تقرير قضائي يكشف ملابسات التمرد الأول في جنوب السودان

ما بين أول «تطهير عرقي» في أغسطس 1955 بالاستوائية والعنف الدموي في أغسطس 2005

TT

ارتبط شهر أغسطس (آب) في الذاكرة السودانية بالازمات والكوارث على مدى حقب عديدة، ففي 27 أغسطس 1969، انتقل اسماعيل الازهري رئيس اول حكومة وطنية ورئيس مجلس السيادة حتى 25 مايو (ايار) 1969 الى رحاب ربه في مستشفى الخرطوم، وكان قبلها قد احيط منزله بأمدرمان بالمدرعات ثم نقل الى سجن كوبر بالخرطوم بحري وأوشك اعلان وفاته المفاجئ ان يفضي الى انفلات أمني نتيجة الحزن والغضب العارم من جانب المواطنين ضد الحكم «المايوي» لولا المعالجة العاقلة من قيادة الاتحاديين. وضرب التصحر والجفاف مناطق غرب السودان في اغسطس 1984 مما أدى الى وفاة الكثيرين وتدفق آلاف النازحين نحو اطراف العاصمة السودانية.

وبلغت الفيضانات والسيول ذروتها في اغسطس 1988 وخلفت خسائر مادية وبشرية فادحة، مما استلزم توجيه نداء عالمي لانقاذ سكان مناطق ومدن احاطتها المياه العالية من كل جانب. وفي مطلع اغسطس الحالي، حدثت كارثة سقوط الطائرة العمودية الرئاسية الاوغندية التي أقلت النائب الاول لرئيس الجمهورية ورئيس حكومة الجنوب الدكتور جون قرنق، وأدى اعلان الوفاة الى انفلات أمني في وسط العاصمة ومناطق أخرى.

إعلان التمرد الدموي:

من المفارقات انه في يوم 18 أغسطس 1955 اثناء انعقاد مؤتمر صحافي لرئيس اول حكومة وطنية اسماعيل الازهري تحدث للصحافة العالمية في الخرطوم حول جلاء القوات البريطانية ورحيلها بالكامل عن السودان تلقى برقية عاجلة وموجزة تحمل اليه نبأ وقوع تمرد القوات العسكرية الجنوبية في مدينة توريت بمديرية الاستوائية، وسرعان ما أنهى رئيس الوزراء مؤتمره الصحافي بعد الاجابة على اسئلة المراسلين الاجانب الذين لم تفتهم اهمية المذكرة التي تلقاها رئيس الوزراء، إذ اتسمت ملامحه بالقلق الشديد حال اطلاعه عليها، وقد سأله احدهم عما اذا كانت هذه البرقية لها صلة بعملية الجلاء فرد عليه بـ«لا»، فسأله هل تتكرم بكشفها؟ فرد «ليس الآن».

ومنذ 18 أغسطس 1955، قضى السودان اياما عصيبة ومرهقة.

وعندما استطاعت الحكومة الوطنية معالجة الموقف وتطويقه من المسؤولية وضبط النفس شكلت لجنة للتحقيق برئاسة قاض فلسطيني مشهود له بكفاءته ونزاهته هو توفيق قطران، قاضي المحكمة العليا، وبعضوية خليفة محجوب مدير عام مشاريع الاستوائية، والسلطان اوليك لادو زعيم قبيلة لبيريا (للتحقيق في الاضطربات المريبة في الجنوب ورفع تقرير عنها وعن الاسباب التي أدت الى حدوثها)، ومنحت اللجنة صلاحيات واسعة من الحكومة ليكون بمقدورها الحصول على كل ما تحاجه لتحديد الاسباب والعوامل التي اشعلت التمرد في توريت وامتدت الى كل اجزاء الاستوائية واجزاء اخرى في الجنوب. وفي 18 فبراير (شباط) 1956 فرغت اللجنة من اعداد تقريرها الشامل. ولكن التقرير لم ينشر بصورة كاملة آنذاك واكتفي بنشر بيان تناول خطوطا عريضة منه، ولعل استعراض جانب من هذا التقرير الشامل عن التمرد الدموي في الجنوب يكشف نوايا التمرد ويظهر الى أي مدى كانت قضية الجنوب معقدة.

ماذا قال التقرير؟

أفرد تقرير اللجنة القضائية فصلا من خلفيات السياسة البريطانية في جنوب السودان، وذلك من خلال الوثائق والمذكرات والمنشورات الادارية المتعلقة بها، ومنها المنشور الذي وجه الى مديري المديريات الجنوبية الثلاث: أعالي النيل، وبحر الغزال، والاستوائية في 25 يناير (كانون الثاني) 1930، وجاء فيه «ان سياسة الحكومة في جنوب السودان هي انشاء سلسلة من الوحدات القبلية او العرقية القائمة بذاتها على ان يكون قوام النظام فيها مرتكزا على العادات المحلية والتقاليد والمعتقدات بقدر ما تسمح ظروف العدالة والحكم الصالح».

وتلا ذلك خطوط عامة توضح الاجراءات التي تتخذ لتنفيذ هذه السياسة، وقد شملت تلك الاجراءات امداد الجنوب بموظفين لا يتكلمون اللغة العربية من اداريين وكتبة وفنيين، كما شملت الرقابة على هجرة التجار من الشمال الى الجنوب، واستعمال اللغة الانجليزية عندما يكون التفاهم باللهجات المحلية مستحيلا وقد ترتب على تنفيذ هذه السياسة عمليا التالي:

1 ـ نقل جميع الموظفين الشماليين الذين كانوا يعملون بالجنوب من اداريين وفنيين وكتبة للشمال.

2 ـ حرمان التجار الشماليين الذين كانوا بالجنوب من رخص مزاولة تجارتهم.

3 ـ اجلاء المسلمين الشماليين من مواطنهم وترحيلهم للشمال.

4 ـ منع الديانة الاسلامية.

5 ـ الغاء تدريس اللغة العربية كمادة في المدارس.

وقال التقرير ان المدى الذي اتبع في تطبيق هذه السياسة بلغ حدا صبيانيا، فقد هجرت قرية «كافيا كنجي» (مديرية بحر الغزال) واعتبرت منطقة حرام بين دارفور وبحر الغزال لمنع اختلاط العرب والزنوج ومنع التخاطب باللغة العربية وأرغم من كانوا يسمون بأسماء عربية لعدة اجيال على تغيير اسمائهم.

كيف انفجر التمرد الدموي؟

وتناول التقرير القضائي كيفية وقوع التمرد، فقال انه في مطلع اغسطس 1955 بدأت القوات البريطانية في الجلاء عن السودان وقررت الحكومة الوطنية الاحتفال بهذه المناسبة وأرسلت برقية الى قيادة الجيش في الجنوب تطلب فيها ارسال فرقة عسكرية للمشاركة في العرض العسكري الخاص باحتفالات الجلاء في الخرطوم، ولكن جنود القيادة في توريت رتبوا خطة لقتل كل الضباط الشماليين على ان يتم ذلك بمعاودة القوات الجنوبية وبعث اشارات باللهجات المحلية تبين خطته للتمرد. وتضاربت مواقف الجنوبيين من الخطة فوقع التمرد في السادة السابعة والنصف من 18 أغسطس 1955، حيث كان مفترضا ان تتحرك الفرقة الجنوبية في ذلك الصباح للسفر الى الخرطوم للاشتراك في الاحتفالات بجلاء القوات الاجنبية عن السودان، وبدأ التمرد بكسر المخازن والاستيلاء على الاسلحة والذخيرة واندلعت الاضطرابات في «توريت» والمديرية الاستوائية، وتأثرت بها كل المدن والقرى وسادت حالة من الفوضى العامة وانهار النظام لمدة اربعة عشر يوما فتعطلت الخدمات العامة، وقطعت طرق المواصلات واغلقت دواوين الحكومة، وفي يوم 20 اغسطس 1955 اعلنت حالة الطوارئ في المديريات الجنوبية الثلاث فكانت للفوضى والتمرد اليد العليا في القتال لمدة اسبوعين، وقد كان هجومها على أرواح وممتلكات الشماليين دون سواهم، وارتكبت جرائم القتل وحرق المنازل والممتلكات والنهب والسلب، وقد اشترك في ارتكاب هذه الجرائم الجنود ورجال الشرطة والسجانة والاهالي الجنوبيون. وبلغ عدد القتلى من الشماليين 336 قتيلا معظمهم كانوا موظفين واداريين وفنيين وزراعيين ومعلمين. وقال التقرير انه لا يمكن فهم اسباب الاضطرابات دون ادراك ابعاد النقاط التالية:

أولا: ان الامور المشتركة بين الشماليين والجنوبيين قليلة جدا، فالشماليون عرب والجنوبيون وثنيون، من ناحية اللغة يتكلم الشماليون العربية بينما يستخدم الجنوبيون لغات يقارب عددها الـ80 لغة محلية، وهذا بخلاف التفاوتات الجغرافية والتاريخية والثقافية في ما بينهم.

ثانيا: ولأسباب تاريخية يعتبر الجنوبيون الشماليين اعداءهم التقليديين.

ثالثا: كانت السياسة الادارية البريطانية تتوخى حتى عام 1947 ان يترك الجنوبيون على حالهم ليتقدموا على النمط الافريقي الزنجي.

رابعا: بسبب عوامل سياسية ومالية وجغرافية واقتصادية تقدم السودان الشمالي تقدما سريعا في كل الميادين فيما كان الجنوب يزداد تخلفا.

خامسا: كل العوامل مجتمعة لم تولد في الجنوبيين احساسا برابط قومي مشترك مع الشماليين او حتى شعورا وطنيا وتعلقا بالسودان كوطن واحد وظل ولاء الجنوبي العادي منحصرا في نطاق ضيق. وقال التقرير ان احد العوامل التي عجلت بالتمرد استخدام برقية كاذبة منسوبة الى رئيس وزراء السودان اسماعيل الازهري قيل انها وجهت لجميع رجال الادارة في المديريات الجنوبية تقول: لقد وقعت الآن على وثيقة لتقرير المصير، لا تستمعوا لتقارير الجنوبيين الصبيانية، اضطهدوهم وضايقوهم وعاملوهم معاملة سيئة بناء على تعليماتي وكل اداري يفشل في تنفيذ اوامري هذه سيكون عرضة للمحاكمة. واورد التقرير البرقيات ورسائل من المتمردين ثم اجراء الحكومة لتطويق الموقف واتصالاتها ورسائلها الى المتمردين، كما اشار التقرير الى عدم اتخاذ اجراءات ما عند اكتشاف مؤشرات المؤامرة وإلى سوء تقدير الموقف وايضا الى عدم الالتفات الى مذكرات بعض الاداريين (مذكرة مدير اعالي النيل) والاخذ بها. كما تناول التقرير الوعود المبذولة ابان الحملة الانتخابية لاول برلمان سوداني، وايضا وعود الصاغ صلاح سالم عضو مجلس قيادة ثورة 23 يوليو (تموز) عند زيارته للمديريات الجنوبية، مما ترتب عليه خيبة امل الجنوبيين وقلقهم الشديد تجاه تنفيذ عملية السودنة، اي احلال السودانيين الشماليين في وظائف البريطانيين، وما افرزه ذلك من تخوف من السيطرة السياسية عليهم.

سيادة الشائعات الكاذبة وقال تقرير القاضي قطران «لقد استرعى ـ انتباهنا طوال سماعنا للشهادات في هذا التحقيق، حقيقة الفقدان التام لوجود وسائل للدعاية الحكومية بجنوب السودان، ونجم عن ذلك ان الاشاعات الكاذبة تتناقلها الالسن دون ان تكون هنالك وسائل لتهدئة المخاوف وازالة سوء الفهم وقد ظلت الاخبار الكاذبة تنشر دون القيام حتى بمحاولة لدحضها على اقل تقدير، وعندما يكثر تناقل كذبة فانه كنتيجة لتكرارها يجوز ان يصدقها الناس في المجموعات البدائية المتخلفة ويعدوها حقيقة حازمة، ويبدو ان الاذاعة في هذا القطر موجهة لفائدة الشماليين وحدهم. وقال التقرير من خلال تناوله للعوامل التي ولدت شعورا سيئا لدى الجنوبيين «انه مما ساعد في تحطيم الثقة عند الجنوبيين ان بعض الشماليين حاولوا ان يغيروا عادة ترى ان تغييرها يحتاج لعدد من السنين ونقصد بذلك عادة العري، ان ما تعتبره اغلبية الجنس البشري عادة مخجلة يظنه الجنوبيون على العكس، باعتبار اساس الرجولة».

واشار تقرير القاضي قطران الى واقعة قائد الوحدة العسكرية في كبويتا، حيث اصدر اوامره بأنه غير مسموح للجنود ان يرقصوا عراة رغم ان القبائل ظلت تمارس العري قرونا طويلة، فلم تطع اوامره واستدعى الجندي المسؤول عن الرقص، وفصله من خدمة الجيش في الحال ثم اعيد للخدمة، ولكن بعد ان احدث قرار الفصل اثره السيئ في النفوس.

هذا التقرير اعدته لجنة قضائية برئاسة قاضي شهد له بالكفاءة للتحري في احداث التمرد الدموي 18 اغسطس 1955 والذي وصف بأنه اول تطهير عرقي حسب مفاهيم مواثيق الامم المتحدة، لاستهدافه مواطنين شماليين ومعلمين وزراعيين وضباطا وجنودا وتجارا، وبلغ عددهم اكثر من الثلاثمائة مواطن، هل يحتاج السودانيون وبعد احداث الاثنين الاسود اول اغسطس الحالي، الى مراجعة وصيغة تحقق التواصل وتمد جسور الثقة للحيلولة دون عنف دموي وابادة عرقية اخرى؟ او هل يفضلون التعجيل باستفتاء تقرير المصير عوضا عن اجرائه بعد 6 سنوات؟