الجالية المسلمة في فرنسا: بين مطرقة العلمانية وسندان السياسات التهميشية

فرنسا تعاني من مشكلة «الأئمة الموسميين» والدولة تراهن على تنظيم رسمي

TT

كثر الجدل أخيراً قي فرنسا عن وضع الجالية المسلمة التي تعد نحو خمسة ملايين نسمة، أي ما يعادل حوالي عشرة في المائة من المجتمع الفرنسي، والتي باتت تشكل قوة اجتماعية وسياسية ضاغطة. وتعتبر الجالية المسلمة في فرنسا أكبر جالية مسلمة في أوروبا الغربية، ولذلك تعد التطورات في فرنسا تجاه مواطنيها المسلمين مؤشراً مهماً لباقي سكان أوروبا من المسلمين. والجدل يدور بشكل أساسي حول مدى انخراط هذه الفئة في المجتمع العام، ومدى قابليتها للانخراط في مجتمع يعتمد على «العلمانية» كمبدأ جوهري لتنظيم شؤونه، وذلك منذ حوالي ألفي عام. وبدأت العلمانية الفرنسة تواجه تحديات كبيرة بسبب التغييرات التي طرأت على شكل المجتمع وخصوصيته، خاصة مع نمو الجالية الإسلامية الوافدة إلى فرنسا. وهذا المعطى حتم على الجمهورية إعادة حساباتها للحفاظ على شكل العلمانية المطبقة وضرورة تجديدها لكي تتلاءم مع التركيبة المجتمعية الآنية. وجاء قانون منع الرموز الدينية في الدوائر والمدارس العامة، والذي كان المقصود منه أولاً وآخراً الحجاب الاسلامي على وجه الخصوص، لتظهر الشرخ الحاصل داخل المجتمع الفرنسي. وبين القرار، الصادر في مارس (آذار) عام 2004، جهل صناع القرار الفرنسيين للعديد من ممارسات الديانة الاسلامية، وهي الديانة الثانية في الجمهورية بعد الكاثوليكية. والقانون الجديد حول الرموز الدينية والطريقة التي تم التعاطي فيها معه زاد من العزلة والتهميش للجالية المسلمة التي باتت تشعر باضطهاد يشجعها على اختيار العيش في دولة منعزلة داخل الدولة. إن التطرق لموضوع انخراط المهاجرين المسلمين في المجتمع الفرنسي أصبح أشبه بالدوران في حلقة مفرغة، فيصعب تحميل أي طرف من الاطراف مسؤولية تردي حال هذه الجالية. فالتهميش السياسي والاجتماعي الذي تعيش تبعاته فئة كبيرة من الجالية المسلمة في فرنسا، نظراً لعدد غير قليل من الأحكام المسبقة من قبل الفرنسيين، أدى إلى خلق نوع من التجمعات والجزر المعزولة التي باتت تشكل قنبلة موقوتة في وجه العيش المشترك وديناميكية الانخراط الاجتماعي. وداخل هذه «الغيتوات" الغنية عن التعريف، يعيش عدد كبير من الشباب على هامش المجتمع في أوساط شبه معدمة اقتصاديا. و«الغيتوات» هي عبارة عن مجمعات سكنية لذوي الدخل المحدود وغالباً ما تكون في ضواحي المدن الكبرى. وعدم تعاطي السلطات الفرنسية بصورة صحيحة مع سكان هذه المجمعات ساهم في عملية دخولهم في حالة من الاغتراب التي تؤدي غالباً إلى حالات من الحقد العنيف ضد البلد المضيف. وعلى سبيل المثال، في الضاحية الشمالية الشرقية للعاصمة باريس، حيث توجد أحياء سكنية ذات اكتفاء ذاتي، يتوقف سير النقل المشترك بعد ساعة معينة بعد الظهر للحد من تنقل الشباب خارج منطقتهم ووقوع بعض الحوادث الأمنية. ولكن سياسات مثل هذه تحول تلك الأحياء السكنية، في نهاية المطاف، إلى مناطق لا تمت للأراضي الفرنسية بأية صلة تاريخية وجغرافية. وتاريخياً، وفد المهاجرون العرب من بلدان كانت تحت الاستعمار الفرنسي لفترات طويلة. هؤلاء أتوا في الدرجة الأولى بحثاً عن عمل، وبحثاً عن بلد يؤمن لهم الحد الأدنى من العيش الكريم الذي يحفظ لهم حقوقهم. وبسبب التحاق أفراد العائلة برب العائلة ودخول الأبناء في النظام التعليمي، تحولت الإقامة المؤقتة إلى إقامة دائمة، أملا بأن ينال الجيل الجديد فرصة قد لا تكون مؤمنة في بلد المنشأ. فأبناء الجيل الأول من المسلمين في فرنسا، الذين لم ينالوا الجنسية الفرنسية، كانوا يخافون من الطرد، الأمر الذي دفعهم إلى إخفاء هويتهم الاسلامية. أما جيل الشباب المسلمين الفرنسيين الذين ولدوا ونشأوا قي فرنسا، فهم يشعرون بثقة أكبر من آبائهم في معركتهم ضد تهمة الانتماء المزدوج. وفيما كانت مطالب الآباء تتركز في تحسين الرواتب وبالتالي الظروف الاقتصادية التي يعيشون فيها، تركزت مطالب الجيل الثاني على حقهم في مكانتهم في المجتمع الفرنسي كما قال الشاب ديلا لـ«الشرق الأوسط»، وهو شاب جزائري نشأ وتربى في مجمع شمال شرق العاصمة باريس. وأضاف ديلا أن الشباب من الجذور العربية و الإسلامية لا يقصرون في إظهار حقدهم ضد كل ما يرتبط بالاستعمار. وعادة ما يؤدي الوضع الاقتصادي المتردي إلى تشييع ظاهرة العنف والإجرام. وهذه الظاهرة التي تلاحظ مع الجيل الثاني من أبناء المهاجرين هي نتيجة العلاقة الآنية لهم بالمكان والزمان والسياسات الرسمية التي عادة ما تؤدي الى التهميش والعزل. وبينما يجد الشاب المسلم أحيانا نفسه غير قادر على الحصول على فرص عمل كغيره من أبناء فرنسا، فهو يواجه أيضاً رفضاً لهويته قد تولد فيه كراهية ضد نظام يتبع سياسات عنصرية. وهذه الحالة جعلت الأحياء السكنية المعزولة أرضاً خصبة لجماعات التبليغ المتطرفة. وأحياناً أصبحت المساجد الصغيرة في هذه الأحياء مراكز لالتقاء الشباب وتبشير الجماعات التكفيرية. ومؤخراً، بدأت السلطات الفرنسية تنفذ تهديدها بمعاقبة الأئمة المتشددين المتهمين بتعبئة الشباب المسلمين ضد الدولة الفرنسية، والغرب عموماً، من خلال خطبهم العنيفة والراديكالية. وتم حتى الآن إبعاد إمامين إلى الجزائر من أصل عشرة مهددين بإسقاط الجنسية عنهم أو إبعادهم، واشتهر بينهم الجزائري عبد القادر بوزيان لتصريحاته المثيرة للجدل في الوسط الفرنسي عن حقوق المرأة. ورُحل آخرون، على رأسهم الإمام التركي مدحت غولر الذي نفى في إحدى خطبه في المسجد أن يكون مسلمون شاركوا في هجمات نيويورك في سبتمبر (أيلول) عام 2001. وتعتبر فرنسا أكثر الدول الأوروبية صرامة في التصدي للمتطرفين، فيما يعارض البعض سياساتها ويقولون إنها تنافي الحريات المدنية التي اشتهرت بها فرنسا تاريخياً بعد الثورة الفرنسية.

وتعاني فرنسا من ظاهرة «الأئمة الموسميين» الذين لم يتلقوا غالباً أي تأهيل ولا يتكلمون اللغة الفرنسية، وبعضهم لا يملك سوى معرفة سطحية بتعاليم القرآن الكريم. فمن بين 1000 الى 1500 إمام مسجد في فرنسا، يحمل فقط 10 في المائة منهم الجنسية الفرنسية، بينما نصفهم لا يجيد اللغة الفرنسية مما يزيد من عزلتهم. وهؤلاء الأئمة عادة ما يشجعون الشباب على رفض مفاهيم المجتمع الفرنسي الذي يجهلوه أساساً.

ورغم معاناة فئة من أبناء الجالية المسلمة من الفقر، فقد أساء عدد منهم استعمال بعض القوانين التي سنتها الدول الأوروبية للضمانة الاجتماعية. واستفاد هؤلاء المهاجرون من بعض الثغرات في القوانين، فشاع مثلاً السعي للحصول على مساعدات البطالة أو الضمان الاجتماعي من دون وجه حق. كما انه تم إنشاء العديد من المنظمات والمراكز ومنها ما يرتبط الجالية ارتباطاً وثيقاً بدول المنشأ لاعتمادها بدرجة كبيرة على المساعدات والتبرعات التي تقدمها هذه البلدان. ولكن هذا الاعتماد المادي يسمح للحكومات أن تمارس نفوذاً مباشراً عليها. لذا فمن الطبيعي أن تظهر الجمعيات ميولا خاصة إلى الدولة المانحة. وأحد أسباب الخلاف داخل صفوف الجالية الاسلامية في فرنسا هو ارتباط هذه الجالية بوطنها الأصلي، الأمر الذي نقل مناخا أبعد ما يكون عن الوئام والتنسيق، والجاليتان المغربية والجزائرية تعانيان من هذه الظاهرة. إن الخوف من وقوع الأجيال الشابة من المهاجرين تحت تأثير الأصوليين المتطرفين، وانتشار شعورهم بالعزلة بعدما تركت ادارة شؤونهم الى جماعات متعصبة ومنغلقة، جعلا السياسيين الفرنسيين يسعون الى تنظيم وجود اسلامي «رسمي». وكان مسجد باريس الرئيسي تقليدياً الممثل الوحيد للمسلمين، علماً بأن عميده عادة من أصل جزائري. وعلى الرغم من تعدد المبادرات والوسائل، الا أن الهدف الجامع كان فرض «رقابة» على المسلمين والذين اعتبروا أنهم يمثلون تهديداً لطريقة العيش الفرنسية. وبدأت عملية التنظيم بـ«مجلس التفكير حول الإسلام في فرنسا» عام 1989 الذي شُكل بمبادرة من وزير الداخلية في الحكومة الاشتراكية آنذاك« بيير جوكس. وذهب منظمو المجلس يعينون أعضاءه من المسلمين، مما دفع إلى عدم اعتراف الجالية به. وفي عام 1993، أوكل وزير الداخلية اليميني، شارل باسكوا، مهمة تأسيس «المجلس التمثيلي لمسلمي فرنسا» إلى دليل أبو بكر، عميد مسجد باريس، الذي نجح في جمع التيارات الإسلامية الرئيسية في الوهلة الأولى، الا أنها انقسمت لاحقاً. واتعظ وزير الداخلية بين عامي 1997 و2000، جان بيار شوفنمان، من فشل الذين سبقوه، فاقترح في عام 1999 إجراء مشاورات تفضي إلى إطلاق مبادرة جديدة من قادة الجالية المسلمة وحدهم، ولو أن «مساعدة» السلطات الفرنسية لا تغيب عنها. وهكذا تم الاتفاق على إنشاء «المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية» الذي انتهت تفاصيل تشكيله نهاية عام 2002. وأعلن حينها وزير الداخلية نيكولا ساركوزي عن الانتخابات التأسيسية للمجلس في ابريل (نسيان) 2003. ولكن رئيس الهيئة الإسلامية الجديدة، دليل أبو بكر، عين مسبقاً من قبل وزير الداخلية، بينما انتخب فؤاد علوي من «اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا»، ومحمد بشاري من «الفيدرالية الوطنية لمسلمي فرنسا» كنائبين له. وبينما يعتبر المجلس أنه الوسيط الرسمي بين الحكومة الفرنسية والجالية المسلمة، الا انه يعتبر موالياً للنظام الفرنسي، مما يبعد بعض المسملين عنه. وعلى الرغم من ان المظاهرات التي عمت شوارع فرنسا، رفضاً لقانون منع الرموز الدينية، لفتت انتباه كاميرات مصوري الإعلام حول العالم، ان هناك نماذج حية لاندماج بعض المهاجرين في فرنسا. فقد انتخبت الكاتبة الجزائرية الأصل، آسيا جبا، في «الأكادمية الفرنسية» الثقافية المرموقة، لتصبح أول امرأة من أصل عربي أو مسلم تتولى هذا المنصب. ومن جهة أخرى، شهدت باريس معرضا مخصصا لمنتجات الأغذية «الحلال» المخصصة للمستهلك المسلم. ومن اللافت أن 10 في المائة من اللحم المستهلك في فرنسا هو «حلال»، وبدأت الشركات الفرنسية الكبيرة تنافس محلات المسلمين التي تبيع هذه المنتجات. وهذان النموذجان البسيطان يدلان على إمكانية النجاح في مجالات اجتماعية واقتصادية لتقليل الفجوة السياسية بين بعض مسلمي فرنسا وحكومتها. ويبقى مستقبل الجالية المسلمة في فرنسا مرتبطاً بتخلص هذه الجالية من التشبث بالتكتلات المحلية. لكن ما ظهر جلياً هو أن نقل الدين الاسلامي، كما هو، من دول المنشأ إلى فرنسا، أمر غير منطقي. فالتحدي الأكبر للفترة المقبلة يتمثل بالقدرة على إنشاء إسلام «مستقل» مادياً وثقافياً قادر على التطور بعيداً عن أي وصاية آيديولوجية لبلد المنشأ أو للبلد المضيف.