف الحقيقة، من أجل احداث التغيير المنشود في الكنيسة.

* تغيير ماذا ومن؟ فأنتم تقفون على رأس الكنيسة منذ أربع سنين؟

ـ صحيح. ولكننا في هذه الفترة لم نستطع احداث التغيير بسبب هؤلاء. فقد بقينا طيلة سنتين ونصف السنة مشلولين عن العمل بسبب عدم اعتراف اسرائيل بنا. وعندما اعترفت بدأت تلك القوى المؤامرات ضدنا. حاولنا التعامل معها من خلال أسلوب الود والإقناع، ولم نكن على علم بأنها تخطط لأمور شريرة على هذا النحو. والآن وقد كشفنا حقيقتهم فإننا نقود مسيرة التغيير رغما عنهم.

* لكن في هذه الأثناء نشأت ظروف جديدة وفقدتم الاعتراف الأردني والفلسطيني؟

ـ نحن واثقون من ان هذه الاجراءات اتخذت بالخطأ، ونتيجة معلومات مشوهة. وعندما تتضح الأمور للقيادتين اللتين نكن لهما كل الاحترام والتقدير فانهنا ستجدان الوسيلة لاتخاذ القرارات الصحيحة. فنحن نسعى لاطلاعهما على الحقائق الغائبة والمغيبة عنهما. وأبناء الرعية الذين عرفوا الحقيقة، أيضا، يحاولون ايصالها للمعنيين. وثقتنا باستقامتهم كبيرة. وايماننا بالله عميق.

* المشكلة الأساسية التي فجّرت هذا الصراع هي مشكلة الأملاك التي بيعت للشركات الاستيطانية اليهودية. فهل بالامكان استرجاعها وإلغاء الصفقة.

ـ رجال القانون والخبراء في القانون الإسرائيلي يؤكدون ان التلاعب الذي جرى في هذه الصفقة مكشوف، وهناك عمليات تزوير عديدة. وكل من يسعى للصدق والعدالة سينقض هذه الصفقة، ان كان ذلك في القضاء أو في الحكومة.

* أحد المطالب الأساسية للعرب الأرثوذكس هو إشراكها في ادارة أملاك الكنيسة والطائفة ووقف حالة التسيب فيها، ومنع التفريط بها لصالح الاستيطان، وإدخال رهبان عرب الى المجمع المقدس وغيرها. وأنتم تجاوبتم مع هذه المطالب في بيان رسمي أصدرتموه مؤخرا. فما هو الضمان لتنفيذ هذه الوعود؟

ـ إننا أنصتنا لهذه المطالب منذ طرحها وحاولنا التجاوب معها منذ البداية لأننا مقتنعون تماما بأن هذه مصلحة الكنيسة والرعية على السواء. فليس من الطبيعي ان تسود علاقات اغتراب وعدم ثقة. ونحن مقتنعون بأن الطائفة لا تطرح هذه المطالب ضد اليونان، بل سمعت من معظم ممثلي الرعية أنهم معنيون بالتعاون والشراكة وليس بالعداء. لهذا قررنا أن نخطو هذه الخطوة، ونحن مستعدون لتقديم أي ضمان يطلبونه.

* الطرف الآخر أيضا يبدي الاستعداد نفسه.

ـ الطرف الآخر يدعي ذلك، لكن من يعرف حقيقتهم وحقيقة التصريحات التي أدلوا بها ضد الطائفة وضد العرب وضد الرئيس الفلسطيني، يدرك ان تصريحاتهم مجرد حبر على ورق واستمرار لمسلسل الخداع والغش. والأهم من ذلك ان هناك بطريركاً واحداً، لا أكثر، وهو الذي يملك صلاحية القرار.