الكاظمية.. التاريخ والموت على نهر دجلة

TT

«مثل درب الكاظم»..

هذا المثل الشعبي يشير به البغداديون إلى الطريق المزدحم، ويعنون به الزحام عند زيارة ضريح الكاظمين (محمد الجواد وموسى الكاظم) ، غرب بغداد غير بعيد عن موقع الجسر الذي سقط علي وتحته نحو الف قتيل اول من امس كانوا يشاركون في احياء ذكرى وفاة صاحب الضريح موسى بن جعفر الكاظم (توفي عام 183هـ). وقد جرت العادة أن يحمل المشيعون جنازة رمزية لموسى بن جعفر، من مسجد براثا، حيث غُسل وكُفن وصلي عليه حتى قبره الحالي. يعتقد الشيعة أن موسى الكاظم مات مسموماً وهو في الحبس. سممته السلطة برطب وريحان، وتراوحت الرواية في شخصية الفاعل بين يحيى بن خالد البرمكي والسندي بن شاهك.

ولخطورة الأمر وتفاقم أمر الشيعة أحضر هارون الرشيد «القواد والكتاب الهاشميين والقضاة، ومَنْ حضر ببغداد من الطالبيين، ثم كشف عن وجهه فقال لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعرفه حق معرفته، هذا موسى بن جعفر، فقال هارون: أترون به أثراً وما يدل على اغتيال؟ قالوا: لا! ثم غُسل وكُفن وأُخرج ودفن في مقابر قريش في الجانب الغربي» (تاريخ اليعقوبي). بعد دفن موسى بن جعفر في 26 رجب 183هـ تبدل المكان وتدريجياً أصبح مزاراً، ومكاناً لأداء مراسم عاشوراء، ومكاناً لسكنى الشيعة، ثم تبدل وأخذت المنطقة اسم الكاظمية.

يعتقد أن مكان مقابر قريش كان امتداداً للعمران الكيشي القديم، حيث آثار عقرقوف، على بعد حوالى عشرة كيلومترات منه، وهي عاصمة الحضارة الكيشية آنذاك، وفي لغتها كانت عقرقوف تسمى (دوـ كوريكالزو). يذكر مؤرخ المشهد الكاظمي الشيخ محمد حسين آل ياسين عن مصادر تاريخية: كان اسم المنطقة قبل بناء العاصمة العباسية ببغداد الشونيزي، وهو نسبة إلى الحبة السوداء. أقول: ولربما كان المكان حقلاً لزراعة هذه الحبة، وهي نوع من أنواع الأدوية المعروفة. وظل المؤرخون يتداولون اسم مقبرة قريش أو مقبرة موسى بن جعفر باسمها القديم الشونيزي.

وبعد استكمال المدينة المدورة بكرخ بغداد ترك أبو جعفر المنصور الشونيزي مقبرة له وأسرته، وأول المدفونين فيها كان ولده جعفر الأكبر (ت150 هـ) والد زبيدة زوجة هارون الرشيد، ودفنت فيها زبيدة أيضاً، ثم ولدها محمد الأمين، كذلك دفن فيها صاحب أبي حنيفة قاضي القضاة أبو يوسف، ومازال قبره بائناً في وسط الصحن الكاظمي. ودفن فيها العديد من شخصيات الأسرة العباسية والعلوية، وبضمنهم موسى بن جعفر وحفيده محمد الجواد. ولم يدفن فيها أبو حنيفة النعمان، لأنه ليس عباسياً ولا علوياً ولا قريشياً، إضافة إلى مجاهرة السلطة أيام المنصور بمعاداته، وقد دفن في الجانب المقابل أي برصافة بغداد، في مكان مهمل، عرف في ما بعد بمقبرة الخيزران، حيث دفنت زوجة المهدي بن المنصور، وهي ليست عباسية أيضاً، وقد عرف المكان بعد حين بمقبرة الإمام الأعظم، نسبة إلى الإمام أبي حنيفة، وعرفت المنطقة المحيطة بالأعظمية، وقد اصبحت هي والكاظمية ثنائية مذهبية، بين السُنَّة والشيعة، يفصلهما ماء دجلة، ويمتد بينهما جسر عُرف بجسر الأئمة.

أطلق أبو جعفر المنصور على مكان مقبرة ولده وذويه اسم «مقابر قريش»، وهو أول مَنْ شيد فيها قبة عرفت بقبة جعفر. كان أول مَنْ اهتم بقبري موسى بن جعفر وحفيده محمد الجواد، من دون القبور الأخرى، هم البويهيون، يوم قام معز الدولة العام 334هـ بالعمارة على القبرين، ووضع عليهما ضريحين خشبيين، «من خشب الساج، وقبتان من الساج أيضاً». وحوط العمارة بسور مانع، مع إقامة الحراسة عليهما. وقد دفن معز الدولة في التربة نفسها. وأخذت العمارة تعمر كلما خربها فيضان دجلة. ويذكر أنه في سنة من السنين فاض دجلة فيضاناً عظيماً، وأزال عمارة بغداد من جانبيها، حتى خربت القبور وطافت الأجساد فوق سطح الماء. فعمد البويهيون إلى بناء سور يحجز الماء في الفيضانات القادمة.

وفي واحدة من الفتن الطائفية عمدوا جماعة إلى حفر القبر، والقبور التي بجواره، واحرقوها. قال ابن الأثير في فتنة السنة 443هـ: «قصدوا مشهد باب التبن (كانت المقبرة في فترة من الفترات سميت بهذا الاسم) فأُلق بابه، فنقبوا في سورها، وتهددوا البواب فخافهم وفتح الباب، فدخلوا ونهبوا ما في المشهد من قناديل ومحاريب ذهب وفضة وستور وغير ذلك، ونهبوا ما في الترب والدور، فادركهم الليل فعادوا. فما كان الغد كثر الجمع فقصدوا المشهد وأحرقوا جميع الترب والأدراج، واحترق ضريح موسى، وضريح ابن ابنه محمد بن علي الجواد، والقبتان الساج اللتان عليهما. واحترق ما يقابلهما ويجاورهما من قبور ملوك بني بويه معز الدولة وجلال الدولة، ومن قبور الرؤساء والوزراء، وقبر جعفر بن أبي جعفر المنصور، وقبر الأمين محمد بن الرشيد، وقبر أمه زبيدة. وجرى من الأمر الفظيع ما لم يجر في الدنيا مثله. فلما كان الغد خامس الشهر عادوا وحفروا قبر موسى بن جعفر ومحمد بن علي لينقلوهما إلى مقبرة أحمد بن حنبل، فحال الهدم بينهم وبين معرفة القبر، فجاء الحفر إلى جانبه. وسمع أبو تمام نقيب العباسيين وغيره من الهاشميين والسنية الخبر فجاءوا ومنعوا عن ذلك».

وربما كان هذا التاريخ هو آخر تاريخ يذكر قبوراً أخرى في المكان سوى قبري موسى الكاظم وحفيده وقبر أبي يوسف. والأمر يتعلق بالخلاف الطائفي، فالمكان كما أسلفنا أصبح مكاناً شيعياً، يرفع فيه الأذان بحيا على خير العمل، وتؤدى فيه مراسم عاشوراء.

استمر العمران في المشهد سنة بعد أخرى، وقد شارك فيه السلاطين والملوك من المذهبين، من الصفويين والقاجاريين الشيعية ومن العثمانيين السُنَّة. وكان أول مَنْ أمر بتذهيب قبتي المشهد ومآذنه الأربعة هو الشاه القاجاري فتح علي، وذلك العام 1211هـ. ظل المشهد الكاظمي مكاناً يلوذ به البؤساء وطالبو الفرج من بعد شدة، حتى أن عبارة «أعمى ولزق بشباك الكاظم» ذهبت مثلاً سائراً بنواحي العراق، ويشار به لمَنْ يلح بطلب الحاجة، أو تعبيراً عن شدة الحاجة. وأن العوام عرفوا المكان بباب الحوائج، وأحد أبوابه بباب المراد. وكذلك تسمي العامة موسى بن جعفر بأبي طلبة، أي تقضى عنده الحاجات لما له منزلة عند الله. ولم يقتصر الأمر على الشيعة فقط، بل أن زوار ضريح معروف الكرخي وأبي حنيفة النعمان وعبد القادر الكيلاني ينتظرون تلبية حاجاتهم تحت سقوف تلك الأضرحة. لكن ما لا نفهمه أن الإمام موسى بن جعفر الكاظم قد مات قبل ألف ومئتي سنة، مسموماً، واليوم يقتل المحتفلون بوفاته بالسم أيضاً، وأن التعازي لم تشمل القتلى الستمائة وأربعين بقدر ما ظل الأتباع يعزون أنفسهم بالكاظم نفسه!