شكوك حول عودة مكوك الفضاء إلى التحليق ثانية

البديل مركبة فضائية جديدة عام 2010 للذهاب إلى القمر والمريخ

TT

بعد عودة مكوك الفضاء «ديسكفري» قبل أيام إلى الأرض بسلام شرعت وكالة الفضاء والطيران الأميركية (ناسا) تحول أنظارها إلى المهمة المقبلة للمكوك وسط مخاوف كبيرة من قيام المسؤولين الأميركيين الكبار، وعلى رأسهم نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني المسؤول عن ملف الفضاء في الإدارة الأميركية، بوقف هذه الرحلات نهائيا بسبب عامل السلامة. وفي الوقت نفسه بدأ قطاع من العلماء يثير شكوكا وتساؤلات حول جدوى برامج الفضاء للبشرية، خصوصا في ظل تكلفتها المالية الخيالية.

وتأتي هذه المخاوف على الرغم من أن العديد من مسؤولي «ناسا» يتمسكون بضرورة استمرار برامج الفضاء. ويقول مدير ناسا، مايك غيفن إن «الخطأ الوحيد الذي حصل خلال رحلة ديسكفري الاخيرة كان سقوط قطعة من الرغوة العازلة أثناء انطلاقه». وكان غيفن قد أمر بوقف رحلات ديسكفري إلى أن يعثر المهندسون على حل نهائي لهذه المعضلة. ويبدو ان الصعوبات ومشاكل السلامة، وبينها احتراق مكوكين من هذا الأسطول الفضائي مع طواقمهما، قد رافقت هذه المركبة الفضائية العملاقة التي يزيد وزنها عن 100 طن منذ بداية رحلاتها قبل أكثر من عقدين ونصف من الزمن، فضلا عن الأعباء المالية الثقيلة التي يسببها أسطولها الصغير، خاصة وأن تكاليف الرحلة الواحدة قد تقارب الـ 200 مليون دولار، أي ما يقارب خمس كلفة تشييد المكوك ذاته.

في أي حال كان من المقرر إطلاق المكوك أتلنتس في شهر سبتمبر (آيلول) المقبل، لكن مسؤولي «ناسا» لا يتوقعون ذلك، وأحد أولى الأسباب أن المهندسين لم يتمكنوا حتى الآن من حل مشكلة تساقط الرغوة التي تعزل جسم المكوك من الحرارة العالية التي تسببها عودته من مداره إلى جو الأرض بفعل الاحتكاك الشديد بالهواء، والثاني توقع قيام الإدارة الأميركية بتوقيف رحلات المكوك نهائيا، سواء حلت مشكلة الرغوة العازلة أم لا.

وكان مهندسو «ناسا» قد استأنفوا العمل لحل مشاكل خزان وقود المكوك بعد تسجيلات وصور فوتوغرافية أظهرت انفصال أجزاء كبيرة من المادة العازلة عن خزان وقود «ديسكفري» أثناء انطلاقه للمدار يوم 26 يوليو (تموز) الماضي.

وخلافا لما حدث مع المكوك «كولومبيا» المشؤوم لم ترتطم المادة العازلة ببدن «ديسكفري»، إلا أن «ناسا» أوقفت رحلات المكوك حتى يتم التوصل لحل لهذه المشكلة. وقال بيل جرستنماير، مدير برنامج محطة الفضاء، والذي يشرف أيضا على جهود دراسة وحل مشكلة خزان الوقود في مؤتمر صحافي أول من أمس «لم نجد حلولا سريعة وسهلة». وأضاف ان «الاحتمال المرجح بنسبة كبيرة هو أن نجري تعديلات هندسية طفيفة للخزان، وحتى نقوم بذلك من المحتمل ألا نلحق بفرصة الإطلاق في سبتمبر». وكانت «ناسا» تأمل بإطلاق المكوك «اتلانتس» في سبتمبر في رحلة تجريبية ثانية تهدف أيضا لخدمة محطة الفضاء الدولية. وانفصلت كتلة كبيرة من المادة العازلة عن خزان وقود «كولومبيا» أثناء الإطلاق وارتطمت بجناحه الأيسر. ولدى عودته بعد 16 يوما اندفعت غازات الغلاف الجوي الشديدة السخونة في الفجوة التي أحدثها ارتطام المادة العازلة ببدن المكوك ودمرته. وقتل رواد الفضاء السبعة الذين كانوا على متن المكوك.

وقضت ناسا عامين ونصف في أبحاث وأنفقت مليار دولار في محاولة لإصلاح مشكلة الخزان وإجراء تحديثات أخرى بعد الحادث. وعاد المكوك «ديسكفري» الى الارض يوم الثلاثاء الماضي بعد رحلة فضائية استمرت 14 يوما، وهو أول مكوك يطلق بعد كارثة كولومبيا.

وتفحص خمس فرق من الخبراء السجلات والصور والبيانات الاخرى التي سجلت كل مراحل تصنيع وإعداد وشحن خزان الوقود وحتى الاستعداد لاطلاق المكوك. ويدرس المهندسون أيضا تسجيلات وصورا فوتوغرافية التقطتها عشرات الكاميرات لتحديد متى وأين انفصلت المادة العازلة خلال مرحلة الإطلاق.

ومن المتوقع أن يقضي المهندسون أسابيع في فحص خمس مناطق انفصلت عنها المواد العازلة، وأكبرها تزن 450 غراما من العازل المرشوش يدويا من درع يحمي توصيلات الاسلاك والانابيب خارج خزان الوقود. وقال جرستنماير ان عمليات الاصلاح الروتينية والمحدودة للدرع ربما كانت سببا جزئيا في انفصال المادة العازلة عنه أثناء الاطلاق، لكن من غير المرجح أن تكون السبب الأوحد للمشكلة. وأضاف: «يحتمل أن تكون هناك مشكلة أخرى». وتعتزم «ناسا» في المستقبل القريب نزع كل الدروع وإعادة رشها بالمادة العازلة للتأكد من عدم وجود عيوب كامنة. وقال جرستنماير: «لا أرى أنه يتعين القيام بالعمل من جديد. يبدو انها تفاصيل دقيقة وصغيرة نستطيع تصحيحها». لكنه أضاف ان أول شيء يجب على «ناسا» القيام به هو فهم السبب الذي أدى الى انفصال العازل عن خزان «ديسكفري».

وتبدو «ناسا» في وضع لا تحسد عليه اليوم. فهي واقعة بين المطرقة والسندان. مطرقة الادارة الاميركية التي تهمها السلامة وحياة رواد الفضاء بالدرجة الاولى، فضلا عن قلقها الدائم من تزايد حجم ميزانية الفضاء التي كلما جددتها مع بداية كل سنة مالية دخلت في معركة طويلة من الأخذ والشد مع الكونغرس الاميركي الذي يرى أن هناك وجوها أخرى للانفاق أكثر أهمية من ارتياد الفضاء. أما السندان فهو أن على وكالة الفضاء «ناسا» الايفاء بالتزماتها تجاه محطة الفضاء الدولية التي لم يكتمل بناؤها حتى الآن، رغم أن ما أنفق عليها حتى الان يفوق الـ 90 مليار دولار. وينتظر ان تفوق التكاليف النهائية حين اكتمال تشييد المحطة المائة مليار بهامش كبير. والمعلوم أن مكوك الفضاء يشكل حصان الشغل الاساسي لشحن المعدات والاجهزة الى المحطة، فضلا أنه يشكل منصة كبيرة لتشييدها وإكمال بنائها سواء من داخلها أو خارجها. فقدرة المكوك كبيرة جدا على حمل الاحمال من كل الانواع، بحيث أن بإمكانه نقل ما زنته 25 طنا من المشحونات والمعدات الثقيلة في كل مرة ينطلق فيها الى الفضاء الخارجي. ومن دونه لن تكتمل هذه المحطة التي تعرضت في الآونة الاخيرة الى انتقادات جمة من قبل الهيئات العلمية المختلفة لكونها عجزت عن القيام بمهامها العلمية رغم الاعباء المالية التي سببتها وما زالت تسببها، نظرا الى توقف المكوك عن العمل بعد الحادث الاخير الذي أودى به وبرواده. وخلال توقف المكوك عن العمل لم تتمكن الدوائر الفضائية، حتى من تموين المحطة بحاجياتها الاساسية كما يجب، ومنها المواد الغذائية لإطعام ملاحيها الذين تعرضوا مرارا الى أوضاع خطيرة.

في هذا الوقت ليس أمام غريفن، مدير وكالة «ناسا» سوى الترديد «اننا نحاول بكل إمكاناتنا العودة الى الفضاء لأن هناك ورشة كبيرة تنتظرنا ونحتاج الى المكوك لإتمامها، ولن نفعل ذلك ما لم نكن متأكدين مائة في المائة من سلامة المكوك». وهنا تكمن المشكلة، إذ لم يتمكن علماء هذه الوكالة، وهم زبدة العقل الاميركي، بل العالمي، لكون العديد من علماء الفضاء البارزين هناك هم من جنسيات مختلفة، من حل مشكلة تساقط الرغوة حتى الآن، اضافة الى مشكلات أخرى صغيرة لكنها مهمة ما زالت تعترض طريقهم. ومن هذه المشاكل مثلا ان الرغوة العازلة هذه تمنع ايضا تكون الجليد على خزان الوقود الخارجي الذي هو بحجم عمارة صغيرة الذي يبرد جدا بسبب محتوياته من الاوكسجين والهيدروجين المسيلين تحت الضغط الشديد. من المشكلات الهامشية أيضا تعطل بعض الصمامات الحيوية أحيانا.

وكانت «ناسا» قد أنفقت ملايين الدولارات في أعقاب انفجار المكوك كولومبيا في عام 2003 لحل مشكلة الرغوة هذه، لكن يبدو ان الفشل ما زال يرافقها حتى الآن.

وكان من المقرر أن يتقاعد مكوك الفضاء في كل الاحوال في عام 2010 بعد انتهاء برامجه لإفساح المجال أمام مركبة أخرى جديدة تماما تدعى «مركبة الملاحين الاستكشافية» (CEV) المصممة لنقل الرواد الى القمر والعودة منه، وربما أبعد من ذلك الى المريخ في وقت لاحق.

هذا وقد اعترضت المشاريع الاميركية الفضائية صعوبات اخرى عندما أجلت كيب كانافيرال، يوم الخميس الماضي، إطلاق سفينة فضائية الى المريخ بكلفة 720 مليون دولار الى يوم امس، لجمع المزيد من المعلومات عن الكوكب الاحمر أكثر بكثير من جميع الرحلات السابقة مجتمعة. وقد انطلق الصاروخ «أطلس 5» ذو الطاقة العالية بنجاح في نهاية المطاف، بعدما اعترى الخبراء المشرفون على الرحلة شيئا من القلق سرعان ما زال بعدما مضت عملية الاطلاق بشكل سلس. وتعول «ناسا» على هذه الرحلة الكثير من الآمال التي قد تعيد هيبتها السابقة، لكون السفينة مجهزة بكاميرات عالية النقاوة ومرصد ورادار من صنع وكالة الفضاء الايطالية قادر على اختراق التربة والصخور بحثا عن المياه، وأي آثار لحياة سابقة. وتستغرق رحلة السفينة سبعة أشهر قبل ان تتخذ لها مدارا حول المريخ تدور حوله مدة أربع سنوات كاملة.

في هذا الوقت الذي تتأرجح فيه وكالة الفضاء الاميركية بين النجاح والفشل، خرجت شركة أميركية خاصة مقرها ولاية فيرجينيا تدعى «سبيس أدفنتشرس» بمشروع لإرسال سيّاح للدوران حول القمر لمدة أسبوعين والتقاط الصور مقابل 100 مليون دولار فقط للراكب الواحد. و«رحلات العمر» هذه، كما يدعوها اريك أندرسون المدير التنفيذي للشركة، ستبدأ رحلاتها الاولى التجريبية عام 2009 للدوران حول القمر فقط من دون النزول عليه طبعا، من قبل ركاب تختارهم الشركة مجانا، تمهيدا لانطلاق الرحلات الحقيقية المدفوعة الثمن بعد ذلك.

وكانت هذه الشركة قد نقلت البليونير الاميركي وعالم «ناسا» السابق دنيس تيتو الى محطة الفضاء الدولية في عام 2001 مقابل 20 مليون دولار، ليعقبه رجل الاعمال مارك شاتيلوورث من جنوب أفريقيا. ومن المقرر أن يكون العالم غريك أولسن من ولاية نيو جيرسي السائح الفضائي الثالث في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. واعترف اندرسون أن بمقدور بضعة آلاف من الاشخاص فقط في العالم التمتع بالرحلة القمرية من أولئك الذين يمتلكون يخوتا يربو سعر الواحد منها على 100 مليون دولار، والذين يملكون حب المغامرة. وهؤلاء ليسوا بكثرة.

والرحلة المقترحة ستكون على متن مركبة «سيوز» الروسية التي ستستغرق رحلتها أسبوعين ذهابا وايابا والدوران حول القمر من ارتفاع 62 ميلا لمشاهدة سطحه الآخر الذي لا نراه من الارض المليء بالحفر الكبيرة التي خلفتها الشهب والنيازك. كما سيكون بمقدور ركاب «سيوز» مشاهدة الارض بلونها الازرق الأخاذ من مدار القمر.

وستبدأ هذه الرحلة عادة عند الوصول الى المحطة الفضائية الارضية. وبعد قضاء اسبوع من التأهيل بعد عملية التدريب الطويلة طبعا، يقوم الراكبان مع القبطان باعتلاء متن مركبة «سيوز» المعدلة للالتحام مع نظام دفع (محرك صاروخي) قريب من مدار الارض الذي سيدفع «سيوز» الى وجهتها النهائية.