شرطة الحدود تعاني البطالة .. وسكان مدينة وجدة اعتادوا الفطور بخبز الجزائر الساخن

وهم الحدود المغلقة بين المغرب والجزائر

TT

إذا كان لمناطق الحدود بين الدول أسرارها الخاصة التي تلفها بغموض يولد رهبة في الأعماق، خصوصا عندما يتعلق الأمر بدولتين تعيشان على إيقاع تحرش دائم منذ استقلالهما بل يصبح الأمر أكثر اثارة عندما نعلم ان هاتين الدولتين هما المغرب والجزائر، بيد أن ما يميز أسرار الحدود المغربية ـ الجزائرية هو أنها مفتوحة، فالخبز الساخن الذي يتناوله المغاربة في وجدة (شرق المغرب) هو نفسه الذي عجنه جارهم الجزائري في مدينة مغنية (غرب الجزائر) في ما وراء الحدود، كما أن البنزين الذي يباع في اغلب أزقة المدينة الشرقية المغربية خارج من أعماق الصحراء الجزائرية، واغلب السيارات في وجدة تسير بالوقود الآتي من الجزائر، مثلما أن اغلب سكان مدينة مغنية الجزائرية يرتدون ملابس صنعت في معامل مدينة الدار البيضاء.

كانت قارورات البنزين الجزائري تباع علنا على طول الطريق المؤدية الى مركز زوج بغال، الحدود الرسمية بين المغرب والجزائر. السيارات تقف لتملأ خزاناتها ببنزين يحمل هوية جزائرية ولا يكلف إلا ربع ثمن البنزين المغربي: «الشباب جمعيهم انخرطوا في بيع البنزين بسبب العطالة المنتشرة في المدينة، فهناك العديد من حاملي الشهادات العليا الذين يقضون اليوم كله في ملء خزانات السيارات بالوقود الجزائري. إنها التجارة الرائجة رغم الحدود المغلقة بين البلدين، لدرجة أن اغلب محطات البنزين في وجدة أغلقت أبوابها بعدما كسدت تجارتها»، يقول احد بائعي البنزين الذي لا تظـهر ملامحه جيدا تحت أضواء عمومية باهتة، وهو يملأ خزان السيارة بالبنزين قبل أن يضيف زميله: «هذا البنزين الذي تسير به اغلب سيارات وجدة يأتي من مدينة مغنية منقولا عبر الحمير أو سيارات التهريب ويدخل عبر منطقة سيدي يحيى غير المحروسة ومنها يغزو خزانات السيارات المغربية».

وهكذا، فما عدا تجارة البنزين الرائجة، فإن جميع الفنادق الممتدة على الطريق الطويل المؤدي إلى «زوج بغال» مغلقة نتيجة انتقال الرواج التجاري الى منطقة عبور سرية، وأصحاب الفنادق أصابهم اليأس، فأغلقوا أبواب فنادقهم أو انخرطوا فى بعض «الأنشطة الموازية» التي تدر عليهم أموالا تعينهم على تسديد فواتير مكدسة فوق مكاتبهم.

لاح مركز «زوج بغال»، ما بعد منتصف الليل، في الأفق وكأنه نهاية العالم أو ضفة برية ينتهي عندها عالم، ليبدأ آخر. كان الهدوء مخيما، ونسمات الصيف العليلة تربض في كل الأرجاء، ولا يقض مضجعها غير أصوات بعض الحشرات التي وجدت في المعبر الحدودي مكانا آمنا لها، فهذه الأرض لم تطأها قدم منذ أزيد من 11 عاما بسبب إغلاق الحدود بين المغرب والجزائر واستمرار فصول التشنج بينهما. كان العلم المغربي يرفرف بعيدا وخلفه تماما العلم الجزائري حيث مركز العقيد لطفي. وبحكم العادة يلتقي الشرطيان المغربي والجزائري ليلقي كل واحد منهما التحية على الآخر بطريقة آلية والالتزام بشروط «الطلاق» المفروض منذ أعوام طويلة.

أسرع احد رجال الشرطة الى الحواجز الأمنية بمجرد سماع صوت محرك سيارة تتوقف ليخرج منها غريب يشير بسبابته إلى ما وراء الحدود. بدا أن خروجه من المركز بحثا عن التسلية أكثر منه للتحقق من هوية الوافدين الذين قلما يأتون الى مركز مهجور، فالشرطي سئم بدوره من الانتظار، إذ قلب شفتيه قائلا «كانت الحدود، ستفتح قبيل أشهر قليلة، لكن التصريحات التي أدلى بها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بخصوص ملف الصحراء جعلت كل شيء يتهاوى، رغم أن الرئيس بوتفليقة نفسه درس بثانوية عبد المومن في وجدة، وشقيقته ما زالت تقطن بها حتى الآن». ويضيف شرطي الحدود «لا شيء يدل حاليا على أن الحدود ستفتح، فلم نلتقط أية إشارة جديدة تدعونا الى الاستعداد لذلك». ثم يشير رجل الأمن بسبابته الى أشغال البناء في احد المقاهي المحاذية للمركز الحدودي، قائلا «صاحب هذا المقهى بدأ أشغال البناء بعدما لاحت بشائر فتح الحدود، لكنها تحولت الى نذر، إلا أنه لم يوقف الأشغال على أن يتحقق ذلك في يوم من الأيام، عسى أن يكون هذا اليوم قريبا».

وأمام الفراغ الذي يأكل عناصر الدورية المكلفة حراسة الحدود الدولية المهجورة مع الجزائر، يقضي رجال الشرطة وقتهم في لعب الورق أو انتظار ساعة الانصراف الى منازلهم بعد ساعات عمل طويلة مملة، فأجهزة الأمن المكلفة حراسة المنطقة الحدودية الشهيرة لم تستقبل أي مغربي أو جزائري منذ أعوام، بل صار العمل في هذه النقطة أشبه بعقاب تتخذه إدارة الأمن في حق بعض موظفيها، والأمر نفسه ينسحب على رجال الأمن الجزائريين.

وأمام هذا الهدوء المخيف الذي يلف الحدود الرسمية بين المغرب والجزائر، ظلت الحركة بدون انقطاع عن عدد من نقاط العبور السرية التي يباع فيها كل شيء، فمنذ الصباح الباكر تجتاح آلاف الليترات من البنزين الجزائري ومعها الخبز ومشتقات الحليب والجبن، التراب المغربي.

كان شرار القيظ المتطاير في سماء المنطقة الحدودية بين المغرب والجزائر يولد في النفس إحساسا بالاختناق ويتعمق هذا الشعور عندما يعلو الغبار طريقا غير معبدة تغزوها الحجارة. وفوق بناية أخرى نقطة للحراسة ظهر العلم المغربي وتحته مباشرة كان جندي الحراسة يؤدي فريضة الصلاة، فيما بقي زميله ينظر الى السيارة التي تعبر في اتجاه الحدود الجزائرية دون ان ينبس ببنت شفة: «نمر الى الجزائر بسهولة وبدون أوراق تعريف لأن الجنود المغاربة والجزائريين يعرفوننا جيدا في هذه المنطقة الحدودية، اذ نذهب الى هناك من أجل زيارة عائلاتنا في مدينة تلمسان التي تبعدنا عن هنا إلا بحوالي 80 كليومترا». يقول محمد الذي يعرف تقاسيم الحدود «عند هذه الحجارة المتراكمة ينتهي المغرب لتبدأ الجزائر، لكن السيارات الجزائرية تتوغل في التراب المغربي أحيانا محملة بحاويات ضخمة من البنزين، تفرغها في براميل بلاستيكية»، وقبل أن ينهي محمد كلامه كان شابان آخران يمران بسرعة فائقة من الطريق الحدودية نفسها حاملين خلفهما حاويات لتعبئة البنزين الجزائري، توقفا عن السير بعدما نودي عليهما. وقال أحدهما ورائحة البنزين تفوح من جميع أنحاء جسده «ننقل هذه الحاويات من الحدود، لكننا لا نعبر الى التراب الجزائري بل نقف في التراب المغربي، وتأتي السيارات الجزائرية التي تزودنا بما يكفي من البنزين الذي ننقله الى محطات الوقود في بعض نقط الحدود أو إلى باعة في الطرقات، لكننا هذه المرة عدنا بخفي حنين بسبب درجة الحرارة المرتفعة، التي تفرض علينا نقل البنزين في الصباح الباكر»، ويضيف زميله الذي رفض الخوض في مثل هذه المواضيع خوفا من فقدان عمله «أحيانا نتعرض لاعتداءات من طرف الجنود الجزائريين، فأحد أصدقائنا صار يعاني من إعاقة في يده اليمنى بعدما أصابه رصاص الجنود أثناء محاولته نقل البنزين من الحدود».

ويشرح هذا الشاب العملية التي يتم بها تهريب البنزين «غالبا ما تكون هناك مقايضات بين كبار التجار المغاربة والجزائريين، فالمغاربة يقدمون الخضروات والفواكه التي تشتهر بها محافظة بركان (القريبة من مدينة وجدة) وسراويل الجينز القادمة من معامل الدار البيضاء، مقابل الحصول على البنزين ومشتقات الحليب والجبن وغيرها». وتتغير نبرة الشاب مضيفا «هناك من لم يأكل الجبن في حياته إلا بفضل المواد المهربة التي تدخل من التراب الجزائري، إنها الحقيقية».

لا تتعدى الحدود بين المغرب الجزائر في هذه المنطقة بالذات، كونها كومة حجارة متكدسة يعبرها المرء من دون عناء، بل لا يضطر أحيانا الى رفع قدمه من اجل اجتياز الحجارة بسبب إنشاء المهربين لمنافذ للدخول الى التراب المغربي. وبعد بضع خطوات من المكان الذي كان يحكي فيه الشابان قصتهما عن التهريب، أشار محمد بسبابته الى جبال تظهر في الأفق متمتما «العبور الى تلمسان سهل، يكفي أن نتفاهم مع الجنود، وفي اغلب الحالات لا تكون هناك مشاكل»، وتحت إحدى الأشجار كان مواطن جزائري جالسا بهدوء، اكفهر وجهه غضبا عندما سمع كلاما عن كيفية اجتياز الحدود لملاقاة العائلات في تلمسان، متحدثا بصوت لا يخلو من الرجفة «لا علاقة لي بمثل هذه المواضيع، ولا يمكنني الخوض فيها»، قبل ان يضيف «إذا كان لكم عائلة في تلمسان ما عليكم إلا أن تتفاهموا مع الجنود، فأنا لا أعرف شيئا».

وبما انه ليست هناك منطقة حدودية بدون أسرار أو ألغام، فإن محمد توقف فجأة أثناء العودة من التراب الجزائري، أمام قطعة أرضية غير محروسة قائلا «هذه الأرض لا يقترب منها أحد لأنها مزروعة بالألغام منذ عهد الاستعمار الفرنسي. العديدون أصيبوا بعد انفجار بعضها، بل إن شابا لفظ أنفاسه الأخيرة اثر انفجار لغم كان يعبث به. ورغم أنه مرت على هذا الحادث أعوام طويلة، غير أننا نحترز من المشي فوقها». وتحكي سيدة أخرى من مدينة وجدة قائلة «عندما كنا صغارا كنا نسبح في البحر قرب مدينة السعيدية، أحيانا لا ننتبه أننا دخلنا الى الجزائر إلا عندما يركض والدنا خلفنا صارخا: ارجعوا لقد دخلتم الى الجزائر».

وهكذا، فبمجرد ما يجتاز المرء المركز الحدودي المهجور «زوج بغال» ينتهي مفهوم القانون والتأشيرة، وتفقد قرارات الساسة فعاليتها، ليبدأ منطق آخر يغلب إرادة «الخبز» والركض اللاهث خلف الأموال، وفق المنطق القائل إنه عندما يغلق الساسة الأبواب، فإن على الشعوب أن تفتح النوافذ.