لبنان غداة نشر تقرير لجنة التحقيق الدولية: ذهول وتخوف من الآتي رغم التوقعات المسبقة

TT

«صباح التقرير» عبارة حلت مكان «صباح الخير» في بيروت امس، وسط اجواء مترقبة ومتوترة يغلب عليها التوجس. فاللبنانيون الذين لم يألفوا النهايات السعيدة لازماتهم، تملكهم الذهول المشوب بالخوف وهم يتابعون في الساعات الاخيرة من ليل الخميس ـ الجمعة المعلومات الاولى التي وردت عن تقرير المحقق الالماني ديتليف ميليس في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

ردات الفعل الاولى للشارع البيروتي جاءت مشابهة لحالة الطقس الخريفي صباح امس الجمعة، اي صيف وشتاء على سطح واحد. فقد رسَّخ التقرير التوقعات والقناعات المسبقة لهذا الشارع بتناقضاته المتفاعلة على خلفيتين. الاولى ترتكز على اتهام جهات سورية بالجريمة منذ اليوم الاول. والثانية تصر على نظرية المؤامرة الاميركية المتصهينة للنيل من «قلعة الصمود والتصدي» اي سورية، وذلك عبر تسييس التقرير.

وفي حين يمكن القول ان نسبة كبيرة من المواطنين العاديين اعتبرت ان التقرير اورد حقائق وان بقيت مبهمة وغير مباشرة في طريقة توجيه الاتهام الى المتورطين، فقد ساد الحذر الحركة اليومية، لا سيما في ظل الاجراءات الامنية المشددة والانتشار الكثيف للجيش اللبناني وقوى الامن الداخلي في مختلف المناطق حيث انتشرت الدوريات الراجلة والمؤللة واقيمت الحواجز الثابتة والمتنقلة لتفتيش السيارات والتدقيق في الاوراق الثبوتية لاصحابها وسائقيها.

وزادت في شحن الاجواء بوادر ازمة وقود دفعت بالمواطنين الى التهافت على شراء هذه المادة، فازدحمت الطرق القريبة من محطات الوقود بالسيارات التي توقفت ارتالاً طويلة بانتظار دورها لملء خزاناتها، الامر الذي اعاد الى الاذهان ايام ازمات المواد التموينية خلال الحرب الاهلية، وان بدرجة اخف.

العمال والباعة السوريون الموجودون غالباً في الاحياء السكنية عاشوا من جديد حالة خوف، ذكّرتهم بتاريخ ارتكاب جريمة الاغتيال في 14 فبراير (شباط) الماضي. وقال سعيد وهو بائع خضار: «الكبار يتصارعون ويسرقون ويقتلون وينتحرون ونحن ندفع الثمن. نريد ان نرتزق فحسب، لكننا لا نستطيع حتى الاعتراض على من يلحق الاذى بنا، سواء في بيروت او في بلادنا». ثم سارع سعيد المرتعب الى الانصياع لامر رجل امن طلب اليه ان يزيل بضائعه عن الرصيف.

اما مؤيدو النظام السوري من اللبنانيين فتملكهم الغضب اكثر من الخوف. وقال ابراهيم، وهو موظف في احدى الدوائر الرسمية: «منذ البداية عرفنا ان الاميركيين سيحمّلون الجريمة لسورية. المخطط واضح».

البعض بالغ في الاجتهاد وحاول تحليل الادلة المتوافرة في التقرير، مؤكداً «ان سبب الاغتيال هو تواطؤ الشهيد الحريري مع الاميركيين لقلب النظام في سورية وتسليم الحكم الى السنة بعد ازاحة العلويين، مقابل تسليم العراق الى الشيعة».

الشارع اللبناني معتاد على هذه الاجتهادات، الامر الذي لفت انتباه سائح اجنبي في وسط بيروت التجاري لدى محاولة بائع في احد المخازن استدراجه الى الحوار عن التقرير، فعلق قائلاً: «اريد ان اشتري لا ان اتكلم في السياسة».

على اي حال، عكست مقاهي وسط العاصمة اجواء الترقب التي سادت مع بث مقتطفات من التقرير تباعاً على شاشات التلفزة التي تحلّق حولها عدد قليل من رواد الصباح الذين تبادلوا التعليقات مع النادلين.

لكن المشهد الاهم يبقى في ساحة الشهداء حيث اضاريح الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. فقد اكتست هذه الساحة قيافة استثنائية، اذ فرشت ارضها بالسجاد الاخضر النظيف وتم تعديل توزيع الكراسي واقامة الحواجز حول ضريح الحريري الذي فرش بزهور الزنبق الابيض والاكاليل، التي تصدّرها اكليل يحمل توقيع «الحرس الخاص» والى جانبه مصحف على قاعدة خشبية مفتوحة صفحاته على سورة الفاتحة. وبدا المكان مرتدياً حلة لائقة لاستقبال ضيوفه الذين تلقوا الدعوة ليتجمعوا حوله مساء. ولاكتمال المشهد توافد المصلون الى موقع الضريح لقراءة الفاتحة قبل التوجه الى المساجد لاداء صلاة الجمعة.

التقرير كان حاضراً ايضاً في خطب الائمة. ففي جامع ابو بكر الصديق، قال الخطيب ان القاضي الالماني ديتليف ميليس «كشف الحق والحقيقة. وهي فرصة ذهبية للمؤمنين تدل على ان الله يمهل ولا يهمل. والادعاء بتسييس التحقيق هو كلام باطل لانه حصيلة جهد اكثر من مئتي محقق جاؤوا من انحاء العالم ليعاقبوا الذين استباحوا دم الشهيد المظلوم».

وكما في بيروت كذلك في بقية المناطق اللبنانية. اذ كتب خالد الغربي، مراسل «الشرق الاوسط» في صيدا (مسقط رأس الحريري) ان المواطنين «استقبلوا التقرير باعصاب هادئة. ولم يسجل اي شيء استثنائي في ظل انتشار كثيف لوحدات الجيش اللبناني والقوى الامنية الاخرى». وقال: «للهدوء ما يبرره على اعتبار ان نتائج التقرير كانت معروفة سلفاً ما افقده طابع المفاجأة والاثارة. كذلك فان ما عزز الهدوء الصيداوي وعدم حصول ردات فعل غاضبة ان المدينة تقفل مؤسساتها ومحالها التجارية ومدارسها يوم الجمعة. وأدى غياب النائبة بهية الحريري، الموجودة في المملكة العربية السعودية، الى عدم تنظيم مظاهرات بعد صلاة الجمعة، علماً انها شددت في اتصالاتها مع «تيار المستقبل» على مطالبة المسؤولين فيه بحض المواطنين على الهدوء وعدم القيام بأي نشاط يسيء الى الحقيقة التي ينتظرها الجميع.

وعلى رغم توجيه التقرير الاتهام الى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة» بالضلوع في جريمة الاغتيال، فان المخيمات الفلسطينية لم تشهد اي اضطراب او توتر وذلك وسط انقسام في وجهات نظر الفلسطينيين، اذ ربط البعض هذا الاتهام بقضية السلاح الفلسطيني، في حين اعتبر آخرون ان الامر ممكن بالنظر الى العلاقات الوثيقة للقيادة العامة بالنظام السوري.

اما في البقاع فسجلت حركة سير خفيفة على الطرق الدولية، كما افاد مراسل «الشرق الاوسط» حسين درويش، موضحاً «ان حالة الحذر سادت تنقل المواطنين». وقال ان المراكز الامنية الفلسطينية شهدت حالة استنفار في مواقع القيادة العامة على ضوء الاتهام الصادر عن التقرير.

ومن شمال لبنان كتب مرسال الترس ان المواطنين تسمروا امام اجهزة التلفزيون حتى ساعات الصباح الاولى لمتابعة القراءات الاولى لمضمون التقرير، مع الاشارة الى ان بعض المدن الشمالية اعربت عن ارتياحها لعدم ورود اي اسم لشخصية سياسية منها كمتورطة في الجريمة، لا سيما في زغرتا، مسقط رأس وزير الداخلية السابق سليمان فرنجية الموالي للنظام السوري.