أوراق أردنية في الأصولية والسياسة (4-5): فتوة حي معصوم الذي تحول إلى عدو أميركا الأول في العراق؟

الزرقاوي والسلفية الجهادية.. الولادة والمراهقة والمسير

TT

نستعرض في هذه الحلقة من سلسلة «أوراق أردنية في الأصولية والسياسة»، التيار الاصولي العسكري في الاردن، ونتطرق إلى شخصية ابي مصعب الزرقاوي وحارة الكسارات في حي معصوم، حيث نشأ وتربى هناك، وكيف ينظر له أبناء حارته، وكيف تحول الفتى الهادئ الوديع إلى شخصية دموية. وهل حقيقي أن شخصية الزرقاوي الحقيقية خلقت في السجن. ونتطرق خلال هذه الحلقة إلى هجرة الزرقاوي الثانية لافغانستان، وحقيقة الخلاف الذي نشب بينه وبين أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، ودور سيف العدل في المفاوضات بين الطرفين، وكيف استطاع اقناع الزرقاوي بالتوجه إلى مدينة هيرات، وانشأه معسكرا «جند الشام» الخاص باستقبال المتطوعين من الاردن وسوريا ولبنان والعراق.

ونختتم هذا الجزء بتسليط الضوء على ظاهرة الزرقاوي وهل هي عشائرية ام دينية ام اقتصادية ام سياسية؟ وهل الجهادية السلفية في الاردن انعكاس للوضع في العراق أم أنها نتاج مرحلة افغانستان، وما حجم هذه الجماعة وعلاقتها بالسلفية، وهل هناك صراع سلفي ـ سلفي؟.

لا تستطيع الحديث عن التيار الاصولي العسكري في الاردن، دون ان تتحدث عن شخصية ابي مصعب الزرقاوي، فهما جادتان في مسارب المدينة الاصولية يفضيان الى بعضهما.

حينما ذهبنا الى مدينة الزرقاء، شرق عمان، تلك المدينة الممتدة بشكل افقي، اخذتنا الطرقات المتشابهة، ونحن نسأل السكان عن حارة الكسارات في حي معصوم. نلحظ في وجوه بعض السكان نظرات، ترجمتها: نعرف ماذا تريدون.. تبحثون عن منزل الزرقاوي. وبالفعل كانت هذه وجهتنا، وصلنا الى شارع عماد الدين زنكي في الكسارات بحي معصوم، وقد سميت بالكسارات نسبة الى مصنع لتكسير الحصى وانتاج البحصة في الحارة التي تلتصق بحضن جبل صغير، وبجوراها مقبرة، لاحظت في حارة الزرقاوي ان الطابع الغالب عليها هو المساكن الشعبية، لكنها ليست بحالة سيئة، وكذلك هناك فسحة في الطرقات اضافة الى كثرة المساجد.

وصلنا الى الحارة والى منزل ابو صايل، والد الزرقاوي المتوفى منذ فترة، المنزل بسيط ولكنه أجود من المنازل الاخرى التي بجواره، يوجد فسحة في مقدمة المنزل، وشجيرتان مغروستان أمام الباب، وفوق الباب مصباح نيون، وصولنا كان بعد غروب الشمس. فسألنا صبية يلعبون امام الدار، هل هذا منزل الزرقاوي؟ فقال لنا فتى منهم اسمه حمزة، بدون تردد، ومع ابتسامة: نعم هذا منزله، الفتى كان يلبس ملابس رياضية، ويحلق شعره على الموضة.

واضاف الفتى ومعه رفاقه، وهو يشير الى منزل الحاج ابو صايل الخلايلة: «هذه عائلة طيبة، وهذه الارض كلها كانت ملكا للحاج ابو صايل، وهو الذي باعها على السكان».

سألته: ماذا تتذكر من ابي مصعب الزرقاوي او (الزرقاوي) كما يعرف اختصارا في المدينة؟ فقال: «اهل الحي يقولون انه كان شابا طائشا (أزعر) وله مشاكل كثيرة. لكن نحن منذ ان عرفناه ورأيناه وهو متدين، يذهب الى مسجد الحي، وكان لطيفا معنا». ثم اشار الى منزل قريب، وقال «هذا منزل ابو قدامة، وهو صهر الزرقاوي، زوج اخته، وقد كان يعرج من اصابة في رجله، اما ابو مصعب فلم نره ابدا يعرج او يشكو من شيء في قدمه، كما تقول بعض الاخبار». وبالفعل كان الزرقاوي حتى خروجه من الاردن سنة 1999 صحيح القدمين كما اخبرني الجميع في الاردن.

الشباب كلهم قالوا: الحي هادئ جدا ولا يتغير هذا الهدوء الا اذا جاءت الصحافة لرؤية منزل الزرقاوي.. حتى بائع البقالة الذي في الحي قال ذلك، وقال ايضا: ان عائلة الزرقاوي عائلة طيبة، مؤكدا انه لا يعرف الزرقاوي شخصيا، لكنه يعرف شقيقه عمر (ابو صايل) وهو موظف في بلدية المدينة وانسان عادي.

خرجت من الحي بهذه المشاهدات، وانا اسأل هل يعتبر الزرقاوي (بطلا) لدى بعض السكان هنا على الاقل؟ ماهي صورته بالضبط؟ واثناء الخروج، لمحت وانا في السيارة محل جزارة كتب عليه (ملحمة الخلايلة)، فدفعني الفضول للوقوف امامه، وخرج لي صاحب المحل متسائلا، قلت هل انت من عشيرة الخلايلة؟ فقال نعم. قلت اذن انت من عشيرة الزرقاوي؟ فقال نعم انا منها، ولكن كما تعرف نحن عشيرة كبيرة جدا. فقلت له: مارأيك في الزرقاوي بصراحة؟ فقال: الرجل كان (ازعر) ثم تدين، وانطباع الناس عنه انهم يعتبرونه منهم وهم معجبون بمقاومته للأميركان في العراق، واما الذين يقولون انه يقتل الابرياء او يرتكب الفظائع، فهذا من تشويه اليهود والأميركان لصورته.

ولد احمد فضيل نزال الخلايلة في 30 اكتوبر 1966 في الزرقاء (25 كلم شرق عمان العاصمة) وقد ولد لاسرة محافظة تنتمي الى عشيرة الخلايلة من الخوالدة من بني هليل من بني حسن، كبرى العشائر الاردنية. وقد أثر في شخصيته، لاحقا هذا البعد العشائري، ثم نشأته في مدينة الزرقاء المختلطة ما بين الفلسطينيين والشركس والشيشان، اضافة الى عوائل الجنود الذي كانوا يعسكرون في معسكر الزرقاء للجيش الاردني منذ ايام كلوب باشا.

درس الزرقاوي حتى الصف الثاني ثانوي وكان ذا معدلات مرتفعة، عمل لمدة قصيرة في بلدية الزرقاء في قسم الصيانة. ويبدو ان طموح الزرقاوي الى الجهاد بدأ منذ فترة مبكرة من حياته، فقد تردد على افغانستان منذ أواخر الثمانينات، وغير معروف اللحظة التي تحول فيها الزرقاوي الى شخص متدين وقرر الجهاد في افغانستان، وبحسب مسؤول في الأمن الاردني، فإن السلطات الأمنية تملك ملفا حافلا للزرقاوي حول قضاياه السابقة المتعلقة بالخناقات او السكر.

ولكنه تحول الى شخص وديع خلوق بعد تدينه، كما قال كثيرون، وصورته الثابتة له وهو يتردد على مسجد عبد الله بن عباس، مسجد الحي، ما زالت عالقة في اذهان السكان. في افغانستان، التي ذهب اليها آخر الثمانينات، كان شخصا عاديا غير لافت للنظر، وكان يلقب بلقب ابو محمد الغريب، وذكر شخص سعودي ممن كان يتردد على افغانستان للجهاد في تلك الفترة انه شاهد الزرقاوي في بيشاور، في مضافات العرب، إذ يقول عنه: «كان شخصا صموتا وخلوقا، لم الحظ عليه شيئا معينا». وفي عام 1989 التقى المقدسي بالزرقاوي في بيشاور في بيت ابو الوليد الانصاري، وهناك كما يقول المقدسي عرف فيه شخصا متحرقا للجهاد، هذه الفترة التي يقول عنها الباحث الاردني ابراهيم غرايبة: «اعتقد ان ولادة الجهادية السلفية في الاردن تمت في هذه اللحظة». وعاد الزرقاوي من افغانستان إلى الأردن، كما يقول انصاره بسبب الخلافات او (الفتنة) التي دبت بين قيادات المجاهدين الافغان.

عاد وقد نضجت افكار المقدسي في ذهن التلميذ الزرقاوي، هذه الافكار القائمة على تكفير الحكام والحكومات بسبب تحكيم القوانين الوضعية، وتضليل الجماعات الاسلامية التي تنخرط في اللعبة السياسية، مثل الدخول للبرلمان، وانشأ مع شيخه تنظيم او جماعة التوحيد، التي سميت لاحقا تنظيم بيعة الامام في عام 1994 في مدينة الزرقاء (وسط الأردن) التي تعد معقلاً للتيار السلفي الجهادي، بالاضافة لمدين السلط طبعا، قبل ان يُعتقل في العام نفسه ويُحكم عليه بالسجن 15 عاماً، أمضى منها أربع سنوات واستفاد من عفو ملكي في العام 1999، وغادر الأردن في ذلك العام الى أفغانستان.

رغم ان المقدسي في رسائله، وكذلك انصار السلفية الجهادية، يتهمون السلطات الاردنية بتلفيق تهمة تنظيم بيعة الامام، الا ان مسؤولا اردنيا أمنيا قال: «لقد ضبطنا اسلحة ومتفجرات في منزل المقدسي في تلك القضية، اسلحة مجلوبة من الكويت اثناء فترة الفوضى التي اعقبت خروج الجيش العراقي من الكويت». واضاف: «تبين لنا انه كان لهم خطة لضرب اهداف حيوية واجنبية».

وفي السجن خلقت شخصية الزرقاوي الحقيقية، شخصية الصلب العنيد، كما يصفه ضابط اردني: «لقد كان الرجل جاهلا ومحبا للظهور، ولكنه في نفس الوقت كان صلبا وعنيدا». وهكذا يصفه اتباعه ومحبوه مثل الشيخ جراح قداح.

اثناء المرافعات الشهيرة والمحاكمات المثيرة في عمان في قضية بيعة الامام، كان المقدسي يخطب ويبشر بافكاره حول الحاكمية، وكان الزرقاوي يناكف المحكمة وقاضيها ويصفهم بالكفر. الامر الذي اثار اعجاب بن لادن والظواهري شخصيا، كما يذكر قيادي القاعدة سيف العدل في شهادته عن الزرقاوي.

بل وحتى من كان معه في سجن (سواقة) الشهيرة من السجناء السياسيين الاخرين وبعضهم من الاسلاميين، كان يصفهم والعسكر بالكفر لانهم رضوا بشريعة الطاغوت، كما يذكر ليث شبيلات في أحد احاديثه الصحافية عنه، إذ قال انه قال للملك حسين بعدما خرج بعفو: «لقد وجدت اناسا لايكفرونك انت فقط، بل يكفرون الجميع بما فيهم انا».

ويقول محمد الدويك، المحامي الذي ترافع عن الزرقاوي في قضية بيعة الامام سنة 1994 «توكلت بالدفاع عنه في تلك السنة بعدما اتهم بحيازة قنبلة يدوية ورشاش»، يقول عنه: «كان شابا مؤدبا وخدوما، وكان يعمل في بلدية الزرقاء، وقبل ذلك في محل بنشر»، ويتابع: «اذكر ان يديه كانتا مليئتين بالأوشام».

خرج الزرقاوي اذن سنة 1999 بعفو عام بعد تولي الملك الجديد، ثم ماذا فعل؟ هاجر الى افغانستان مجددا، وتعد هذه الهجرة الى افغانستان هي الهجرة الثانية، بحيث لم يمكث خارج السجن الا بضعة اشهر. يقول المحامي محمد الدويك: «اعتقد انه لم يكن ينوي الخروج لو استطاع العمل هنا، وقد جاءني في مكتبي بعد خروجه وجلس امامي، مرتديا زيا افغانيا، ولم يذكر لي شيئا عن افغانستان، كان حديثا عن الزوجة والاولاد». لكن الزرقاوي خرج، ومكث هناك، وكان على خلاف مع بن لادن والظواهري، وحسبما يذكر ضابط اللجنة الأمنية في القاعدة المصري سيف العدل، فإنه هو الذي استقدم الزرقاوي الى قندهار معقل طالبان وبن لادن، بعدما طلبت منه الحكومة الباكستانية مغادرة أراضيها، وتفاوض سيف العدل معه بخصوص التعاون مع القاعدة، بعد ان رفض الزرقاوي تقديم البيعة لابن لادن، البعض فسر ذلك الخلاف بأن بن لادن رفض تدريس كتب المقدسي على شباب القاعدة، وقد ذكر المقدسي في رسالته الشهيرة الى الزرقاوي ذلك، ثم في مقابلته مع قناة الجزيرة، لكن بيانا نسب الى الزرقاوي، نفى ان يكون قد عرض على قيادة القاعدة تدريس كتب المقدسي.

نجحت مفاوضات سيف العدل، واستطاع الوصول الى حل مع الزرقاوي، واتجه الاخير الى مدينة هيرات غرب افغانستان على الحدود الايرانية، وانشأ هناك معسكرا خاصا بـ «جند الشام» او المتطوعين القادمين من الاردن وسوريا ولبنان والعراق، حيث كان يركز على هذه الجنسيات، وكان معه رفيق دربه، الذي قتل لاحقا في العراق، عبد الهادي دغلس، ووالد زوجته الثانية ياسين جراد، التي تزوجها اثناء معسكر هيرات، وقد ذكر أن صهره الفلسطيني جراد هو من نفذ عملية اغتيال باقر الحكيم الانتحارية.

وبعد هزيمة طالبان انهار معسكر هيرات، ولكن بقيت العصبة التي احاطت بالزرقاوي معه، فدخل الى ايران، ومن ثم تسلل الى كردستان العراق، التي كان قد سبقه اليها احد رموز الحركة الجهادية السلفية في مدينة السلط (رائد خريسات) والذي يمثل مع لؤي الكايد ومحمود النسور ومعتصم درابكة، شخصيات «إلهامية» لمن يريد القتال في العراق من شباب السلط بالدرجة الاولى.

السؤال الذي يطرح نفسه الآن، هل ظاهرة الزرقاوي نابعة من خلفية دينية محضة، كما قال بعض المهتمين بالتاريخ الاردني، أن جزءا من عشيرة الخلايلة قديم التأثر بالوهابية، وكان كثير من رجالات هذا الجزء من العشيرة لايلبس العقال ولا يشرب الدخان مثلا؟ ام ان هذه الظاهرة بشكل عام نابعة من خلفيات اقتصادية بالدرجة الاولى، ام ان السبب الاول في وجود الظاهرة هو سبب سياسي خارجي يكمن في وضع العراق وفلسطين وقبل ذلك الشيشان وغيرها؟.

بالنسبة للمسألة الوهابية، يقول المؤرخ الاردني احمد عويدي العبادي، وهو ايضا رئيس الحركة الوطنية عن ذلك، ان البعد الوطني القائم على رفض الاجنبي موجود لدى عشائر الاردن منذ الزمن القديم. ويضيف: «قبيلة بني حسن تعود الى الاودميين وهؤلاء يعودون الى الاموريين وكان لهم مملكة عاصمتها بصيرة قرب محافظة الطفيلة جنوب الاردن، هذه الجماعة القديمة ظهر منها الملك (حدد) وقبره معروف لدى بني حسن، هذا الملك قاوم الهجرة اليهودية التي جاءت من اجل الدخول الى بيت المقدس حينما قدموا مع موسى».

ثم ينتقل المؤرخ الاردني الى لحظة من زماننا فيقول: «في عام 1872 و1873، حصلت اول حركة استطيان يهودي في مدينة جرش بالادرن، وكانت مستوطنتان انشيءتا على الضفة الشمالية لنهر الزرقاء، فاحرق بنو حسن المستوطنات وطردوا المستوطنين»، وقال ايضا: «كلوب باشا ادار الجيش الاردني من سنة 1930 الى 1956، وطيلة هذه الفترة كان تجنيد بني حسن ممنوعا في الجيش».

واضاف: «منطلق وطني استطيع ان اقول ان بني حسن قد تأثروا بالدعوة الوهابية، لانهم كانوا يرفضون سلطة الاتراك الاجنبية، فهم لايهمهم كون المحتل مسلما مادام اجنبيا، وكذلك منطلق ديني بحكم العاطفة الدينية، واخيرا بسبب النزوع الى الاستقرار والملل من الغزو».

واشار العبدي الى ماذكره الرحالة السويسري بوركهارت في كتابه (رحالات الى سورية والاراضي المقدسة) الى ان ابناء شرق الاردن قد اعتنقوا الوهابية في مطلع القرن 19 وبوركهارت زار الاردن وتجول في بادية الشام من 1808 الى 1812.

بيد ان اغرب ما أشار اليه المؤرخ العبادي ان هذا السلوك من الزرقاوي، اي سلوك رفض الاجنبي ومقاومته، بالاضافة الى انه منسجم مع الموروث الاجتماعي للزرقاوي، هو ايضا غاية مطلوبة يتمنى كثير من ابناء العشائر الاردنية ان يقوم بمقاومة الاجنبي مثل ابن العشيرة الزرقاوي.

يشار الى ان الزرقاوي ذكر في إحدى رسائله الى اهله حاضا اياهم على الجهاد ومذكرا باصول بني حسن التي تعود الى بيت المقدس، وسبق ان قاتلت الصليبين ايام صلاح الدين. كما يذكر فؤادي حسين في كتابه عن الزرقاوي.

هناك من يرى الموضوع من زواية اخرى وهي زاوية الاختلال الاقتصادي، والفقر، وسوء تخطيط الدولة في التنمية، موفق محادين الكاتب في صحيفة العرب اليوم، المهتم بظاهرة الزرقاوي والجهادية السلفية في الاردن يقول: «مدينة معان الجنوبية، هي مدينة محافظة و عشائرية، لماذا خرج منها شباب من الجهادية السلفية، وحدثت فيها قضية ابو سياف الشلبي امام المسجد الذي ناطح الحكومة عسكريا؟.. انا اقول ان ذلك، راجع من ضمن اسباب اخرى طبعا، الى حرمان اهل معان من الفرص الاقتصادية، فمثلا كثير من الاهالي هناك اقترضوا من البنوك الاردنية من اجل شراء شاحنات للنقل من خط العقبة الى العراق، وجاءت الاموال الاكثر من تجار عمان، فاشتروا شاحنات افضل واكفأ، فتبخرت احلام المقترضين وتورطوا بشاحناتهم وقروضهم».

ويضيف: «يجب عدم اهمال الجانب الاقتصادي في الموضوع، الزرقاء مدينة سيئة التخطيط، ويوجد فيها مستوى فقر عال، وكذلك مستوى جريمة، وكنا نسميها (شيكاغو الاردن)». ويقول: «ان تركز وجود تيار الجهادية السلفية في السلط او معان وهي مدن اردنية صافية، او الزرقاء المختلطة، يحتاج الى دراسة اجتماعية معمقة». ويتابع: «خصوصا ان الزرقاء التي يمتزج فيها الشيشاني بالفلسطيني بالاردني، تقدم نموذجا مميزا في هذا الصدد، وانا اعتقد ان قضية الشيشان سابقة في تجييش العاطفة الجهادية لدى شباب الزرقاء، سابقة على قضية افغانستان، ويكفي ان نعلم أن القائد خطاب الذي قاد حركة المقاتلين العرب في الشيشان عاش في الزرقاء وسط هذا الجو الشيشاني، ولاتنس الجالية الشيشانية في الاردن مع انهم يسكنون وادي السير الا ان جزءا كبيرا منهم كان في الزرقاء».

وهناك من يقدم سببا يكمن في الظروف الاقليمية التي تحيط بالاردن، وحسبما يقول مسؤول اردني أمني فإن الجهادية السلفية في الاردن ليس الا انعكاسا للوضع في العراق، وقبل ذلك هي من نتاج مرحلة افغانستان، اي انه لايوجد سبب داخلي جوهري لوجود هذا التيار.

السؤال المطروح اردنيا هو حجم هذا التيار، خصوصا ان هناك قضايا كثيرة على ملاك الجهادية السلفية او التكفيريين مطروحة امام القضاء، مثل قضية الجيوسي الذي اراد تفجير المخابرات وقتل المدعي العام بتكليف من الزرقاوي، وقضية الفهيقي الذي اراد تفجير مركز الكرامة الحدودي الاردني، وقضية الطحاوي، والرياطي... الخ. وغيرها من القضايا التي للزرقاوي اصبع فيها، بداية من قضية اغتيال الدبلوماسي الأميركي فولي في عمان اكتوبر (تشرين الأول) 2002، الى هجوم العقبة الاخير. يقول ابراهيم غرايبة: «اعتقد ان سبب بروز الزرقاوي هو القضية العراقية، بدليل انه حينما كان في الاردن لم يكن احد يعرفه، وعموما انا اعتقد انها جماعة محدودة، وغير منظمة، والذين اعتقلوا كلهم الى الان على حساب قضايا ارهابية لم يتجاوزوا المائة، نعم يوجد علميات ارهابية، ولكن لا يوجد رابط تنظيمي بينها». وقال مروان المعشر، نائب رئيس الوزارء: «نعم لدينا آراء متشددة لدى الاسلاميين بخصوص العملية السياسية، ولكن هذا شيء مختلف عن الارهابيين». وفي تقدير المسؤول الاردني الأمني فإن أتباع الزرقاوي محدودون جدا، وسبق توقيفهم.

لكن جراح قداح، أحد رموز السلفية الجهادية في الاردن، قال: نحن كثيرون جدا، ولسنا محدودين، نحن بالآلاف. وقال موفق محادين: «لا اعتقد انهم بالقلة التي تصورها السلطات، ولكنني لا اعتقد ايضا انهم بالآلاف، ويمكن قياس حجمهم من خلال الحفلات التي يقيمونها اذا قتل احدهم في العراق، مع الاخذ بالاعتبار انه ليس بالضرورة ان كل الحضور اعضاء في جماعات الجهاد السلفية، ربما كانوا من المتعاطفين».

ماذا عن التسمية لهم بالسلفية، وهل هم الممثلون الاحتكاريون للسلفية في الاردن؟. البعض يفضل اطلاق اسم «الجهادية السلفية» او «الجهادية القتالية» او المقاتلة، لوصف هذا التيار، الحديث النشأة على المسرح الاصولي الاردني الذي استبد به طيلة اكثر من نصف قرن الاخوان المسلمين.

غير ان الاخوان المسلمين لم يكونوا الوحيدين اللاعبين على هذا المسرح، حتى من البدايات، وما قصة العداء الشرس بين حزب التحرير، الذي ترعرع في الاردن على يد الشيخ تقي الدين النبهاني في الخمسينات الماضية، الا مثالا على هذه المزاحمة على المسرح الاسلامي. بل ان السلفية نفسها، التي ينسب اليها تيار السلفية الجهادية، وعلى رأسه الزرقاوي وشيخه ابومحمد المقدسي، ليست في تاريخ وجودها حديثة الولادة، خصوصا اذا ما اتفقنا مع تصوير المؤرخ الاردني للحركة الاسلامية موسى الكيلاني للمناخ السلفي في بلاد الشام، والاردن جزء منها، وأن هذا المناخ تأثر بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبالدعوات الظاهرية ونزعات اهل الحديث والاثر، والتي تمثلت في شيوخ شاميين مشاهير من امثال جمال الدين القاسمي او الشيخ طاهر الجزائري، والشيخ عبد الرزاق البيطار، لكنهم، وحسب الكيلاني، لم يكونوا يصرحون بالنسبة الى الوهابية او حتى بالاتكاء على نصوص ابن تيمية. لكن هذا المناخ الحذر، زال بعد الحرب العالمية الاولى، وتحديدا بعد زوال الحكم الفيصلي عن سوريا وهزيمة ميسلون، فكان مجيء الشريف عبد الله بن الحسين (الملك عبد الله الاول) الى الاردن تمهيدا لاستعادة سوريا من فرنسا، ولذلك كما يقول الكيلاني استقطب عبد الله بن الحسين رجالات الجهاد من سوريا ولبنان والاردن، وبقايا رجالات الثورة العربية الكبرى، ومنهم بعض المتنورين من تلاميذ الشيخ السلفي طاهر الجزائري. بل إن الشريف عون، عم الحسين بن علي، والد الملك عبد الله الاول، كما يذكر الكيلاني معروف بميوله السلفية، ولم يكن ممن يهتمون بمظاهر التدين الشعبي من تعلق بالقبور او الاولياء، وكذلك الشريف حسين. وكان السلفيون من امثال رشيد رضا وكامل القصاب مع الحسين، كما وفد الى عمان بعدما استقر بها الملك عبد الله الاول، تلاميذ هذا الخط السلفي الاصلاحي من امثال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي.

محمد الخضر الشنقيطي له قصة مثيرة مع الملك عبد الله الاول، فقد كان كما السلفيين، ضد التدين الصوفي الشعبي، فقد كان الشنقيطي شديد الحملة على الطريقة الصوفية التجانية، التي كان لها انصار وشيوخ ومريدون كثر. وعندما وفد الى عمان من دمشق احد الخطباء المتحمسين للتجانية، وهو احمد الصابوني، من اجل اجراء مناظرة مع محمد الخضر الشنقيطي حول هذه المسألة ومسائل المعتقد السلفي التقليدية. وبالفعل خطب في الجامع الحسيني، بحضور الملك عبد الله الاول، مهاجما السلفيين، فلما انتهت الصلاة والخطبة دعاه الملك الى قصره وناقشه في افكاره ورد عليه منتصرا لافكار الشيخ الشنقيطي، ولم يمكنه مناظرة محمد الخضر الشنقيطي، ونصحه بالاهتمام بالوعظ في الجوانب الاخلاقية وترك المسائل المثيرة للخلاف.

يذكر الكيلاني ان عبد الله الاول كان ذا ميول سلفية بهذا المعنى السالف، ولكنه لم يقدر على مناهضة بعض الثقافة الشعبية لدى رعيته.

مسألة الحديث عن نشأة تيار سلفي في الاردن ليست بالسهولة المتصورة، اذ ان السلفية وعاء واسع يشمل سلفية الشيخ الالباني وتلميذه محمد ابراهيم شقرة الذي كتب المقدسي ضده وهاجمه، وقال الشيخ شقرة: «سلفيتنا ضد امثال جهيمان العتيبي او المقدسي او الزرقاوي، وقال: «لا المقدسي ولا الزرقاوي من اهل العلم الشرعي». واضاف الشيخ شقرة زعيم السلفيين السلميين او الالبانيين في الاردن: «المقدسي كاد ان يكفرني وسماني مرجئا». جراح قداح هو داعية السلفية الجهادية في الاردن، خصوصا في مدينة السلط ذات الكثافة العشائرية الاردنية، قال حينما سألته عن رأيه في السلفية السلمية والشيخ ابو شقرة وتلاميذ الالباني: «هؤلاء محرفون وليسوا سلفيين، وانا اعتبرهم من المنافقين المخذلين عن طريق الهدى، ومثلهم الاخوان المسلمين». ويضيف جراح الذي يخضع لمراقبة أمنية صارمة من الاجهزة الاردنية الى درجة انه تردد كثيرا في الحديث معي بحجة انه مراقب ومرصود، يضيف قائلا: «انا اعتبر الشيخ ابو مصعب هو المجدد الحقيقي للدين في هذا الزمان، وانا ادعو له دوما بالتوفيق، واتمنى ان يحفظه الله لنا». قلت له: «هل تعتبر ابا محمد المقدسي هو مؤسس او (مجدد) الدعوة الجهادية السلفية في الاردن ام الزرقاوي؟ فقال: «الاثنان مجددان». وسألته عن حقيقة الخلاف الذي ذكر بين المقدسي والزرقاوي، خصوصا بعد الملاحظات التي ذكرها المقدسي صراحة بعد قليل من الافراج عنه، وقالها على شاشة قناة الجزيرة القطرية وخلاصتها نهي الزرقاوي عن استهداف الشيعة او كنائس النصارى، وتركيز المعركة على القوات الأميركية والعراقية، وقبل ذلك رسالته الشهيرة التي ارسلها من سجنه في (قفقفا) فقال: «هذا اختلاف طفيف بين الشيخين في مسائل من فقه الجهاد، وهذا امر عادي ومقبول، ولكن من هم ضد الدعوة الجهادية ارادوا تضخيم المسالة». الى اين تسير الجهادية السلفية في الاردن، وهل باتت الاوراق كلها مكشوفة ؟ يقول المسؤول الاردني الأمني: «كل عناصر القاعدة والزرقاوي في الاردن تحت السيطرة، كلهم مرصودون من قبلنا، وهم قلة كما قلت لك».

لكن هناك من يتحدث عن عناصر تتجند او تتحمس بشكل سريع وتنخرط مع جماعات الزرقاوي بشكل يباغت الاهل، كما حصل مع الشاب نضال عرببات من السلط. ربما اذا توقفت الرياح الداخلية والخارجية، رياح الفكر والثقافة ورياح السياسة والاقتصاد عن الهبوب، تتوقف عندها طواحين القتال ومراوح العنف عن الدوران.