لغة الأرقام توضح لماذا تخلت إسرائيل عن غزة

TT

مما لا شك فيه أن الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة وسحب المستوطنين وهدم المستوطنات المبنية، فيه عناصر مشجعة جداً على طريق الحل العادل والدائم للقضية الفلسطينية. ولكن هل في هذا الانسحاب، بكل ما ينطوي عليه من تفاصيل ومضامين سياسية واقتصادية وديموغرافية واستراتيجية، ما يشكل خطوة حقيقية على تلك الطريق.

ثمة من يشك في هذا. ومن المشككين من يتذكرون ثلاث حقائق أساسية، هي:

1- ان القيادات الإسرائيلية عبر السنين قلما أبدت حرصا حقيقيا على الاحتفاظ بقطاع غزة، بل ان أحدها ـ إسحق رابين ـ قال صراحة انه كان يتمنى أن يصحو ذات يوم ليجد ان القطاع كله غرق في البحر.

2- عطفاً على ما سبق، هناك سبب استراتيجي لقلة الحرص الإسرائيلي على الاحتفاظ بالقطاع هو أنه أرض حولتها نكبة فلسطين إلى «مخيم لاجئين» عملاق مكتظ بالسكان، غالبيتهم العظمى من المسلمين، ونسبة عالية من مؤيدي الأحزاب والقوى الإسلامية مثل «حماس» و«الجهاد الإسلامي». وبالتالي، لا يفيد الاحتفاظ به إسرائيل لا بيئياً ولا عسكرياً في شيء، بل على العكس تكلفها الاحتفاظ به نفقات هي بغنى عن تكبدها. 3- لا توجد في قطاع غزة أي «ذرائع توراتية» ـ بالمعنى الدقيق لهذه العبارة ـ تبرر الاستيطان خارج نطاق رؤية الغلاة من المستوطنين لما يسمونه «أرض إسرائيل» التي تمتد من النيل إلى الفرات. وبالتالي فالبعد «التوراتي» ضعيف للمجادلة بضرورة الاحتفاظ بالقطاع ومستوطناته، في حين ترى نسبة عالية من الإسرائيليين المتدينين أن لوضع القدس وكذلك مسألة مدينة الخليل اعتبارات أخرى، لكون المدينتين من المنظور اليهودي اثنتين من «المدن المقدسة» الأربع للشعب اليهودي، بجانب طبرية وصفد.

الأرقام.. تتكلم ولكن بجانب ما سبق، وبجانب كون أي شكل من أشكال الاستيطان المتمادي مخالفاً لقرارات الأمم المتحدة، وبالتالي للشرعية الدولية، تشير الأرقام إلى أن مسألة الانسحاب (وسحب المستوطنين) من غزة قليلة الأهمية عند مقارنتها بوضعية الأراضي المحتلة ككل.

وفي ما يلي نظرة بالأرقام إلى حال عدد مستوطنات ومستوطني قطاع غزة بالمقارنة مع عدد مستوطني ومستوطنات الضفة الغربية.

تعداد المستوطنين يبلغ عدد المستوطنين (وفق إحصاء عام 2004) في قطاع غزة 7826 مستوطنا كانوا يسكنون في 17 مستوطنة، واحدة منها فقط هي «نيفي ديكاليم» يقطنها نحو ثلث هذا العدد (2636 مستوطنا). في المقابل يبلغ عدد سكان المستوطنات الـ 138 المشيدة منذ عام 1967 في الضفة الغربية 234487 نسمة (إحصاء عام 2004)، ولا يشمل هذا العدد 14 مستوطنة أخرى تطوّق مدينة القدس العربية (الشرقية)، بهدف خنقها و«تهويدها»، يسكنها (وفق إحصاء عام 2002) أكثر من 175 ألف مستوطن. وهذا يعنى أن نسبة مستوطني قطاع غزة التي تحظى اليوم كما نرى بتغطية إعلامية دولية مكثفة تقل عن قرابة 1.9% من مجموع المستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. ولتبدو هذه النسبة أكثر سوءا يمكن الإشارة إلى أن عدد المستوطنين في هضبة الجولان المحتلة أكبر بكثير من عدد مستوطني غزة، فهؤلاء قارب عددهم عام 2000 الـ 16 ألف مستوطن. لقد جرت عملية الانسحاب (بما فيها السحب) أمام خلفية دفع مبالغ طائلة بشكل تعويضات ونفقات إعادة توطين للمستوطنين، من المشكوك جداً بأن تتكرر في حالة سحب ولو جزء بسيط من مستوطني الضفة الغربية.

لقد خصصت الحكومة الإسرائيلية مبلغ 930 ألف دولار أميركي ستعطي كل عائلة (بيت) نحو 1100 دولار أميركي عن كل سنة أمضتها في القطاع وشمال الضفة الغربية (سحب من شمالها نحو 2000 مستوطن). كما ستمنح كل عائلة نصف دونم من الأرض ومبلغا لبناء بيت يتراوح بين 800 إلى ألف دولار للمتر المربع. وهذا يعني أن كل عائلة ستحصل على ما بين 200 الف إلى 300 ألف دولار كتعويضات. ومن ثم سيمنح المستوطنون المنسحبون طوعاً من شمال الضفة هبات إضافية تصل إلى 30 ألف دولار. أرض الضفة الغربية.. المفيدة على صعيد آخر، يشكل باطن أرض الضفة الغربية، القائمة على مرتفعات معظمها خصب، خزانات مائية جوفية تسحب منها إسرائيل منذ عام 1967 لأراضيها ومستوطناتها معظم حاجتها لمياه الشرب والري. ويأتي أكثر من نصف نصيب إسرائيل من المياه من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وبالذات من الضفة. وقد استنزفت إسرائيل نسبة عالية جداً من موجودات هذه الخزانات بينما تعاني مدن الضفة وقراها العطش. وحالياً من أصل 750 بئراً في مختلف أنحاء الضفة يستغل 372 بئراً فقط منها 328 للري و44 للشرب، بينما الباقي عاطل عن العمل إما لحاجته إلى الصيانة أو يخضع للتضييق الإسرائيلي. ولكن، بصرف النظر عن المياه، تشير أوساط إسرائيلية إلى أن مستوطنات الضفة «حلّت» لإسرائيل أزمة إسكان خانقة. فليس كل سكان المستوطنات من المتدينين، بل نسبة عالية منهم عائلات شابة أو حديثة الهجرة لا تستطيع مادياً ضمان سكن مقبول لها داخل المدن الإسرائيلية، فتطمع للاستفادة من المحفزات المادية للسكن في المستوطنات.

ولأخذ صورة أوضح عن الفارق الاقتصادي الكبير بين جاذب الضفة وإشكالية القطاع بالنسبة لإسرائيل ـ برغم المعاناة المزمنة للضفة ـ في ما يلي هذه المقارنة:

يبلغ عدد سكان القطاع مليون و376 ألف و289 نسمة (تقديرات 2005) يعيشون على أرض لا تزيد مساحتها عن 360 كلم مربع، وتقل فيها الموارد الطبيعية وتتهدد مياهها بالملوحة ويابستها بالتصحر. وهذه الكتلة البشرية المحاصرة بالبحر والصحراء والمستوطنات تعد الأسرع نمواً في العالم (3.77% سنوياً)، وهي كتلة شابة إذ يبلغ المتوسط العمري للسكان 15.65 سنة (وفق تقديرات 2005). وفي المقابل، على الصعيد الاقتصادي لا يزيد حجم الناتج الوطني ـ معدل القوة الشرائية ـ في القطاع عن 768 مليون دولار أميركي ومعدل دخل الفرد عن 600 دولار أميركي سنوياً (إحصاء عام 2003).

أما الضفة الغربية (من دون مستوطنيها) فيسكنها، وفق إحصاء يوليو (تموز) 2004، مليونان و385 الف 615 نسمة، وبالرغم من تراجع المعدل الحقيقي لدخل الفرد فإنه بلغ عام 1999 نحو 2050 دولارا، بينما بلغ حجم الناتج الوطني 3.3 مليارات دولار. كما أن نسبة 44% من قوى الضفة العاملة كانت تعمل في القطاع الزراعي مقابل 9% فقط في غزة.