إحدى الناجيات: انكفأت فاتيما وهي تحتضن الولدين وتتضرع.. اتركنا أتوسل إليك

أقارب ضحايا بيسلان يروون لـ اللحظات الأخيرة قبل المأساة

TT

انتشر الحزن في الزوايا والأركان وأطبق الصمت على المكان لدرجة، لا يملك المرء معها إلا الاستسلام لمشاعر تفضي الى دموع تنساب رغما عنه تحت وطأة قسوة اللحظة والزمان.

بيسلان.. مقابر البلدة في أطرافها صارت اليوم تقصد كل الضمائر الحية وأصحاب الارادة الطيبة. على مقربة منها استقرت جثامين الأطهار من اطفال مدرستها ممن حصدتهم قوى الشر منذ عام.

هناك تلتقي الجموع ممن دأبوا التردد على المكان الذي يجدون فيه السلوى والملاذ. هناك يستقر الأطفال مع معلميهم وذويهم ممن كانوا يشاركونهم فرحة بداية العام الدراسي. هناك تجد الصغار والكبار من المكلومين، عيونهم غرقى في دموع لا نهاية لها.. وجوههم متعبة مهمومة وألسنتهم عاجزة عن النطق بما يدور في الخلد. النظرات تتعلق بشواهد القبور التي تعكس أبعاد المأساة.

ريما كورشاكوفا مواليد 1928 من القرن الماضي تستقر جنبا الى جنب مع راداسالكازانوفا التي جاءت الى الحياة مع مطلع هذا القرن في مايو 2000. تواريخ الميلاد على شواهد القبور تختلف، لكنها تجتمع حول الثالث من سبتمبر (ايلول) 2004 تاريخ الكارثة الدموية!! يصعب على النفس تعكير رهبة اللحظة التي تجمع الأحياء بذكرى الأحباء ممن رحلوا عن عالمنا. الحديث يدور هنا، تقطعه حشرجات بكاء مكتوم.

من ذا الذي اختار بيسلان؟ من ذا الذي حدد لهم.. لأعداء البشر هذا المكان؟ من يتحمل مسؤولية اطلاق أمر الاقتحام؟ هذه اسئلة أخرى كثيرة تتقافز على الشفاه. ترددها الألسن دون انتظار لإجابة يقولون انها ليست خافية على أحد.

آلا كيسايفا قالت لـ«الشرق الأوسط»: فقدت اثنين من ابناء العائلة وأريد ان اعرف الحقيقة التي لا يريد بوتين الكشف عنها. انني اتهمه والمسؤولين بمحاولة التستر على المذنبين والفاسدين. انه قام بمكافأة المذنبين من رجال الأمن والمخابرات بدلا من محاسبتهم. لقد اصدرنا مع اعضاء لجنة امهات بيسلان بيانا يطالب فيه باللجوء السياسي الى الخارج. نحن لا نريد العيش في وطن تضيع فيه الحقيقة وتنتهك فيه الحقوق».

للكارثة وجوه كثيرة. تبينت ملامح بعضها بين اطلاق مدرسة بيسلان التي تحولت الى مزار لكل اصحاب الضمائر الحية وصارت شاهدا على بشاعة الجريمة. في ركن من المكان الذي كان يوما فناء احدى أهم مدارس البلدة راحت إما روزوفا تحكي لـ«الشرق الأوسط» بعضا من وقائع الكارثة: «الارهابيون لا وطن ولا دين لهم. حين اقتحموا المدرسة كان بها ممثلو كل الأديان وكل الطوائف والقوميات. ولكم كان صعبا على ان اسمع دائما ان الارهابيين مسلمون. أسرتي ايضا مسلمة. وزوجي وولداي ممن حصدتهم المأساة كانوا مسلمين. المسلمون ذاقوا عذاب الأيام السوداء الثلاثة مع الآخرين. زوجي روسلان كان معهم. حاول طمأنة الضحايا. راح يطالب الأطفال بالركون الى الهدوء. لعله كان يعتقد في استحالة ارتكاب مثل ذلك الجرم من جانب أناس كانوا يقولون انهم يدافعون عن قضية».

تعثرث الكلمات. خنقتها الدموع. توقفت برهة لتواصل بعدها: «رحل في اليوم الأول.. قتلوه على مرأى من ولديه. ما كاد يفرغ من محاولة تهدئة الصغار وسط بحر بشري من ابرياء لا ناقة لهم ولا جمل في قضايا لا شأن لهم بها، حتى غرس في عنقه ارهابي وقف على مقربة فوهة رشاشه أرداه قتيلا على مرأى من ولدينا».

وحين هب ألان الابن الاكبر وكان عمره 16 سنة منتفضا لم يستطع سوى ان يقول له: «لقد تذكرت.. العذاب قادم لا محالة». كلمات نقلها الرفاق ممن قالوا ايضا ان ألان استطاع الفرار مع من قيض لهم الفرار، لكنه سرعان ما عاد عن طيب خاطر في محاولة للبقاء الى جوار اخيه اصلان ابن الرابعة عشرة. عاد ليبقى يومين اكثر من والده.. عاد ليموت مع ثلاثمائة وثلاثين آخرين». ماذا اقول عما لحق بهما بعد مصرع الأب على مرأى ومسمع منهما؟ كيف تعذبا؟ كيف عاشا تلك اللحظات الأليمة؟». وتوقفت إما ثانية. الكلمات تصدر واهنة ضعيفة والعينان اغرورقتا بالدموع.. بعد صمت لم يدم طويلا عادت لتقول: «كنت أعرف صبيا من أقران ولدي اسمه اسلام». قالوا انه كان على يقين من النجاة. تصرف مع الارهابيين بجسارة، مؤكدا لهم انهم لن يستطيعوا قتله. وحين أخذت الدهشة اولئك الارهابيين طالبوه بسرعة تفسير هذه الثقة. اجابهم بهدوء: «لأن اسمي اسلام». ومع ذلك لم تفرق الكارثة بين أحد في ذلك اليوم الأسود. لقي اسلام حتفه مع الصغار الآخرين».

وكان لزاما علينا التفتيش عن «اسلام» من خلال ذويه. لم نعثر على اجابة تفضي بنا الى اولئك الذين قتلوه.

وفي تلك المقابر التي جمعت المسلمين مع المسيحيين، ووحدت بين ممثلي مختلف الأديان والطوائف والقوميات، هناك وجدته.. وجدت قبره الذي يقول شاهده: «إسلام خاويكوف»، مواليد 30 اكتوبر 1989!!». وبين كل هذه القصص المأساوية التي لم نكن لنستمع اليها بدون دموع انسابت بعد ان عجزت المآقي عن حبسها، وجدنا من كان أسعد حظاً:

ناتاليا ميليكوفا.. جدة لحفيدين وقعا ضحية أتون المأساة أحدهما لم يكن قد بلغ بعد سن الدراسة. قالت الجدة في حكايتها لـ«الشرق الأوسط»:

«عندي حفيدان توأم في الخامسة من العمر. كانا في طريقهما الى حديقة الأطفال. وفجأة انتزع صوصلان يده من راحة كف أمه ليفر بعيدا عنها صوب فناء المدرسة المجاورة لمسكننا. أصر على مشاركة التلاميذ مع ذويهم احتفالات بداية العام الدراسي. وحين لحقت به الأم مع أخته، رفض مغادرة المكان. وفجأة تعالت طلقات الرصاص ودوي انفجار. وما ان تبينت الكارثة حتى انطلقت حافية القدمين لا ألوي على شيء بحثا عن الأسرة. ولم تمض لحظات حتى وجدت فاتيما (زوجة الابن) تهرول بعيدا تجر خلفها طفليها صوصو ولاريسا. لكنني وما كدت اتنفس الصعداء حتى شاهدت ارهابيا يلاحقها برشاشه مطالبها بالتوقف. انكفأت الأم تحتضن ولديها وهي تتضرع اليه... تتوسله ان يتركهم. كانت تصرخ: «انهما لا يقرآن ولا يكتبان. اتركنا. اتوسل اليك».

وسقطت مغشيا عليها حين رأيتها تمتثل للأمر. كانت تجر قدميها والولدين في اتجاه فناء المدرسة ثانية».

وتقول فاتيما التي استضافتنا لاستكمال الحديث داخل المنزل المجاور لاطلال المدرسة المنكوبة: «مضت الدقائق الأولى ثقيلة كئيبة وقد تراكمنا جميعا في جو خانق داخل مكان لا يتسع لربع العدد الذي ارغمه الارهابيون على الامتثال لأوامرهم فيه.. في قاعة الألعاب الضيقة عشنا اسوأ لحظات العمر دون ماء او طعام لمدة ثلاثة ايام. نال العطش من الصغار. صوصو راح يطالبني بماء لا احد يستطيع توفيره. وحين اشتد عليه ولم يطق صبرا وجدته يقصد أحد الارهابيين الذي لم يجد لديه شفقة او انسانية. سأله: هل تعرف بوتين. رد عليه: نعم، وهل تعرف رئيس جمهورية اوسيتيا؟ نعم. هل هما طيبان. قال صوصو: جدا؟. اذن دعهما يبحثان لك عن الماء». عاد صوصو يسألني: «ماما.. هل لو قلت له انهما غير طيبين كان من الممكن ان يعطيني الماء!!».

وخنقت العبارات فاتيما لنتوقف برهة لم تطل طويلا: «الكارثة الكبرى لحقتنا حين ارتفعت حرارة الابنة دون ان يرق قلب أي من الارهابيين لتوسلاتي بالبحث لها عن ماء فيما تشققت شفتاها وخارت قواها، ومعها قواي في نفس الوقت الذي لم يكن يكف فيه الابن عن طلب الماء. عندها فقط مع مطلع صباح اليوم الثالث استكنت للكارثة. رحت أتوسل الى الله النهاية مع طفلي. كم كنت اود من الارهابيين ان يتعجلا اطلاق الرصاص علينا.. وما دمت سأموت مع الطفلين اللذين خلتهما في عداد العالم الآخر كان من الممكن ان يكون ذلك أهون كل الشرور». وحين كانت تمزقني كل هذه الآلام والافكار السوداء تعالت اصوات انفجارات توالت امواجها لتنتزع الابن وآخرين من مواقعهم ويغرق المكان في بحر من الدماء التي اختلطت باشلاء الضحايا.

في هذه الاجواء المرعبة وجدت النافذة المجاورة. سارعت بحمل الابنة. حاولت القاءها برفق الى الفناء المجاور. وقفت في ذهول ابحث عن الابن. عدت الى المكان وقلت: لاريسا اهربي بعيدا. وعدت ثانية افتش بنظراتي بين الزحام عن صوصو. لم اتبين وجهه وان عرفت صوته يناديني: «ماما». كان وجهه ملطخاً بالدماء شأن وجوه اقرانه. سارعت انتشله لألقي به من النافذة بعد ان امتدت ألسنة اللهب الى كل ارجاء المكان وتساقط سقف القاعة الرياضية فوق كل من فيها. وحين شعرت بلهيب يلسع ظهري بعد ان اشتعلت ثيابي سارعت بالارتماء على طرف النافذة التي سقطت منها نافذة. بعدها انتشلني رجال القوات الخاصة. وحين استرددت بعضا من الوعي بعيدا عن الجحيم رحت اصرخ في هستيرية بحثا عن الطفلين.. كنت سعيدة بالعثور على لاريسا.. وكنت أسعد حظا حين جاءوا لي بصوصو مع نهاية نفس اليوم. وفي مستشفى الأمراض النفسية استعدنا بعضا من التوازن.