الرباط تستعيد دفئها والمحتجون أمام البرلمان يعودون لكي يؤثثوا ديكور الدخول السياسي

متعة الاحتجاج وسط العاصمة المغربية لا يدرك كنهها إلا الموجودون في قلبها

TT

الدخول السياسي في المغرب يبدأ في أواخر سبتمبر (أيلول) وبداية أكتوبر (تشرين الأول) حين تبدأ العاصمة الرباط في نفض آثار صيف قائظ وبقايا مهرجانات ثقافية وموسيقية هنا وهناك لترتدي من جديد ربطة عنقها وتتأنق من جديد قبل أن يداهمها صيف آخر.

في شارع محمد الخامس، يبدأ زحام آخر لموظفين يختالون في أزيائهم الجديدة ومحفظاتهم الجلدية وهم يسرعون إلى مكاتبهم، أو الى اقرب مقهى او مطعم لتناول وجبة فطور أو غداء.

وأمام مقر البرلمان يعود من جديد ذلك المشهد الذي تعوّده المغاربة منذ سنوات حيث يقف المئات من حاملي الشهادات العاطلين الذين يطالبون الحكومة بعمل، فتتحول الساحة في كثير من الأحيان إلى ساحة وغى وتتناوب سيارات الإسعاف على حمل الجرحى إلى المستشفيات، وأحيانا يكتفي الجرحى الساقطون أرضا بتبادل النظرات مع أفراد الأمن المدججين بهراواتهم ولسان حال كل منهم يقول: لا مفر، كل منا يلعب الدور الذي قدّر له.

وفي كل يوم تقريبا يزدحم وسط العاصمة الرباط أمام مقر البرلمان بمئات من الشبان والشابات الذين يسيرون في مسيرات طويلة وهم يرددون شعارات أو يرفعون لافتات تطالب بتشغيلهم.

وأضحى هذا المشهد الذي كان مستغربا قبل سنوات إلى شيء مألوف بين سكان العاصمة أو زوارها الذين يقفون لبضع ثوان أو دقائق لتأمل احتجاجات حاملي الشهادات الجامعية العليا ثم ينصرفون إلى حال سبيلهم. وأحيانا يغري هذا المشهد السياح الأجانب الذين لا يتورعون عن الاقتراب من الجموع لالتقاط صور تذكارية مع هذا المشهد الذي أصبح يرمز للرباط كما ترمز إليها صومعة حسان أو نهر أبي رقراق.

غير أن هذه المسيرات التي تبدو سلمية في غالبيتها كثيرا ما تتطور إلى مواجهات شرسة بين العاطلين وافراد الأمن، وكثيرا ما أسفرت عن إصابات بليغة، بينما تبقى في الشارع آثار دماء لمعطلين يتم حملهم إلى المستشفيات أحيانا، وفي أحيان أخرى يلقون المساعدة من طرف زملائهم فقط.

وارتفع معدل البطالة في المغرب بشكل حاد بحيث أصبح لا يكاد يخلو بيت مغربي من عاطل أو أكثر في ظل بنية اجتماعية شابة، حيث أن 83 % من السكان البالغ عددهم ازيد من ثلاثين مليون نسمة تتراوح أعمارهم بين 15 و35 سنة، و30 % تحت 14 عاما، أي أن السكان تحت 35 عاما يشكلون حوالي 70% من مجموع السكان.

وتصل نسبة البطالة في صفوف حاملي الشهادات العليا إلى 60%، بينما تصل إلى 35% بين حاملي الشهادات المتوسطة.

وتسببت نسبة البطالة المرتفعة بين الشباب المتعلم وغير المتعلم إلى ارتفاع نسبة الهجرة، وخصوصا الهجرة السرية في قوارب الموت عبر مضيق جبل طارق والتي أودت في ظرف خمس سنوات فقط إلى موت أزيد من أربعة آلاف شخص غرقا أو في حوادث بالبحر.

وتقول جمعيات حقوقية إن تجمعات حاملي الشهادات في الرباط للاحتجاج تسببت في طلاق عدد كبير من المحتجات المتزوجات بسبب غيابهن الطويل عن منازلهن. ويأتي هؤلاء من مختلف مدن المغرب، حيث يضطرون أحيانا لجمع التبرعات في الشارع العام الذي يمنحهم التعاطف المعنوي، فيما يبقى التضامن المادي غير مضمون.

وبدأ تقليد الاحتجاج أمام البرلمان المغربي خلال تسعينات العقد الماضي، حيث تم استعمال هذه الساحة من طرف العشرات من الجمعيات والهيئات والأحزاب السياسية وجمعيات العاطلين وآباء المختفين السياسيين والمكفوفين والمعاقين، وحتى أقرباء وأولياء شبان اتهموا بالانخراط في تنظيم عبثي سمته السلطات «عبدة الشيطان».

ومن أكبر المجموعات التي تحتج في الساحة المقابلة للبرلمان جمعية «ضحايا النجاة»، وهو اسم جمعية تضم عددا كبيرا من بين تسعين ألف شاب وشابة قالوا إنهم تعرضوا للاحتيال من طرف شركة وهمية اسمها «شركة النجاة»، عرضت عليهم العمل في بلد خليجي، قبل أن يجدوا أنفسهم يحاولون النجاة من البطالة ومن عصي أفراد الأمن.

وكان المحتجون في السابق ينصبون خياما صغيرة في الساحة أو أكواخا من قطع الثوب ويظلون هناك لأيام. غير أنه تم منع ذلك بالتدريج وأصبح الاحتجاج في هذا المكان يخضع لما يشبه نظام الكوتا (الحصة) باتفاق ضمني.

وفي العام الماضي أعيدت هيكلة شارع محمد الخامس وتم توظيف حراس يمنعون المارة أو المحتجين من وطء العشب في الساحة، وهو ما يعني تحجيم عدد المحتجين.

وبدا من المفارقات أن أفراد الأمن الذين يتولون الأمن في هذه الساحة لا يتغيرون في الغالب، لأن خبرتهم جعلتهم أكثر استعدادا للتعامل مع هذه الاحتجاجات وتطوراتها التي تتفرع أحيانا إلى الشوارع المجاورة وتجعل وسط المدينة يعيش حالة طوارئ بحيث يعاني المارة من خلط يجعلهم يقتسمون أحيانا وجع الضرب مع المحتجين.

ولم تعد هذه الاحتجاجات المتواصلة تثير دهشة وسط سكان العاصمة، بينما يجد فيها زوار المدينة من المغاربة والأجانب «متعة» ربما يفتقدونها في مدنهم الأصلية، وهي «متعة» لا يدرك كنهها إلا الموجودون في قلبها.