أثرياء روسيا الجدد .. سلطة وفساد وترف وصل حتى المبالغة بزخرفة الحمامات

TT

عادت روسيا الى دوامة الصراع بين الثروة والسلطة إثر تصاعد نفوذ بعض نجوم الثروة ممن آثروا الاحتماء بالسلطة، في الوقت الذي تتراوح فيه مصائر البعض الآخر بين شرك السجون ومتاعب المنفى. وانتشرت في البلاد مظاهر عديدة عن ترف اثرياء روسيا، بينها ما خصصت له صحيفة «نيويورك تايمز» الاميركية تحقيقاً امس، يتمثل في التفنن في زخرفة الحمامات.

وكانت القائمة التي نشرتها مجلة «فوربس» الأميركية عن اثرياء العالم قد اشارت الى وجود 25 روسيا يحتلون مكانهم بين اكبر اثرياء العالم ما يرفع روسيا إلى المرتبة الثالثة في القائمة الدولية. ومن الغريب ان اكبر اثرياء روسيا، الذي ارتفعت ثروته إلى 16 مليار دولار، استقبل النبأ من موقعه في سجون روسيا مع نائبه بلاتون ليبيديف أحد أكبر المليارديرات الروس الجدد، في الوقت الذي نجح فيه عدد من زملائهما في الهروب قبل اعتقالهم في قضايا مماثلة تتعلق بالنصب والتهرب الضريبي رغم كل ما آل اليهم من ثروات في مجال صناعات النفط والغاز والمعادن والعقارات. ومن هؤلاء ليونيد نيفزلين نائب رئيس المؤتمر اليهودي الروسي، الهارب إلى اسرائيل، وميخائيل برودنو وفلاديمير دوبوف وقبلهم فلاديمير جوسينسكي اول رئيس للمؤتمر اليهودي الروسي، الهارب الى اسرائيل، وبوريس بيرزوفسكي الهارب الى بريطانيا، التي يعيش بين احضانها بمباركة الكرملين رومان ابراموفيتش الذي لا يزال يشغل منصب حاكم مقاطعة تشوكوتكا شمال غربي سيبيريا.

وتضم قائمة المليارديرات الروس ايضا عددا من كبار موظفي الدولة ابان عهد الرئيس السابق بوريس يلتسين ومنهم فيكتور تشيرنوميردين سفير روسيا الحالي في اوكرانيا ورئيس الحكومة الاسبق ونائبه عام 1996 فلاديمير بوتانين الذي يظل يتمتع برضا الرئيس الحالي فلاديمير بوتين مع عدد من زملائه، ومنهم ديريباسكا ويفتوشينكوف وفيكسلبيرج وآخرون. والغريب ايضا ان تضم قائمة الاثرياء يلينا باتورينا قرينة عمدة موسكو يوري لوجكوف برصيد يبلغ مليارا ومائة مليون دولار، وهي التي كانت حتى مطلع التسعينيات مجرد سكرتيرة من دون مؤهل عال.

وتكشف الوثائق، واعترافات اثرياء روسيا الجدد، أن الجميع وبلا استثناء حققوا ثرواتهم في غيبة القانون ابان سنوات التسعينيات وبموجب قرارات الخصخصة التي بيعت بمقتضاها ثروات الدولة من نفط وغاز ومعادن مقابل اسعار رمزية، ما وصفه احد اقطاب اليمين الليبرالي، بوريس نيمتسوف، بـ «رأسمالية اللصوص وقطاع الطرق».

وكانت النيابة العامة في روسيا الاتحادية قد طالبت اسرائيل بتسليم ليونيد نيفزلين نائب رئيس شركة «يوكوس» النفطية ورئيس المؤتمر اليهودي (من مارس/آذار حتى ديسمبر/ كانون الاول 2001) الهارب إليها. وكان نيفزلين قد سارع للهرب إلى اسرائيل التي منحته جنسيتها في اعقاب اعتقال بلاتون بلاتونوف نائب رئيس شركة «يوكوس» النفطية قبيل اعتقال رئيس الشركة ميخائيل خودوركوفسكي. وقد كشفت ملابسات هذه القضايا عن تورط عدد من ابرز اقطاب مليارديرات روسيا الجدد في تدبير جرائم قتل واغتيال إلى جانب الكثير من المخالفات المالية والتهرب الضريبي. وكانت النيابة العامة الروسية قد طالبت بتسلم كل من فلاديمير جوسينسكي رئيس المؤتمر اليهودي الروسي وصاحب امبراطورية «ميديا موست» وبوريس بيريسوفسكي الهاربين إلى اسرائيل وبريطانيا، فيما طالبت في مطلع 2004 بتسليم نيفزلين، الا ان النيابة لم تتلق استجابة الاجهزة القضائية في كل من بريطانيا واسبانيا واليونان واسرائيل. واذا كانت النيابة العامة قد طالبت في السابق بتسليم نيفزلين لاسباب تتعلق بجرائم المال العام والتهرب الضريبي فقد عادت اخيراً لتطالب بذلك بسبب تورطه في حوادث تتعلق بتدبير الاغتيالات وتصفية عدد من منافسيه. ويذكر المراقبون ان الرئيس بوتين كان قد اجتمع مع عدد من اكبر رجال المال والاعمال في اعقاب انتخابه رئيسا للدولة الروسية خلفا للرئيس السابق يلتسين حيث واجههم بضرورة الالتزام بتنفيذ عدد من الشروط من اجل تحسين العلاقة بين الثروة والسلطة وفي مقدمتها عدم التدخل في السياسة والالتزام بدفع الضرائب وعدم تهريب الاموال إلى الخارج والاهتمام بتطوير القطاعات والمجالات التي يعملون بها، إلى جانب المساهمة في تطوير البنية التحتية للمناطق التي توجد بها مؤسساتهم، ورفع مرتبات العاملين بما يكفل ظهور الطبقة الوسطى على اسس سليمة. ومن اللافت للنظر ان مثل هذا المصير سبق أن تعرض له فلاديمير جوسينسكي صاحب اكبر امبراطورية اعلامية ورئيس المؤتمر اليهودي الروسي حتى لحظة اعتقاله عام 2000 والذي اضطر إلى بيع الجزء الاعظم من اصول ممتلكاته والهرب إلى الخارج في ظروف غامضة. وقد كان بوريس بيريسوفسكي الملياردير الروسي الثاني على قائمة المستهدفين قبل تمكنه من الهرب إلى بريطانيا الذي استطاع فيها الحصول على حق اللجوء السياسي.

وبعيداً عن قضايا فساد الاثرياء، وتورطهم في الاحتيال والتهرب الضريبي، فان العديد منهم اصبحوا يوردون الى روسيا مظاهر ترف لم يكن الروس يعرفونها. وانتشرت في الآونة الاخيرة ظاهرة المبالغة في تزيين وزخرفة الحمامات في مطاعم موسكو، الى حدود لم يمكن ملاحظتها في الدول الغربية. ففي «مقهى فرويد»، القريب من الكرملين مثلاُ، يأكل الزبائن وجبات تحمل أسماء من قاموس عالم النفس سيجموند فرويد مثل «اللذة الجنسية» و«الأنا» ثم يتجهون إلى مرافق محترمة جدا عبر أبواب مغطاة بالزجاج وبها رسوم ذات أسلوب يشبه أسلوب الرسام خوان ميرو.

واصبحت المطاعم الفخمة وسط موسكو تتنافس في مجال زخرفة غرف الاستراحة فيها، من خلال استخدام السطوح المذهبة والجدران المبطنة بالجلد والحمامات المواجهة لأكثر المشاهد الساحرة في المدينة، إضافة إلى تجاويف المرافق الصحية المصنوعة من الخزف الروسي التقليدي.

قد يبدو هذا تفسيراً لما كان لينين قد توقعه عام 1921 بأن الجماهير ستتمكن يوما ما من الجلوس على مرافق من ذهب، على الرغم من الإحصائيات الأخيرة التي تقول إن 40 مليون روسي، نحو 30 في المائة من سكان البلاد، يعيشون بدون أنابيب داخل بيوتهم. ويورد المحللون اسبابا عدة لظاهرة مبالغة اثرياء روسيا الجدد بزخرفة الحمامات. وتقول المحللة النفسية يلينا بازهينوفا، الباحثة بجامعة موسكو، ان البلد يمر بمرحة جديدة وكل المطاعم فيها بدأت الآن تصميم مراحيضها. وتضيف ان الحمام السليم مهم للحياة، و«انه لأمر مهم أن يكون المرحاض نظيفاً. إذا عانى الطفل من صدمة، فإنه سيكون بالتأكيد راشدا عصبيا عندما يكبر». الا ان الكسي زيمين، الصحافي المهتم بشؤون المطاعم، أشار إلى دافع براغماتي آخر، وقال: «بالتأكيد ذلك يعود للاموال. فالناس تتنافس مع بعضها البعض، وهناك تنافس في الطعام والشراب والمطبخ. والمرافق هي عنصر آخر لجذب الاهتمام». أما يفغيني كاتسنلسون، صاحب المطاعم المشهور، فرأى ان هذه الظاهرة الجديدة في روسيا تم استيرادها من إنجلترا. وأضاف قائلاً: «أنا لا أعلم لماذا تبدو المرافق الصحية جميلة جدا. إنها ظاهرة جديدة». وهو يسمي مراحيض المطاعم باسماء مراحيض أخرى شاهدها في العالم ابتداء من ميلانو ولاس فيغاس إلى «سوشي رومبا» في نيويورك.

لكن مارينا بوتيلوفسكاي، مصممة ما يعرف بـ «بلازو دوكال» وهي صفائح زجاجية مذهبة تستلهم شكلها مما هو موجود في مدينة البندقية الايطالية وترافقها عادة حمامات تتماشى مع تصاميمها، فتدافع عن المطاعم الحديثة مع مرافقها الصحية الجميلة، وتقول: «عندما يكون لدى الناس شيء جميل فإنه يحفزهم على العمل أكثر». ومن منظور تاريخي يقول كونشالوفسكي إن الهوس الروسي بالحمامات تطور واعد و«عندما تكون المراحيض قذرة فإن الأمور لا تسير بشكل حسن».