العلاقات الإسرائيلية ـ الفرنسية في شهر عسل ثان

هل حققت زيارة شارون إلى باريس الانعطاف المرجو؟

TT

في أواسط شهر ابريل (نيسان) من السنة الماضية، كتب الصحافي الاسرائيلي المعروف، عكيبا الدار، مقالا اختتمه بالكلمات التالية: «أموت في حب فرنسا، لكن مشكلتي معها ان من يعيش فيها هم الفرنسيون». الدار هذا هو محرر في صحيفة «هآرتس»، لكن مكانته في اسرائيل عالية، وهو الذي اختاره رئيس الوزراء، أرييل شارون، في حينه ليدعوه الى طعام الإفطار في بيته وكشف أمامه لأول مرة عن خطته للانسحاب من قطاع غزة وبعض المناطق شمال الضفة الغربية واجلاء المستوطنين منهما، مما يعني انه قريب من مركز القرار وقادر على قراءة الأفكار في المؤسسة الحاكمة. فعندما يتوجه بتلك القسوة الى فرنسا والفرنسيين، فقد كان يعبر عن الأجواء السائدة في مرافق الحكم ولا يقول مجرد رأي شخصي.

في تلك الأيام بلغت الأزمة أوجها ما بين اسرائيل وفرنسا. فقد هاجمت اسرائيل فرنسا واتهمت حكومتها على تشجيع اللاسامية فيها، وهو الوصف الذي يطلقه الاسرائيليون على كل مظهر للعداء لاسرائيل. ودعا شارون اليهود الفرنسيين علنا للهجرة الى اسرائيل باعتبار ان الحكومة الفرنسية لا توفر لهم الحماية. ورد السفير الفرنسي في تل أبيب، جرار آرو، بتصريح حاد قال فيه ان الاسرائيليين يعانون من عقدة نفسية من العداء لفرنسا، وأضاف في محاضرة علنية في اسرائيل «أنتم تتمتعون بالعداء لنا». وراحت الأزمة تشتد بين الطرفين. وفجأة، بدأت الأمور تتجه في اتجاه آخر نحو الايجابية.

هذه الطلعات والنزلات ميزت العلاقات بين البلدين منذ نشوء اسرائيل عام 1948. فالحكومة الأولى في تل أبيب فرحت لانضمام فرنسا الى مؤيدي قرار تقسيم فلسطين، لكنها فوجئت بقرار باريس وضع شروط عليها مقابل الاعتراف بها. ومع ان اسرائيل قامت في 15 مايو (أيار) 1948، فان الاعتراف الفرنسي تم فقط عام 1949 وبعد ان استجابت اسرائيل للشروط الفرنسية وهي: دفع تعويضات عن الخسائر التي لحقت بالمؤسسات الفرنسية من جراء الحرب، منح المؤسسات الفرنسية المسيحية في اسرائيل مكانة مميزة، والاعتراف بالمكانة الخاصة لفرنسا كحامية للمرافق المسيحية في الأراضي المقدسة. دافيد بن غوريون، رئيس الحكومة الاسرائيلية الأول، لم يصفح للفرنسيين هذا الموقف الذي اعتبره ابتزازا. وقال ان فرنسا هي بلد غير مأمون الجانب بالنسبة لاسرائيل. ولكنه عاد وغير رأيه عندما قررت الولايات المتحدة فرض حظر على بيع الأسلحة للشرق الأوسط، بما في ذلك اسرائيل. فاضطر الى اللجوء الى فرنسا في عهد رئيس الحكومة ووزير الدفاع، موريس مونرو. فوجد آذانا صاغية، بل فتحوا له الباب على مصراعيه لأخذ كل ما يريد. وزودوه بأحدث الأسلحة والمعدات، بما في ذلك الطائرات. وتجاوبت اسرائيل مع الخطة الفرنسية ـ البريطانية لضرب نظام الثورة المصرية بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، انتقاما منه على قراره تأميم قناة السويس (العدوان الثلاثي الإسرائيلي ـ الفرنسي ـ البريطاني سنة 1956). وبعد الحرب، وافقت فرنسا على توفير الخبرات لبناء فرن نووي في ديمونة بعد الاقتناع بأن اسرائيل لن يهدأ لها بال الا اذا كانت مسلحة بأقوى الأسلحة وأخطرها. وظلت العلاقات قوية بين البلدين حتى حرب حزيران سنة 1967. فقد أدان العرب فرنسا على دورها في تقوية اسرائيل. وشعرت فرنسا بأن اسرائيل بالغت في استخدام القوة. وعندما طلبت فرنسا من اسرائيل ان تحاول الافادة من الوضع الجديد للتفاهم مع العرب، ردت بشيء من العنجهية والغطرسة. وكان الفرنسيون يذكرون في تلك الفترة احدى مقولات زعيمهم الكبير، تشارل ديغول، عن اليهود «شعب مغرور ومتسلط». فبدأت العلاقات تتدهور بينهما وقررت فرنسا فرض حظر على بيع الأسلحة الى اسرائيل. وردت اسرائيل باستخفاف، اذ انها توجهت الى الولايات المتحدة، فوجدتها فاتحة لها ذراعيها.

وهكذا انخفض مستوى العلاقات بين فرنسا واسرائيل بشكل حاد وانتهى بينهما شهر العسل، وحلّت الولايات المتحدة محلها في بيع السلاح والدعم وإعطاء الغطاء الدولي والمساندة السياسية. وأصبح الصعود والهبوط في العلاقة ذا حدود ضيقة أكثر. وباتت فرنسا في نظر الاسرائيليين دولة بعيدة، مناصرة للعرب بشكل دائم. وراحت تحدد لها مدى تدخلها في أزمة الشرق الأوسط، من دون ان تخفي رغبتها في ان تظل أوروبا كلها وفرنسا بالذات بعيدة عن ساحة الصراع. الا ان اسرائيل لم تكن قادرة على قطع العلاقات معها أو تجميدها تماما، اذ ان فرنسا تعتبر ثالث تجمع لليهود في العالم (يوجد فيها حوالي 650 ألف يهودي)، بعد الولايات المتحدة واسرائيل. وتوجد للجالية اليهودية فيها مكانة مميزة. كما ان هناك علاقات اقتصادية ضخمة بين البلدين. وحسب تقارير سنة 2004، فان حجم التبادل التجاري بينهما زاد عن ملياري دولار أميركي. فالصادرات الاسرائيلية الى فرنسا وصلت إلى 741 مليون دولار فيما الواردات بلغت مليارا و741 مليونا. الجديد في العلاقة بين البلدين يكمن، من الجهة الاسرائيلية فيما يلي:

ـ الجالية اليهودية طلبت ذلك من شارون.

ـ موقف فرنسا القريب من الموقف الاسرائيلي فيما يتعلق بالملف الايراني والتطورات الأخيرة في لبنان.

ـ المعركة الداخلية في اسرائيل، اذ ان شارون أراد ان يظهر لخصومه في اليمين المتطرف انه ما زال يتمتع بالثقة والقوة.

ـ طلب مساعدة فرنسا على وقف الحملات في العالم العربي ضد اسرائيل والمساعدة على إقامة علاقات دبلوماسية أو تجارية بينها وبين العالم العربي.

أما من الجهة الفرنسية، فقد أرادوا تشجيع شارون على السير في طريق السلام، ما بعد تطبيق «خطة الفصل»، وعدم الوقوف عندها. فهذا الموقف يحسب لحساب رصيد فرنسا في اسرائيل، ولدى الجالية اليهودية. وفي فرنسا أيضا توجد مشاكل داخلية للرئيس جاك شيراك، وهو عبر زيارة كهذه يستطيع أيضا الظهور أمام جمهوره على انه أيضا لا يتأثر من المعارضة، لكن غرضه الأساس هو ان يحيي الموقع المميز لفرنسا في عملية السلام بالمنطقة، فهو يريد تعميق هذا الدور، وقد وعده شارون بالموافقة تحت شروط أهمها اتباع النهج الموضوعي في معالجة الخلافات مع الفلسطينيين.