سجن بولاتي بإيطاليا: تونسي تحول إلى إمام .. ومغربي لم ير ابنته منذ أن كانت رضيعة

المسلمون يشكلون 2% من سكان إيطاليا و30% من نزلاء سجونها

TT

فتح الحراس الباب المعدني الضخم وأغلقوه ثانية في كل طوابق سجن بولاتي، فيما صوت الاذان يتردد داخل الممرات. هرع السجناء الى المصلى المؤقت لأداء الصلاة في نهاية بهو في الطابق الرابع من المبنى رقم 1، حيث وضعت ورقة كتب عليها باللغة الايطالية بخط اليد «مسجد». ليس هناك أثاث داخل المسجد سوى ثلاث سجادات خضراء ولوح على الجدار كتبت عليه آيات قرآنية. خلع عبد الفتاح جندوبي، 42 سنة، حذاءه وتوجه الى المصلى، وانضم اليه بعد وقت قصير اثنان آخران. قال جندوبي، الذي يقضي حكما بالسجن اثر ادانته في قضية تتعلق بالمخدرات، ان الاقبال على الصلاة دائما ما يكون اكثر يوم الجمعة. واضاف ان الشبان المسلمين في السجن ليسوا متدينين بصفة عامة، معرباً عن امله في ان يغير ذلك.

مضى جندوبي، وهو تونسي، قائلاً انه يريد ان يدرس هؤلاء الشباب أشياء «مفيدة»، لكنه لا يدرى ما اذا ستشرف السلطات، التي تفتقر الى وجود رجال دين يتحدثون العربية، على الأحاديث والدروس التي سيلقيها، وما اذا كانت ستتفق معه على تعريف «مفيدة». يقول جندوبي ان هؤلاء الشبان يجب ان يغيروا حياتهم وان الدين يريدهم ان يتركوا حياة الجريمة. لكن يبدو ان مهمة جندوبي ليست سهلة بأية حال، اذ يجب عليه ان يصل الى الشباب المسلم داخل هذا السجن الواقع في أطراف العاصمة روما. ويقول مسؤولون ان نسبة المسلمين بين نزلاء السجن تبلغ 30 بالمائة، علما بأن المسلمين يشكلون 2 بالمائة فقط من سكان ايطاليا، الذين يقدر تعدادهم بـ 58 مليون نسمة، رغم ان هناك تركيزا اكبر للمسلمين في شمال ايطاليا وحول ميلانو. العدد المتزايد للمسلمين في هذا السجن، يعتبر مؤشرا سلبيا ازاء مساعي وجهود اوروبا في دمج المهاجرين، وايجابيا للمتطرفين والمتشددين بصورة عامة، الذين يستهدفون السجون لاستقطاب أتباع جدد ونشر منهج العنف. كثير من النزلاء وصل الى هذه البلاد بمفرده، بل ان بعضهم وصل وعمره لم يتجاوز 14 عاما، على أمل العثور على عم او ابن عم، او حتى شخص تربطه به صلة قرابة بعيدة، ويحملون توقعات متفائلة لأسرهم في المغرب او تونس أو الجزائر. الا ان آمالهم بإرسال أموال الى عائلاتهم التي ضحت من أجل إرسالهم الى أوروبا تلاشت، فقد اصبحوا معرضين للترحيل، اضافة الى ان اعادتهم لأوطانهم كمدانين سابقين سيجلب لهم ولعائلاتهم العار.

ذلك المصير ربما ينتظر بلال صفير، السجين الهادئ واليائس. كان صفير قد غادر بلده تونس، باتجاه فرنسا قبل أربعة أعوام، عندما كان في السابعة عشرة من عمره. وبعد عامين انتقل الى ايطاليا معتقدا، على نحو خاطئ، انه سيكون من الأسهل له الحصول على وثائق اقامة هناك. وجد لنفسه ولصديق قدم معه من فرنسا، مهنا مثل السمكرة، وكان قادرا على اعالة نفسه لفترة اقتربت من عام، الى أن اعتقل في مداهمة على تجار مخدرات. ويقول بصوت هامس «ارتكبت خطأ فادحا». وصفير، الطويل النحيل وصاحب الشعر الداكن المتموج، حكم عليه بالسجن لفترة قصيرة بلغت 14 شهرا ويتوقع اعادته الى تونس بعد اطلاق سراحه.

وشأنه شأن جندوبي فانه يجد شيئا من الراحة في ايمانه، ويقول صفير انه قادر على اداء كل الصلوات الخمس، مثلما يفعل أي مسلم متدين، بدون مشاكل كثيرة. وفي الحقيقة، فانه يجد من الأسهل له الصلاة داخل السجن من خارجه، حيث المساجد بعيدة والتسامح نادر. ويقول صفير: «في بعض الأحيان يسخر مني بعض السجناء ويسألونني لماذا أصلي؟ لكن معظم الناس يتعاملون باحترام». ثم يجيب: «أصلي حتى يغفر الله لي ما فعلته».

ويرى جندوبي، في سعيه لدعوة الناس للتدين، حالات أكثر تشددا في بولاتي. فهناك عدد أكبر من المسلمين الشباب في السجن، مثل محمد دراغ، 23 عاما، المغربي الذي يوجد وشم كثير على جسده. فدراغ مقسم بين عائلته والتراث والعالم الصارم الذي يعيش فيه. ويقول «ولدت مسلما وسأظل مسلما على الدوام. لكن عائلتي تصلي وليس أنا».

وعلى جدار زنزانته وضد دراغ، الى جانب صورة والدته المحجبة، صورا لنساء شبه عاريات مأخوذة من مجلة. كما أنه يحتفظ بصورة ابنته البالغة من العمر أربع سنوات، والتي لم يرها منذ ان كانت رضيعة، وهي تعيش الآن مع والدتها الايطالية.

قدم دراغ الى ايطاليا من المغرب قبل سبع سنوات عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وبدأ العمل في مصنع لصناعة الأحذية. اقدم على أول سرقة بعد ثلاث سنوات، والثانية بعد سنتين اخريين. وفي الحالة الاخيرة، سرق 50 مليون ليرة أي نحو 10 آلاف دولار. ويقول دراغ، حليق الرأس ويرتدي سروالا قصيرا فضفاضا: «أردت الحصول على بعض المال من دون عمل».

يشار الى ان الوضع في سجن بولاتي ليس سيئا جدا، فالكثير من النزلاء يمنحون غرفا مستقلة بسرير ومنضدة صغيرة ومطبخ صغير جانبي مع مغسلة، وثلاجة وطباخ غازي صغير. والباب المؤدي الى زنزانته غير مغلق، على الرغم من أن البوابات المؤدية الى الطوابق مغلقة. ودراغ السجين منذ عامين ونصف العام، يبالغ حول عدد المهاجرين في السجون الايطالية. ويقول: «ربما نرتكب مزيدا من الجرائم. يأتي كثير من الناس الى هنا ولا يجدون مساعدة، ومن المنطقي، بالتالي، أن ينتهوا الى الجريمة. في كل أنحاء ايطاليا، وفي كل سجونها، تجد العرب، وأناسا من جنوب ايطاليا، أي الناس الأكثر فقرا».

وحتى المهاجرون الشبان الذين يمكنهم الحصول على اشياء افضل، يلقى القبض عليهم احيانا، متلبسين بجرم. فقد اودع يونس قابلي، 19 عاما، السجن بعد أن ألقي القبض عليه مع أصدقاء له وبحوزتهم مخدرات. وعلى خلاف معظم النزلاء الآخرين عاش قابلي اكثر من نصف حياته في ايطاليا مع والديه وأشقائه، الذين وصلوا من المغرب بصورة قانونية. وعمل المراهق، الذي يقول انه يتحدث الايطالية أفضل من العربية، ميكانيكيا، لكنه تعرف على جماعة سيئة، ولا يريد الآن سوى انهاء ما تبقى من محكوميته (سنة واحدة) ليخرج وينهي دراسته الثانوية.

وقال قابلي، وهو يسحب نفسا طويلا من سيجارته: «تقول الشرطة انه لا تمارس التفرقة، لكني اعتقد انهم يركزون على المغاربة».

وتنعكس الاحتكاكات في الشوارع، على العلاقات بين السجناء المهاجرين والإيطاليين. ففي قاعة الجيمنازيوم والكافيتريا والمكتبة، ينقسم السجناء الى مجموعات. المسلمون يمارسون رفع الاثقال وتدريبات اللياقة معا، وتقدم ادارة السجن وجبات طعام معدة وفق الشريعة الاسلامية. وتحمل لوحة الاعلان في السجن مواعيد دروس في اللغة الايطالية للمتحدثين بالعربية. كما توجد في المكتبة نسخ من القرآن. وقد استخدم السجن لفترة ما «كوسيط ثقافي» يمكنه الترجمة من العربية للايطالية والعكس، وفهم الحساسيات الثقافية، لكن لم تعد هناك ميزانية لذلك.

ولم يتحدث أي من السجناء في سجن بولاتي عن «الجهاد». وقد انكمش احد السجناء في مقعده وبدأ يرتجف عندما سألناه عن «الجهاد». لكن السلطات هنا وفي اسبانيا وبريطانيا وفي اماكن اخرى من اوروبا تدرك تماما كيف اصبحت بيئة السجن مجالا لشبكات المتطرفين التي تعمل في اوساطهم. ففي جميع انحاء اوروبا، تعتقد السلطات بان بعض المشتبه في تورطهم في اعمال ارهابية، تحولوا الى التطرف في السجن. ومعروف ان بعض الخطط الارهابية اعد لها في السجون.

وقد حصل الاريتري مختار سعيد ابراهيم، احد المشتبه في تنفيذهم تفجيرات 21 يوليو (تموز) الماضي بلندن، على الجنسية البريطانية في سبتمبر (ايلول) الماضي، بالرغم من انه قضى خمس سنوات في السجن بعد ادانته بعملية سطو مسلح. وقد تحول الى التطرف في نفس السجن الذي نجح فيه متطرفون في تلقين افكارهم لريتشارد ريد، الذي يقضي فترة سجن في الولايات المتحدة بعد ادانته بمحاولة تفجير طائرة فوق الاطلسي. ولذا فإن التوازن الحساس بالنسبة لحرس السجن، مثل لوسيا كاستيلانو في بولاتي هو السماح للسجناء بممارسة شعائرهم الدينية بدون السماح للسجن بالتحول الى مركز للتجنيد من قبل المتطرفين. وتقول كاستيلانو: «اشعر ببعض الخوف من الأئمة المتطرفين. فهم لا يتحدثون الايطالية، ولا نستطيع فهمهم، وفي ميلانو يمكن ان يصبح ذلك خطرا». وتضيف كاستيلانو وهي امرأة من نابولي ان العجز عن فهم اللغة العربية التي يتحدث بها العديد من السجناء يثير القلق.

ويواجه حرس السجن مشكلة عدم فهم المواعظ التي يقدمها اشخاص، مثل جندوبي. ففي الطابق الرابع من المبنى الاول ينظر السجناء نظرة شك تجاه ثلاثة من السجناء المسلمين، وهم يؤدون الصلاة في غرفة مخصصة كمسجد. ويقول جندوبي انه يتجنب السجناء الايطاليين، لكنه يمتدح سلطات السجن بسبب سماحها للمسلمين بالصلاة. وأوضح جندوبي، وهو نجار عاش فترة طويلة في ايطاليا، انه لم يكن متدينا عندما دخل السجن قبل ثلاث سنوات لكنه استغل وقته لدراسة القرآن. وجندوبي ليس امام الجناح الذي توجد فيه زنزانته، الا انه يؤدي الصلاة جماعة بانتظام ويخلق «حياة جديدة» لنفسه. وقال ان نفس الشيء ينتظر الشباب المسلم الذين يقنعهم باداء الصلاة بانتظام. وخلال اللقاء اذن تونسي اخر للصلاة، وتوجه جندوبي ورجل ثالث الى الغرفة المستخدمة كمسجد لأداء الصلاة.

* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»