مصر تودع مبنى «المجمع» رمز البيروقراطية وعبارة «تعال بكره»

بني قبل نصف قرن ليكون مركزا للخدمات ومستقبل المبنى قد يكون فندق 3 نجوم يطل على ميدان التحرير

TT

إذا كان للمباني ان تتكلم، فإن مبنى المجمع الشهير في وسط القاهرة «ميدان التحرير» سيقول لك بسخرية: «تعال بكره».

وقد بني المجمع قبل أكثر من نصف قرن من الزمن، وكان من المفروض أن يصبح نقطة مركزية للحصول على كل شيء من شهادات الميلاد والوفاة وما بينهما، وختم وتوقيع الشهادات والتصاريح. ولكن مع مرور الوقت، أصبح المجمع رمزا لتراكم الاوراق والبيروقراطية والخدمة السيئة والاحباط وتحول الى معلم من معالم مصر.

والآن وتحت توجيهات مجموعة جديدة من التكنوقراط الذين يحلمون بكفاءة عصر الإنترنت، أصبحت أيام المجمع معدودة، حيث سيجري الانتهاء من إخلائه بنهاية 30 يونيو (حزيران) من العام القادم. وسيتم تحويل مكاتبه الى مناطق متعددة في القاهرة. ولن يتجول المصريون في ممراته بحثا عن مكاتب خفية تعمل في أوقات اعتباطية وتشرف عليها شخصيات بيروقراطية. ولن يخرج المصريون من المبنى الذي يرتفع 13 طابقا وهم يرددون الشتائم واللعنات، بحثا عن ورقة مفقودة.

ويقول سامي سعد، وزير شؤون مجلس الوزراء، الذي يشرف على عملية الاخلاء: «لقد أصبح أمرا مزعجا. فبدلا من أن يتحول الى مكان مركزي يقدم كل الخدمات التي يحتاجها المواطن، أصبح المجمع فوضى».

والتخلي عن المجمع ـ أدى إلى موجة صدمات بين المصريين عندما علموا بالأمر ـ هو دليل على التغيير في بلد غير نشط. وفي 7 سبتمبر( ايلول)، جرت في مصر اول انتخابات رئاسية متعددة، فاز بها الرئيس حسني مبارك، وقد سبقتها حملات انتخابية وانتقادات علنية لمبارك. وخلال تلك الفترة كان المجمع المكان المفضل لمظاهرات المعارضين لمبارك.

وقد أكد فيلم «الارهاب والكباب» الذي ظهر في عام 1993 وضع المجمع باعتباره صرحا سياسيا. وقد صور معظم الفيلم على السلالم الحلزونية للمجمع المزدحم بمئات من المواطنين الباحثين عن المكاتب لقضاء أحوالهم. وفي الفيلم، يحاول مواطن ترتيب نقل ابنه من مدرسة لأخرى، وبعد وقت طويل قضاه في التجول ومشاجرة مع موظف ملتح وكسول، ينتهي به الامر بالحصول على مسدس، فيتصور الجميع انه استولى على المجمع، ويطلب منه وزير للداخلية تحديد مطالبه. والشيء الوحيد الذي فكر فيه هو الكباب. وفي النهاية يخرج المتمرد من المجمع بصحبة الرهائن الذين أعجبوا به بدون أن يكشف عنه أحد.

وقال المؤرخ محمد ثابت «المجمع يرمز الى البيروقراطية التي لا يمكن قهرها. ان اخلاء المبنى سيصبح نهاية لرمز من رموز الدولة المصرية، مثل هدم الاهرام. وربما افتقده».

وقد أقيم المجمع في الاربعينات، حيث كان يرمز الى الرغبة في التحديث. وكانت خطوطه الواضحة تهدف الى الاشارة الى الكفاءة.. وفي داخل المبنى تنتشر المكاتب حول «منور» مركزي. ولا يوجد دليل في مدخل المجمع لأكثر من 1300 مكتب.

وقبل أيام، ذهب مصطفى عطوة وابنته ياسمين الى المجمع. وكانا يحملان رزما من الاوراق، فقد قضيا عدة ايام في زيارة مكاتب التسجيل ومراكز الشرطة في جميع انحاء القاهرة للحصول على الاوراق اللازمة للحصول على جواز سفر لياسمين. وقد ولدت في المانيا حيث كان والدها يعمل تاجرا للسيارات المستعملة لأكثر من 32 سنة.

وبعد عدة ايام من جمع الوثائق والمطالبة بنسخة اضافية من هذه الوثيقة او غيرها، لم يتمكنا من الحصول على طلب لتقديمه الى مكتب الحركة في المجمع. واشتكى عطوة من ان نسخ صفحة على جهاز النسخ في المجمع تكلف 20 سنتا بينما خارج المجمع تكلف 4 سنتات فقط. «ثم يطلبون منك شراء ورقة دمغة ولكنهم لا يبيعونها بل تشتريها من مكتب آخر. وربما من مكان آخر في القاهرة». واستأجر عطوة، وهو مشهلاتي (وسيط) اسمه فكري، وضمن مجموعة من الأدلاء غير الرسميين الذين يساعدون السكان علي التجول في المجمع والوصول الى المكاتب التي يرغبون في الذهاب اليها.

وقال فكري بهدوء: «اعطني رقم السجل المدني. لا هذا الرقم من الهجرة. احتاج الى رقم السجل. سنبدأ من البداية مرة اخرى».

وقال عطوة: «لقد حضرنا الى هنا، وقالوا لنا عليكم الذهاب الى مكان آخر، ولكن عدنا مرة اخرى. ثم قالوا عودوا بعد ساعتين. ثم غدا. ربما عشت في المانيا لفترة طويلة، ولكني لست مستعدا لتحمل ذلك».

وقال اللواء محمود ياسين، مدير المبنى وهو ضابط شرطة سابق، ان المشكلة هي الازدحام. حيث يزور المبنى 20 ألف شخص يوميا، ويعمل به 9500 موظف حكومي.

ويتجنب اللواء ياسين الازدحام بالدخول من مدخل خاص. ويجلس في مكتب مكيف الهواء يراقب عبر كاميرات التلفزيون الممرات والمكاتب وهو لا يخرج أبدا من مكتبه لسؤال المواطنين عن معاملتهم. ورد على سؤال بقوله «وظيفتي لا تتطلب معرفة كيف يفكر الناس. لدينا مديرون يتحملون تلك المسؤولية». وتجدر الاشارة الى ان الطوابق الثلاثة العليا تابعة لوزارة الداخلية. وهناك مكاتب تحمل تسميات غامضة مثل مكتب الأموال العامة. وقد سأل صحافي موظفة في قاعة الطابق هناك عما اذا كان المكتب يوزع ام يجمع المال فلم تعرف.

أما مكاتب مصلحة المياه والمجاري في الطابق السابع فكانت مغلقة. بينما كانت مكاتب الجوازات أكثرها حداثة. وكتب صحافي في جريدة «الأهرام» مقالة قال فيها: «إذا لم تكن مكاتب لسباقات الفئة الاولى، فلم يعد قاربا بطيئا للصين به طاقم يهدف الى مضايقة الركاب».

وتجدر الاشارة الى ان «الخروج من المجمع»، هو جزء من حركة عامة لتقليل الاعتماد على القاهرة بإعادة توزيع البيروقراطية المصرية. والفكرة هي ترك منطقة وسط القاهرة والضواحي المزدحمة، وهي ليست فكرة جديدة. فقد أسس الرئيس الراحل أنور السادات مدينة جديدة أطلق عليها اسم مدينة السادات على بعد 50 كيلومترا شمال القاهرة، كموقع للمكاتب الحكومية، ولكن التجربة لم تنجح وأصبحت مدينة اشباح.

وقد أعدت حكومة مبارك خطة لنقل 15 وزارة الى مناطق على الطريق الدائري حول القاهرة. ويطلق على المنطقة اسم القرية الذكية، وهي من أفكار رئيس الوزراء أحمد نظيف.

ويعتبر الاسلوب المعماري للقرية الذكية محاولة للتعبير عن الكفاءة والحداثة، إلا انها تختلف عن المجمع في خلوها من الازدحام. وتبدو مثل مصيف في غير موسم العطلات. وقال وزير شؤون مجلس الوزراء: «نريد خفض حاجة المصريين للحضور إلى الوزارات. ويمكننا تمكين المواطنين عبر الحكومة الاكترونية».

ويبقى شيء واحد: مصير المجمع. فقد أشارت وسائل الإعلام المصرية الى انه سيتحول الى فندق ثلاث نجوم، فموقعه جذاب حيث يقع عبر ميدان التحرير بالقرب من المتحف المصري ومن الحي التجاري الذي يرجع للقرن التاسع عشر. غير انه لا يوجد موقف انتظار. ويقول الوزير: «ان المبنى صلب، لم يعد أحد يشيد أبنية مثل هذه».

* خدمة «واشنطن بوست»، خاص بـ «الشرق الأوسط»