حضور الملك فهد الإيجابي وموقفه الحيادي في إدارة الأمور جعلانا نعيد اللحمة بيننا ونتجاوز خلافاتنا

لبنانيون شاركوا في مؤتمر الطائف يتذكرون الملك الراحل

TT

يدرك اللبنانيون ويعترفون بأنه لولا تدخل الملك فهد (رحمه الله) لما انعقد مؤتمر الطائف الذي انبثقت عنه وثيقة الوفاق الوطني التي وضعت حدا للحرب اللبنانية التي دامت 15 عاما. ترى ما الذي تتذكره بعض الشخصيات اللبنانية التي شاركت وحضرت مؤتمر الطائف، سواء أكانت سياسية أم اعلامية؟ وما الذي يذكره الشعب اللبناني عن الملك فهد، لا سيما أنه كان يكّن للبنان محبة كبيرة، وكان يتصل بأحد المواطنين اللبنانيين ليطمئن على أوضاع البلد ويستفسر عن كافة التفاصيل؟.

عدد من السياسيين الذين شاركوا في مؤتمر الطائف استرجعوا مع «الشرق الأوسط» ذكرياتهم مع الملك فهد، وكيف ساهم بحنكته واعتداله في احتواء جميع الخلافات التي نشبت خلال تلك المفاوضات، وكيف أن اتفاق الطائف لم يكن ليرى النور لولا وجوده.

رئيس الوزراء السابق أمين الحافظ تذكر الملك فهد قائلا: «معرفتي بخادم الحرمين الشريفين تعود الى ما قبل توليه سدة الحكم. التقيته للمرة الاولى في عهد الملك فيصل، حيث كنت رئيس اللجنة الخارجية في المجلس النيابي، فقابلته خلال مؤتمرات عدة، ومن ثم عدت والتقيته خلال مؤتمر الطائف في العام 1989. اتفاق الطائف لم يكن لينعقد لولا مبادرة السعودية». ويضيف «هذه المبادرة أتت تحديدا من قبل الملك فهد بن عبد العزيز الذي كان يكن للبنان معزة خاصة، اذ كان يصطاف في ربوعه. إضافة الى الدور البارز الذي لعبه وزير الخارجية سعود الفيصل الذي اعتبر دينامو هذا الاتفاق. ومن الطبيعي انه مرارا ما كان يختلف النواب لا سيما انهم ينتمون لجهات مختلفة. لكن الدور الذي كان يلعبه الأمير سعود الفيصل بالتشاور مع الملك فهد كان كفيلا بحل العقد». «وأذكر ـ والحديث للحافظ ـ انه عندما احتدمت المشاكل عند نقطة عدد نواب البرلمان ـ اذ أن فريقا اراد ان يكون العدد مرتفعا حتى يتم تمثيل كافة الشرائح اللبنانية بينما أراد فريق آخر عددا أقل حتى لا يسيطر المتطرفون على المجلس ـ علم الملك فهد باحتدام الجدل فأوفد الوزير سعود الفيصل الى دمشق لحل هذه المشكلة. وعندها سويّ الامر وتم الاتفاق على ان يكون عدد النواب 128 نائبا. اذكر يومها كيف شعرنا ان المؤتمر يوشك ان يفشل وبدأنا بجمع اغراضنا. ثم استبشرنا خيرا وتم الاتفاق». ويواصل «الملك فهد كان يتابع بدقة كل مجريات المؤتمر من خلال الأمير سعود الفيصل الذي كان يقيم في قصر المؤتمرات ويتفرغ كليا لنا، إضافة الى الرئيس الراحل رفيق الحريري، الذي كان يتابع كل التفاصيل ويبلغها لخادم الحرمين الشريفين». ويتابع «بعدما تم الاتفاق وقبيل مغادرتنا الى لبنان، أراد الملك فهد ان يحتفي بنا فأقام لنا حفلا في قصره في جدة وهنأنا على ما توصلنا اليه. وتحدث الينا جميعا، وكان يعرف الكثيرين منا، واذكر أنني خلال الحفل جلست الى جانب الأمير عبد الله الذي كان ملما بكافة تفاصيل الحرب اللبنانية. وبالمناسبة الأمير عبد الله يتمتع بذاكرة قوية ويحفظ الاسماء والوقائع».

النائب السابق انور الصباح قال: «الملك فهد كان يتابع ليلا نهارا وعلى مدى 27 يوما كافة تفاصيل مباحثاتنا. وكان على اتصال دائم بالأمير سعود الفيصل ليطمئن الى صياغة كل بند. صحيح ان اتفاق الطائف أقرته اللجنة الثلاثية، لكن الملك فهد تابعه واهتم به، تماما كما يتابع الأب الحنون بشغف وعاطفة شؤون أسرته. وعند حدوث اشكال وتوقف الاجتماعات كان يتدخل شخصيا وينقل لنا رسائل من خلال الأمير سعود الفيصل فنعاود المفاوضات. حتى انه بحال ابدى السوريون انزعاجهم من نقطة ما كان يتصل بهم ويناقشهم. وعندما اختلفنا حول عدد النواب، اوفد الملك فهد، سعود الفيصل الى دمشق ليجتمع والرئيس حافظ الاسد لحل هذه المسألة». ويتابع «روح الملك فهد ونفسه كانا موجودين طوال فترة محادثاتنا. واذكر انه عندما استقبلنا في جدة كان فرحا جدا بأننا اتفقنا، ويومها خص كلا منا بجملة وتهنئة وقوّى عزيمتنا، حتى ان كل نائب خصه بصفة، فوصف امثالي بالشباب. كما استفسر من نواب الجنوب عن اوضاع الشباب وأوضاع القرى المحتلة. كان يعرف العديد منا ويعرف رأي كل منا بالأمور التي طرحت خلال المفاوضات، إذ كان يسأل الأمير سعود حول هذه التفاصيل. الملك فهد بن عبد العزيز هو «أبو الطائف» وفي لقائنا معه احاطنا بحنان وعاطفة لا يوصفان».

اما النائب موريس فاضل فقال: «على الرغم من مرور ستة عشر عاما على مؤتمر الطائف الذي اسس للسلام في لبنان وأنهى الحرب الاهلية فيه، لا يزال خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز ماثلا أمامي بنبرته الحادة، ودبلوماسيته الهادئة، وتواصله مع كافة الفرقاء اللبنانيين مستمعا لآرائهم، حاضنا همومهم، مفسحا المجال لكل منا أن يكون له الدور الاساس في رسم الخريطة السياسية للبنان المستقبل». ويضيف «لا اخفي أمرا إذا قلت إن الراحل عزم على إنهاء الأزمة اللبنانية يوم سعى لعقد المؤتمر في الطائف. وقد ظهر ذلك في اصراره على تجاوز كل العقبات، وعلى تأكيده في كل الجلسات، عامة أو خاصة، على محبته للبنان، وعلى خصوصية لبنان، وعلى دوره الريادي في العالمين العربي والإسلامي، فشكل حضوره الايجابي هذا حافزا لنا كي نعيد اللحمة بيننا ونتجاوز خلافاتنا، خاصة ان موقفه الحيادي في إدارة الأمور جعل المجتمعين، الى اي فريق انتموا، يلجأون اليه في كل منعطف حاد، وفي القرارات المصيرية التي سيخرج بها المؤتمر. وعندما تم التوقيع على اتفاقية الطائف كانت سعادته عارمة، لأنه وضع حدا للترف البشري في بلد يحبه هو لبنان». ويتابع «اتمنى لو كنت قادرا، وقد مضى ستة عشر عاما، على تذكر التفاصيل الصغيرة في المؤتمر. اليوم، وقد رحل الملك فهد، لا يسعني الا أن اتقدم بتعازي الحارة الى خلفه الملك عبد الله بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير سلطان بن عبد العزيز، والى الشعب السعودي والشعوب العربية والإسلامية. كما انني في الوقت ذاته اتوجه بالتهاني لتولي الملك عبد الله العرش السعودي ليكون خير خلف لخير سلف في محبته لشعبه ولشعب لبنان».

نقيب الصحافة محمد البعلبكي، أحد الذين حضروا مؤتمر الطائف، يتذكر مواقف الملك الراحل خلال المؤتمر فيقول: «لولا الملك فهد لما انعقد مؤتمر الطائف. صحيح ان اللجنة الثلاثية التي كانت تضم الملك فهد والملك الحسن الثاني والرئيس الشاذلي بن جديد اقرت انعقاد المؤتمر، الا ان المبادرة اتت من جانب خادم الحرمين الشريفين، وهي التي عملت على حل الازمة». ويضيف «منذ اليوم الاول على انعقاد المؤتمر اعطى الملك فهد توجيها بأن النواب اللبنانيين لن يخرجوا من هذه القاعة الا متفقين ولو بقوا فيها اشهرا. المحادثات استمرت 27 يوما تخللتها الكثير من الأمور الشائكة التي يحتاج حلها الى صبر حتى يرضى الجميع. الأمير سعود الفيصل كان يمثل الملك فهد. وبتكليف منه كان الرئيس رفيق الحريري يتصل يوميا بالنواب اللبنانيين مستفسرا عما آلت اليه المباحثات، ويتدخل لتسوية الخلافات للتوصل الى حل يرضي كل الاطراف. الملك فهد كان متابعا بصورة يومية من خلال الأمير سعود الفيصل والرئيس الحريري. وكان هناك وفد سعودي رفيع يشرف على مجريات المؤتمر. وبعدما توصل النواب الى حل دعي الوفد اللبناني الى حفل في قصر الملك فهد، فكان مسرورا جدا ومعتزا بالنتيجة التي توصلوا اليها وكأن القضية تخصه شخصيا». ويتابع «اذكر انه كان يعرف الكثير عن النواب والشخصيات اللبنانية. وارتأى أن يعلن الميثاق في قصره وبحضوره. أراد أن يشارك كل من رئيس الحكومة الدكتور سليم الحص والعماد ميشال عون في الاحتفال، فأرسل الأخضر الابراهيمي بطائرته ليدعوهما ويعود بهما، فوافق الرئيس الحص على الحضور، الا ان العماد عون لم يوافق فالتزم معه الرئيس الحص. الملك فهد هو من رعى اتفاق الطائف الذي انتشل اللبنانيين من حالة الحرب التي كانوا فيها. وسيظل الشعب اللبناني ممتنا له».

هيكل رشيد عماد عامل السنترال في صحيفة «النهار» منذ 40 سنة، ويبلغ اليوم الثامنة والخمسين من العمر. في خضم الحرب الاهلية اللبنانية وبينما الخطوط الهاتفية مقطوعة كانت صحيفة «النهار» من ضمن المؤسسات القليلة في لبنان التي لديها خطوط هاتفية، ويقوم العديد من الشخصيات بالتحدث من خلال خطوطها. موظف السنترال هيكل كان على اتصال يومي بالملك فهد على مدى اربعة أعوام، منذ العام 1987 وحتى العام 1991. ويروي هيكل حكايته مع الملك فهد، قائلا: «يوميا وما بين الساعة الثالثة والخامسة وبينما يكون الملك فهد جالسا والشيخ رفيق الحريري، كان يتصل بي الملك فهد شخصيا طالبا مني ان اوصله بعدد من السياسيين اللبنانيين. وبينما أقوم بالاتصال بهم كان يبقى منتظرا على الخط ويسألني عن اوضاع البلد. كان يتصل بكل الأطراف السياسية ومن مختلف المستويات، من رئيس الجمهورية الى رؤساء الحكومات وصولا الى النواب. الملك فهد كان يسألني عن اوضاع حياتنا اليومية، عن توفر المياه والكهرباء، وأي طرقات مفتوحة وأيها مغلقة، وأي جبهات هي الأكثر اشتعالا. كان يستفسر حول ادق التفاصيل». وتابع «الملك فهد شخص متواضع جدا، كان يتصل مباشرة ويطلب مني ان اوصله بفلان وعلان. لم اكن اصدق ان ملك دولة غنية وقوية مثل المملكة العربية السعودية متواضع الى هذه الدرجة. اذ لم يتصل بي يوما عبر سكرتيره أو مساعده. ومن الشخصيات اللبنانية التي كان يتصل بها النائب بيار حلو ورئيس الحكومة السابق تقي الدين الصلح ورئيس الحكومة سليم الحص والنائب مروان حمادة والنائب ميشال سماحة. وكان يهتم جدا بوضع لبنان. واشعر من دقة طريقة طرحه للاسئلة كأنه مواطن لبناني يستفسر عن اوضاع اهله».

ويواصل هيكل بقوله: «الأمير عبد الله كان يتصل بي ايضا ويطلب مني ان اوصله بعدد من السياسيين. وهو شخصية ودودة، ومرارا ما كان يمازحني. يذكر ان غسان تويني كان يوعز لنا بتلبية اتصالات عدد من الشخصيات العربية. وأبرز من كان يتصل بي الملك فهد والأمير عبد الله وياسر عرفات والشيخ رفيق الحريري».