المشرف على البحث: يجب إعادة صياغة نظرة البشر إلي جينات الإنسان وفروقها الهائلة عما هو في جينات الشمبانزي

TT

المقارنة العلمية الدقيقة بين جينات الإنسان وجينات الشمبانزي قلبت رأساً على عقب كل تخمينات النظريات التي ربطت أصل الإنسان بالشمبانزي، والتي طرحت خلال المائة عام الماضية. هذا ما أكدته حقائق الأبحاث حول الجينات لدى الشمبانزي ضمن مجموعة من المقالات التي طغت على جزء كبير من عدد سبتمبر (أيلول) لمجلة «نيتشر» العلمية الأولى اليوم على مستوى العالم. وبالرغم من وضوح نتائج الدراسة في أن الفروق بين جينات الإنسان وجينات الشمبانزي كبيرة جداً، تقدر بالملايين وتفوق عشرة أضعاف ما بين كل إنسان وآخر، إلا أن بعض المعلقين على الدراسة يتغاضون عن كل هذا وما زالوا يأملون في أن الدراسات والأبحاث ستثبت علاقة بين الإنسان والشمبانزي! فروق حادة

* كان العلماء الاميركيون في مؤسسة «هوارد هيغس» التابعة لجامعة واشنطن للطب بولاية سياتل قد نجحوا في وضع الاطلس الوراثي (الجينوم) للشمبانزي الذي يعتبر اقرب المخلوقات الى الانسان. واظهرت مقارنة خريطة الجينات لدى الانسان والشمبانزي اختلافات وصفت بأنها «طفيفة إلا انها حادة»، يمكنها تفسير خصائص بشرية مثل ظهور اللغة. ويتشارك النوعان بـ 99 في المائة من الجينات الوظيفية بشكل عام، إلا ان اخذ الفروق، غير الحاسمة، في الحمض النووي لهما، يقلل نسبة التطابق في جيناتهما الى 96 في المائة. وبما ان الجينات لكل نوع منهما، أي الانسان او الشمبانزي، تسجل برموزها التي يصل عددها جميعا الى 3 مليارات رمز، فان 40 مليون رمز من رموز الجينات تختلف تماما بين الشمبانزي والانسان! وهذه الفروق هائلة. وقال روبرت واترستون، الباحث بجامعة واشنطن في سياتل، الذي شارك في البحث ان «هذه الـ 40 مليون رمز تشكل اساس خصائص الانسان».

ويفتقد الشمبانزي تماما او بشكل جزئي الى 53 جينا توجد لدى الانسان، منها ما يقود الى امراض مثل الزهايمر (خرف الشيخوخة) ومرض السكري. كما يبدو ان هناك تغيرات جينية جعلت الانسان ذا عقل أكبر، ويمارس التعامل باللغة، ويمشي بشكل اكثر انتصابا.

وكانت اول مسودة لجينوم الشمبانزي قد نشرت عام 2003، وقد اكتملت الآن النسخة النهائية له. والشمبانزي هو الحيوان اللبون الرابع الذي توضع خريطته الجينية، بعد الانسان، والجرذي والفأر، كما تم الانتهاء من مسودة للأطلس الوراثي للكلب.

ويأمل العلماء في توظيف المعلومات العلمية للاطلس الوراثي للشمبانزي في عمليات فهم حدوث الامراض لدى البشر، إلا انهم لم يعثروا على ثلاثة من الجينات التي تسبب حدوث الالتهابات لدى الانسان، عند الشمبانزي. وتجدر الاشارة الى ان جينوم 180 نوعا حيا وضعت منذ عام 1995. واظهر الاطلسان الوراثيان للفأر والجرذي ان 88 في المائة من جيناتهما تتشابه مع جينات الانسان. اما الاطلس الوراثي للكلب فيتشابه في 75 في المائة من جيناته مع الانسان. وتتدنى نسبة التشابه مع جينات الانسان الى 60 في المائة في الدجاج و50 في المائة في ذبابة الفاكهة.

بعد اكتمال نسخة تحليل خارطة جينات الشمبانزي ومقارنتها بنسخة الخريطة الجينية للإنسان، تبينت فروق بينهما يصفها الباحثون بأنها هائلة بكل المقاييس وتمثل إعادة اكتشاف كنوز دفينة لفروق كبيرة ومتشعبة بين ترتيب الأجزاء المتطابقة للحمض النووي «دي إن إيه» فيما بين الإنسان من جهة والشمبانزي من جهة أخرى. وقد قام باحثو مؤسسة «هوارد هيغس» بالمقارنة بناء على القراءة الدقيقة لتراكيب مقاطع الحمض النووي والتي خلصوا بمحصلتها إلى وجود فروق تلغي فكرة التشابه بينهما من أصولها، كما عبر عنه الدكتور إيفان إيشلر المشرف الرئيس على البحث حينما قال: «يجب إعادة صياغة نظرة البشر إلى جينات الإنسان وفروقها الهائلة عما هو في جينات الشمبانزي، ذلك أنه حينما يتحدث بعضنا عن أوجه الشبه بين الإنسان والشمبانزي، فإن علينا أن نكون حذرين فنحن نعرض في البحث فروقا بين جين الإنسان ككل وجين الشمبانزي ككل وليس عن فروق في مناطق أحادية بينهما كما طرحته الكتب العلمية قبل ظهور هذه النتائج».

تغيرات الحمض النووي ومرض الإنسان

* ان إعادة نسخ أجزاء كبيرة من الحمض النووي أمر ضروري (في الجسم الحي) ويتم في مرحلة إنتاج الحيوانات المنوية والبويضات لتفادي حصول المشاكل بسبب احتمال أن تتعرض أجزاء ومناطق معينة من الكروموزومات للتكسر وإعادة التركيب إن صح التعبير، وهو ما يحدث خللاً وبالتالي ضرراً على صفات الجنين لأي أنواع الكائنات الحية على وجه الأرض. لذا فإن إعادة النسج والاحتفاظ بنسخ مطابقة تماما داخل النواة في الخلايا وبكمية إضافية أمر مهم جداً لأنه يسهم في إعطاء هامش من الحرية لعمليات انقسام الخلايا مع المحافظة علي إنتاج نسخ مطابقة للنسخة الأصل. كما أنه في نفس الوقت يتيح إنتاج سلالتين مختلفتين إن تم إكمال عمليات الانقسام لكل منهما بنجاح، لكن أيضاً يخلق مشكلة لأنه يسمح بظهور الأمراض الوراثية. وركز الدكتور إيشلر أبحاثه حول دور المناطق المنتجة للنسخ المطابق للأصل في الجين البشري، وبالذات كيفية حصول هذا الإنتاج وكيف تختلف المناطق المنتجة بعضها عن بعض؟ وهل لهذا أثر في ظهور الأمراض؟ وكيف تسهم هذه النسخ في إتاحة فرصة البقاء للإنسان؟ وفي سبيل تعميق هذا الفهم درس بطريقة مقارنة توزيع مناطق الإنتاج للنسخ المطابقة في الإنسان وفي الشمبانزي والذي هدف له البحث بالأصل هو هذا الأمر، أي كيف تمكن الإنسان من البقاء ضمن عمليات الترقي والاختيار في مقاومة التغيرات خلال الأربعين مليون سنة الماضية مقارنة بما هو عليه الحال في الشمبانزي، بيد أن النتائج كانت مخالفة للتوقع لكنها غنية جداً بمعلومات غير مسبوق العلم بها حول الجينات وكيفية تطورها وخاصة ظهور أمراضها. وتتيح المقارنة المعتمدة على التحليل الدقيق للمقاطع المنسوخة مرتين من الشريط الطويل للحمض النووي في كل من الإنسان والشمبانزي، إعطاء صورة غاية في الدقة والوضوح ومعلومات على قدر كبير من الأهمية حول تعليل ظهور هذه التغيرات غير الطبيعية في النسخ المنتجة وخاصة في فهم الأصول الجينية لظهور الأمراض من ناحية تاريخية لدى الإنسان وبين ما هو لدى الشمبانزي. والأهم بالنسبة لنا ما هو في الإنسان واحتمال عرضة الإصابة به، فنحن كما يقول الدكتور إيشلر نعلم أن هناك تشابهاً مشتركاً وصفه بأنه في الجانب المعماري للمرض بين أمراض الإنسان وأمراض الشمبانزي لكن لدى الإنسان هناك تغيرات في تركيب مقاطع جينيه لا توجد إلا فيه وتسهم في تعريضه للإصابة بالأمراض.

فريق البحث وعمله

* لقد كان هناك فريق عمل دولي كبير ومتعدد التخصصات في جهود دراسة جينات الشمبنزي ومقارنتها بما هو في الإنسان، فالدكتور إيشلر وزملاؤه الباحثون تعاونوا مع الباحثين من جامعة باري الإيطالية ومن مؤسسة ماكس بلانك لتطوير أبحاث علم الأصل البشري وكلية الطب بجامعة واشنطن فرع سانت لويس ومؤسسة الأبحاث التابعة لمستشفى أوكلاند الأطفال والمكتبة القومية للطب في الولايات المتحدة.

وضع الباحثون خريطة لنسخة المعلومات المتسلسلة في جين الشمبانزي وتم تحليل تطابقها مع ما هو في الإنسان واستخدموا بحسب وصف محرري مجلة «نيتشر» طريقة كومبيوترية غاية في التقدم والتعقيد لتحليل الفروق في ثلاثة مقاطع من النسخة الكربونية (المطابقة تماما) الإضافية; الأولى التي توجد في الإنسان والشمبانزي، والثانية التي توجد فقط في الإنسان والثالثة التي توجد فقط في الشمبانزي. ونظر الباحثون في مجموعة من النسخ المطابقة للأصل طولها يتجاوز 20 ألف زوج من الوحدات الصغيرة.

وبينت دراستهم التحليلية أن حوالي الثلث منها يوجد في الإنسان فقط إي أنها مختفية تماماً لدى الشمبانزي، الأمر الذي عبر عنه الدكتور إيشلر: «كان هذا بالنسبة لنا اكتشافا مفاجئاً بكل المقاييس العلمية لأن تسارع وتيرة إنتاج النسخ المطابقة الكربونية من جديد لدى الإنسان يفوق قدرة الشمبانزي على إنتاجه مهما حاول الشمبانزي تطوير نفسه، وهو مخالف تماماً للكثير من النظريات التي نسمع عنها من أن نسخة مطابقة فلتت من بين نسخ الحمض النووي لدى الشمبانزي وأدت إلى نشوء سلالة مختارة أو حتى احتمال حصول ذلك عبر أي عمليات أخرى للتحول الجيني». الأمر الآخر الذي لاحظه البحث في الجزء الموجود فقط في الشمبانزي وليس في الإنسان من المقاطع الجينية المدروسة، أن الشمبانزي لديه عدد أقل من الأماكن التي تنتج هذه النسخ المطابقة للأصل وفي نفس الوقت على قلة عدد أماكنها فإنها تنتج كميات أكبر من النسخ المطابقة. ففي إحدى المقاطع التي تظهر قدراً بالغاً من التطرف في الإنتاج، فإن الإنسان ينتج أربع نسخ مطابقة بينما الشمبانزي ينتج ما يربو على 400 نسخة كربونية مطابقة.

هذا الإفراط في الإنتاج أثار نظر الدكتور إيشلر وقال عنه: «هذا الأمر مثير ويحصل في أطراف الكروموزومات، وهو ما يحصل في الشمبانزي في منطقة منقسمة إلى كروموزومين بينما في الإنسان في منطقة يلتصق فيهما الكروموزومان، وهذا الفارق يعطي فكرة عن عدم الاستقرار في كلا النوعين من الأحياء التي تحل نفسها في الإنسان بطريقة مخالفة لما يعتمد إليه الشمبانزي في حله والتخلص منه».

وواصل الباحثون الدراسة في المعلومات حول المقاطع الجينية التي في الشمبانزي فقط وتلك التي في الإنسان فقط وجدوا أنها تنتج من مناطق تقع بقرب الأجزاء التي تنتج الجزء المتشابه من النسخ طبق الأصل في الإنسان والشمبانزي، مما أطلق عليه الباحثون تعبير «ظلال النسخ المتطابق».

هذا الاكتشاف بحد ذاته يقول الدكتور إيشلر «سيقود إلى مزيد من الفهم العميق لخصائص مناطق الكروموزومات التي تعيش حالة من عدم الثبات ولديها خبرة في التعامل مع التخلص منها، وهي مناطق ومقاطع تعتبر دراستها وفهم آليات العمل فيها غاية في الأهمية لأن الكثير من الباحثين يعتقدون بما يؤثر في طريقة بحثهم أن الطفرات الجينية تحصل بشكل عشوائي في أي أجزاء الحمض النووي.

مستقبل البحث

* البحث المهم التالي الذي سيطرق الباحثون بابه هو محاولة فهم ما الذي يعنيه وجود الفروق في مقاطع النسخ المطابقة على موضوع تطور الجينات المغروسة فيها لأنه كما يقول الدكتور إيشلر «أساس النظرية التي نطرحها أن الفروق الهائلة والضخمة بين تركيب الإنسان وتركيب الشمبانزي تمت المحافظة عليها بآليات، خاصة في جينات قادرة على القيام بذلك». والحقيقة أن الأبحاث تتطور لمزيد من التعمق في حال جينات الإنسان وتهدف من قبل الباحثين إلى تخفيف معاناة الناس عبر فهم دور الطفرات الجينية في نشوء الأمراض الوراثية وفي زيادة عرضة الإصابة بالأمراض وهناك من يأمل أن يكشف البحث كيف تحول الشمبانزي إلى إنسان، ذلك الطرح القديم الذي يراه الباحثون اليوم ممجوجاً وغير مستساغ بما هو متوفر من أدلة علمية قوية. فمن العبث أن تكون بعض التعليقات الصادرة حول الأبحاث المنشورة في مجلة «نيتشر» متجه إلى القول: لا يوجد حتى اليوم جواب كيف تمكن الإنسان من اكتساب مهارات كالمشي بقوام معتدل وتمكن من التخاطب باللغات وأن جينات الدماغ تطورت لدى الإنسان بشكل كبير لم يحصل في الكبد والقلب! في حين يعقب على هذا الكلام بقول: لكن الأبحاث تذكر اليوم قائمة من الفروق بين الحمض النووي في كل من الإنسان والشمبانزي. إن الفروق واضحة بما لا يمكن أن تحصل على هيئة طفرة وهو ما تؤكده الدراسة بقوة لم يسبق لها مثيل في الدراسات والأبحاث الطبية على الإطلاق بل تؤكد استحالة حدوثه ولو في الخيال.