الموت جوعاً بصمت يستجلب مزيدا من ضحاياه في النيجر

«أطباء بلا حدود» تحذر من اتساع كارثة المجاعة إذا لم تصل المساعدات خلال أيام.. و50 طفلاً يموتون أسبوعياً في منطقة واحدة فقط من الجنوب

TT

المشهد ذاته يتكرر في افريقيا... الموت جوعاً بصمت يستجلب مزيداً من الموت في القارة السمراء... يجب ان يموت اطفال النيجر وهم يتضورون جوعاً بالعشرات أمام عدسات التلفزيون كي يحرك المجتمع الدولي ساكناً.. المحظوظون منهم قد يجدون حفنة من اوراق شجر مُر يسدون بها رمقهم الى حين وصول مساعدات موعودة.. قد تصل متأخرة فيسبقها الموت اليهم. هذا حال حوالي ثلاثة ملايين من سكان النيجر اليوم، والذين يتجاوز عددهم 11 مليوناً بقليل.. ليس لديهم حروب داخلية او خارجية.. والمجاعة التي فتكت بهم ناتجة عن كارثة طبيعية صرفة سببها زحف الجراد وقلة الامطار. لكن المجتمع الدولي تخلف عن مساعدتهم بنحو ستة شهور قبل ان يبدأ ارسال مساعدات قليلة وصلت الدفعة الاولى منها قبل ايام.

«الشرق الأوسط» اتصلت هاتفياً باقليم مارادي اكثر المناطق المتضررة بالمجاعة في النيجر، وسألت ميكو تارازيان المدير الميداني في منظمة «أطباء بلا حدود» الانسانية الفرنسية عن الوضع الحالي للسكان في الاقليم وعن حجم الكارثة التي حلت بهم، فأجاب: «ان مارادي تقع في جنوب النيجر على مسافة نحو 700 كلم من العاصمة نيامي، وعندما وصلت الى المنطقة في منتصف مايو (أيار) الماضي كان يوجد فيها مركز واحد لتوزيع الطعام و10 عيادات متنقلة لحالات الجوع الأكثر سوءا. ويتسع المركز لـ 150 سريراً مخصصة للاطفال الذين لا تزيد اعمارهم عن الخامسة، وكانت كلها مشغولة بالمرضى. وفي الاسبوع الثاني من وصولي ارتفع عدد الاطفال الذين نعالجهم الى 280 حالة، وفي الاسبوع الثالث الى 345 وفي الرابع الى 450 حالة، ذلك اننا نسجل احصاءاتنا اسبوعيا كل يوم أحد. وفي مطلع الشهر الجاري كان عدد المصابين بسوء التغذية وصل الى 600 وارتفع العدد الاحد الماضي الى 939». وحذر من ان هذا العدد قد يتضاعف الاسبوع المقبل في حال لم تصل مساعدات عاجلة الى المنطقة. وقال «سنكون أمام كارثة أكبر لا أعرف كيف يمكن مواجهتها».

سألته عن عدد الوفيات بين هذا العدد من المصابين، فقال ان نسبتهم تصل الى خمسة في المائة أي حوالي 50 حالة وفاة اسبوعياً بين الاطفال في هذا المركز وحده. منسق الأمم المتحدة للمساعدات الإنسانية الطارئة جان إيغيلاند كان أكد في حديث تلفزيوني قبل ايام ان برنامج الغذاء العالمي التابع للمنظمة الدولية وحكومة النيجر كانا وجها نداء عاجلاً لجمع 16 مليون دولار في مارس (أذار) ومايو (ايار) وتشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ولكنهما لم يحصلا عملياً على أي شيء. وقال ان الازمة كانت متوقعة بوضوح منذ العام الماضي بسبب تلف المحاصيل القليلة التي كانت ستجنى، وذلك بسبب غزو الجراد وقلة الامطار. وقال «النيجر تعتبر اهم مثل على تجاهل المجتمع حالات الطوارئ حيث الانذارات المبكرة ذهبت ادراج الرياح». وقال: «أخيراً.. استيقظ العالم خلال الأيام القليلة الماضية، لكن ذلك لم يحصل إلا بعد ظهور صور تلفزيونية لأطفال يتضورون جوعاً ثم يموتون». وأشار الى ان النيجر حصلت على تمويل لمكافحة الجوع خلال الايام العشرة الماضية يفوق ما حصلت عليه خلال الشهور العشرة الماضية.

وتقول الامم المتحدة ان اكثر من 150 ألف طفل يتضورون جوعاً وهم معرضون للموت في اي لحظة، وأن شخصاً واحداً من كل عشرة يستطيع الوصول الـى مراكز توزيع الغذاء. تارازيان أكد لـ«الشرق الأوسط» أن العدد الذي اعلنته حكومة النيجر عن المتضررين بالمجاعة يصل الى ثلاثة ملايين، وحوالي 20 في المائة منهم أطفال تحت سن الخامسة. وأشار الى ان منظمة «أطباء بلا حدود» دقت ناقوس الخطر في فبراير (شباط) 2004، وبدأت عملياتها منذ ذلك التاريخ في المنطقة.

وماذا عن بقية منظمات الاغاثة الدولية، وعن كمية الاغذية التي وصلت اخيراً الى المنطقة؟ أجاب: «ليس هناك عمليات توزيع للاغذية، والكمية التي وصلت اخيراً قيل ( 700 طن من برنامج الغذاء العالمي و16 طناً من الصليب الاحمر البريطاني) تشكل نقطة في محيط، فالسكان، بحسب تقديرات عدة، يحتاجون الى ?? ألف طن على الاقل.. أما عن المنظات الأخرى، فقد وصلت منظمة سيف ذي تشيلدرين فاند (صندوق انقاذ الطفل) البريطانية، ومنظمة إسبانية الاسبوع الماضي ويتعاملون مع الحالات المتوسطة من سوء التغذية». وكانت حكومة النيجر حذرت مجدداً من ازمة غذائية منذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بعد الجفاف الذي ضرب البلاد وموجة الجراد التي اتت على ما تبقى من المحاصيل الزراعية. وتقول الامم المتحدة الآن انها تحتاج الى اطعام عدد من اهل النيجر يزيد عن ثلاثة أضعاف مما كانت تتوقعه سابقاً. وتؤكد منظمة «اطباء بلا حدود» التي تدير معظم مراكز الاطعام «ان نحو ثلث السكان ليس لديهم أي شيء يأكلونه وهم يقتاتون أوراق الشجر والاستجابة الدولية غير كافية». وتعتبر النيجر ثاني افقر بلد في العالم فحتى خلال السنوات غير العجاف يموت طفل من بين كل اربعة اطفال بسبب عدم توافر الغذاء او الرعاية الصحية والفقر المدقع. لكن الجفاف وزحف الجراد والمجاعة زادت من سوء مستوى المعيشة. وتقول الامم المتحدة أن أي عملية إغاثة واسعة لإطعام نحو ثلاثة ملايين شخص مهددين بالموت جوعاً ستحتاج الى شهرين على الاقل. لكن النيجيريين يتساقطون كالذباب وتحمل امهاتهم الثكلى اطفالهن الموتى ملفوفين بقطعة قماش على ظهورهن لدفنهم بعيداً عن انظار المجتمع الدولي الذي يقول ان افريقيا وشعوبها من اولوياته. ورغم انعقاد قمة الدول الثماني في غلين ايغلز باسكوتلندا مطلع الشهر الحالي والتي وعدت بمنح مليارات الدولارات كمساعدات لافريقيا، لم يتم تخصيص أي مبالغ في هذه القمة لدرء كارثة المجاعة عن النيجر. ورغم احتفالات «لايف 8» الموسيقية في انحاء عدة من العالم التي رافقت تلك القمة بهدف «جعل الفقر تاريخاً» فان المجاعة لا تزال تهدد اجزاء واسعة من القارة. فبينما بدات انظار العالم تتحول اليوم نحو النيجر يعاني نحو 18 مليون شخص من المجاعة في عشر دول أفريقية معظمها في دول بمنطقة القرن الافريقي بسبب نقص حاد في الغذاء، وتتقاتل القبائل في ما بينها في بعض هذه الدول للسيطرة على مصادر الماء والكلأ، بينما تضطر العائلات البائسة الفاقدة الامل من خذلان المجتمع الدولي، الى السير مسافات طويلة للبحث عن الطعام. ويعاني اكثر من نحو 9 ملايين شخص من المجاعة في اثيوبيا وحدها، وهي اكثر دولة تتهددها المجاعة في المنطقة بحسب تقرير اصدرته شبكة الانذار المبكر للمجاعة في اديس ابابا، كما يواجه نحو نصف سكان اريتريا البالغ عددهم نحو 4.5 مليون المجاعة. كما يعاني 2.69 مليون اوغندي ونحو مليون صومالي ومائة ألف جيبوتي من الكارثة نفسها. اما الدول الأخرى المهددة فتشمل السودان ورواندا وتنزانيا وكينيا وبوروندي، وتوجد اسوأ حالات سوء التغذية بين الاطفال في شمال شرق كينيا وشرق اثيوبيا.

وعودة الى النيجر، يقول تارازيان لـ«الشرق الأوسط» ان «ما يحتاجه السكان بصورة عاجلة الآن، هو تنظيم سريع لتوزيع الاغذية مجاناً للمتضررين، وضمان حصول المرضى على علاج مجاني. لأن المريض الذي لا يملك امولاً للعلاج يبقى في منزله يموت موتاً بطيئاً». وأشار الى ان منظمته لا تستطيع العمل لوحدها، مناشداً المجتمع الدولي سرعة التحرك في ارسال المعونات الغذائية. اقل من 15 في المائة من سكان البلاد المتضورين جوعاً يستطيعون الوصول الى مراكز توزيع الغذاء التي تديرها «اطباء بلا حدود» والامم المتحدة، وحتى بعض اولئك الذين يحصلون على نزر قليل من الغذاء يعجزون عن مقاومة الموت بسبب عارض «ماراسموس» الذي ينشأ عندما تبدأ اجسادهم الجوعى بالانحلال او نتيجة امراض معدية لا يمكن لاجسادهم السقيمة مقاومتها. مراسله التلفزيون البريطاني «بي.بي.سي» هيلاري أندرسون نقلت من جنوب النيجر مشاهد لسكان يقتاتون على اوراق الشجر واعشاب للبقاء احياء، وتابعت عائلة تتنقل مسافات طويلة للوصول الى مركز إطعام، وتقاسمت تلك العائلة المؤلفة من خمسة اشخاص فأراً التقطه احد افرادها في الصحراء، وكان غذاءها لذلك اليوم. إبراهيم كويني قال لمراسل وكالة «أسوشيتد برس» : «كل شيء يمكن للمعدة ان تستوعبه نأكله.. نأكل اي شيء يهدئ الجوع.. اليوم اتينا لنأكل بعضا من اوراق الشجر نفسها التي كنا نطعمها لأبقارنا. وتقول منظمة «يونيسيف» ان اوراق شجر الاكاسيا توفر بعض الغذاء لكنه ليس كافياً لانه يفتقد مواد «الزنك» و«المغنيزيوم» والبروتينات. وأن الكبار يمكن ان يستفيدوا من سعرات حرارية قليلة من هذه الاوراق، لكن السعرات الحرارية لوحدها غير كافية لابقاء الاطفال أحياء.