الهجرة السرية .. ضحاياها ينتهون في قبضة الشرطة .. أو الموت على الألواح الخشبية

يأتون إلى جبل طارق تائهين.. يتضورون من الجوع والعطش قبل أن تتبدد أحلامهم بين أسنان سمك «القرش»

TT

في مقهى قريب من بلدة «القصر الصغير» البحرية التي تقع على بعد 40 كيلومترا (غرب طنجة في شمال المغرب)، وقف شاب في منتصف العشرينات من عمره، وهو يحمل كيسا أسود في يده ويتجه نحو النادل طالبا منه شيئا بصوت منخفض. ينظر إليه النادل ببعض الانزعاج مصحوبا بنظرات الشفقة ويطلب منه بإشارة من رأسه أن يتجه للجلوس قرب مائدة في أقصى المقهى. بعد دقائق يقدم له النادل كأس شاي أخضر وقطعة خبز مدهونة بزيت الزيتون، ورغيفا من الشعير.

هذا الزبون المتميز لن يدفع ثمن ما تناوله في هذا المقهى، ليس لأنه ضيف عزيز، بل لأنه واحد من مئات المهاجرين السريين الذين يذرعون الطريق المحاذية للشاطئ الجنوبي لمضيق جبل طارق جيئة وذهابا في انتظار فرصة لركوب قارب خشبي يوصلهم إلى الضفة الشمالية من المضيق، حيث تنتظرهم هناك كل الأحلام التي يبدعون في تخيلها بينما لا يوجد في جيبهم قرش واحد.

وبينما يتناول هذا الزبون رغيفه ويبلّله بالشاي بنهم واضح فإنه يحدق بين الفينة والأخرى من خلف زجاج المقهى المضبّب إلى تلك الجبال البعيدة التي تبدو في الأفق مثل جزيرة الكنز، التي تنتظر مغامرين ليخرجوا ما في أحشائها. لكن بين حلم هذا الشاب وبين تلك الجزيرة يوجد بحر ابتلع حتى الآن وفي ظرف عشر سنوات أكثر من خمسة عشر ألف حالم مثله، حسب تقديرات غير حكومية، ممن كانوا يحلمون بطلاق واقع البطالة والفقر ومعانقة حلم الغنى والرفاهية.

وخلال الخمسة عشر عاما الأخيرة جرب الآلاف من المهاجرين المغاربة والأفارقة مغامرة ركوب القوارب الخشبية عبر مضيق جبل طارق، وصل الكثيرون منهم إلى الضفاف الجنوبية لأوروبا، وغرق الكثيرون أيضا في مضيق عرف عنه على مر التاريخ أنه بحر بلا رحمة وبلا قلب، خصوصا عندما تبدأ رياح «الشرقي» القوية في الهبوب فجأة فتقلب تلك القطع الخشبية الصغيرة التي تسمى «الباطيرات»، والمحملة بعشرات المهاجرين فتتبلل أحلامهم ثم تنزل الى قعر الماء لتعبث بها أسنان أسماك القرش.

ويقول سكان القرى المجاورة لشواطئ مضيق جبل طارق إنهم تعودوا على رؤية العشرات أو المئات من هؤلاء الشبان التائهين الذين غالبا ما يستبد بهم الجوع والعطش فيطرقون أقرب باب ويطلبون قطعة خبز مبللة بالمرق... أيّ مرق.

ويقول (علي.ك) أحد سكان قرية «الزاهارا» المحاذية للشاطئ إنه صار يحتفظ ببعض بقايا الطعام أو الاحتفاظ بجزء منه من أجل منحه لمثل هؤلاء من العابرين الذين يمكن أن يطرقوا الأبواب حتى بعد منتصف الليل.

ويضيف علي «هؤلاء الشبان ليسوا من الذين يملكون المال ويبحثون عن قوارب الهجرة، بل هم ممن نفد ما لديهم من مال أو جاءوا إلى المنطقة وليس في جيوبهم قرش واحد بحثا عن حلم مستحيل في ركوب القوارب والهجرة نحو إسبانيا».

ويصل سعر الهجرة السرية لعبور مضيق جبل طارق على متن القوارب الخشبية الى حوالي ألف يورو، وهو سعر يمكن أن يرتفع أو ينخفض حسب الظروف والأحوال الجوية وقوانين العرض والطلب.

وتزدحم الفنادق الصغيرة لمدينة طنجة بالمئات من هؤلاء والذين ينتمون إلى عدد من بلدان أفريقيا، وبينهم أيضا صينيون وباكستانيون وهنود وجنسيات أخرى. غير أن المهاجرين الأفارقة كفوا منذ مدة عن الذهاب لوحدهم إلى شواطئ المضيق نظرا لسهولة التعرف عليهم من جانب الأمن المغربي بسبب لونهم، كما أن أي سيارة أجرة أو خاصة تضبط وهي تحملهم إلى تلك الشواطئ تتعرض للتوقيف ويعامل سائقها كمتواطئ في الهجرة السرية، وعوضاً عن ذلك فضلوا التكتل في مجموعات بالفنادق المتواضعة أو في منازل خاصة يقطنونها بشكل جماعي في ضواحي طنجة وأحيائها الهامشية في انتظار فرصة العبور نحو أوروبا.

ويحكي شاب مغربي من مرشحي الهجرة السرية التقته «الشرق الأوسط» قرب قرية «غاوجين» شرق بلدة القصر الصغير كيف أنه ظل منذ بداية فصل الصيف المنقضي وهو يجول المنطقة وينام في الأحراش المجاورة للشواطئ في انتظار العثور على قارب خشبي يحمل مهاجرين من أجل التوسل إلى صاحبه كي يحمله مجانا إلى الضفة الإسبانية.

ويقول «سلاّم.ا» الذي جاء من مدينة بني ملال (جنوب شرقي الدار البيضاء) إنه لم يحمل في جيبه من مدينته الأصلية أكثر من ألف درهم (حوالي مائة دولار) لم تكن كافية حتى للمبيت لبضعة أيام في فندق وضيع في طنجة، وبعد محاولاته المستمرة للتسلل إلى شاحنات النقل الدولي في ميناء المدينة والمتجهة نحو أوروبا عبر السفن، قبض عليه ثلاث مرات واعتقل لبضعة أسابيع قبل أن يقرر البحث عن وسيلة أخرى، وهي الهجرة عبر قارب ولو بالمجان.

ولا يعطي سلام الذي يشرف على عامه الثلاثين تبريرا مقنعا حول كيف يمكنه أن يهاجر بالمجان «يمكن أن أستعطف صاحب القارب إذا لم يكن هناك مهاجرون كثيرون، أو يمكنني أن أساعده مقابل تهجيري». لكن هذا التفكير الساذج لسلام لا يجد له وقعا في قلوب سماسرة الهجرة السرية الذين يعرفون بالغلظة والبأس.

ويضيف سلام «حاولت أن أشتغل قليلا في صيد السمك عبر القوارب هنا من أجل توفير سعر الحريك (الهجرة السرية)، لكن الناس هنا حذرون جدا من الغرباء ولا يثقون فيهم بسهولة، صحيح أنهم يعاملوننا بلطف ويمدوننا بالأكل بسخاء، لكنهم لا يجرأون على فعل أكثر من ذلك».

وسواء في حالة الشاب الأول أو الثاني، فإن أحلاما كثيرة مشابهة تطوف هذه القرى المشرفة على مضيق جبل طارق لا تدري ماذا تفعل بنفسها. وإذا كان فصل الصيف يسمح لهؤلاء الشبان بالنوم في الأحراش القريبة من الشواطئ فإن أيام البرد تجعل ذلك مستحيلا. كما أن السلطات المغربية نشرت منذ سنوات عددا كبيرا من الجنود على طول الشواطئ الشمالية في مراكز للحراسة والمراقبة لا تزيد المسافة بين واحد وآخر أكثر من بضع عشرات من الأمتار.

وفي مركز للحراسة في شاطئ قرية «الديكي» يجلس جندي بزيه الأخضر على كنبة متهرئة وهو يرتشف الشاي بينما اقترب زميله من الشاطئ وهو يمسك بجهاز «التالكي والكي» متحدثا إلى شاب من المنطقة. وقرب المركز الذي لا تزيد مساحته على خمسة أمتار مربعة توجد أحراش واسعة تشبه خيمة وحولها الكثير من قوارير الماء والمشروبات الغازية القديمة وأكياس بلاستيكية سوداء.

وأصبح عبور قوارب الهجرة السرية من هذه الشواطئ أكثر صعوبة من ذي قبل مما جعل عددا من شبكات الهجرة السرية تنقل نشاطها إلى جنوب البلاد الأكثر اتساعاً، حيث تخرج قوارب محملة بالمهاجرين الأفارقة على الخصوص في اتجاه حزر الخالدات (الكناري). وكان اكثر من عشرين مهاجرا سريا أفريقيا لقوا حتفهم قبل أسابيع في مياه الجنوب المغربي بعد غرق مركبهم أثناء محاولتهم الهجرة. وقبل ذلك مات العشرات جوعا وعطشا بعد أن تاهت مراكبهم وسط المحيط الأطلسي.

ومنذ بضعة أشهر دخل اتفاق مغربي ـ إسباني حيز التنفيذ حيث تقوم دوريات حراسة مشتركة بين البلدين بعبور مضيق جبل طارق سواء في قوارب سريعة أو في طائرات هليكوبتر لترصد قوارب المهاجرين السريين.

وكانت علاقات المغرب وإسبانيا عرفت توترا كبيرا في عهد رئيس الحكومة الإسباني السابق خوسي ماريا أثنار، الذي اتهم المغرب مرارا بعدم الجدية في حراسة شواطئه من أجل منع تسلل المهاجرين السريين. غير أن هذه العلاقات عادت إلى الانفراج عقب وصول الاشتراكيين الإسبان إلى السلطة فيما أصبح المغرب يعلن باستمرار أنه يلقي القبض على عدد من المهاجرين السريين سواء في عرض البحر أو في الغابات والأحراش المجاورة للشواطئ. ويقول المغرب إنه ألقى القبض السنة الماضية على أكثر من خمسة عشر ألفا من المرشحين للهجرة السرية، وهو ما ترك ارتياحا لدى الجانب الإسباني الذي ما فتئ يطالب بالمزيد.