ليلة سمر وعزف على العود.. وسط الظلام وبالقرب من طلقات الرصاص غرب بغداد

TT

كانت أصوات الطلقات تنطلق من تلك العتمة المحيطة بغرب بغداد، لكن في غرفة الجلوس الأنيقة كان هشام المدفعي يقدم المشروبات لضيوفه مرحبا بقدومهم. وكان هؤلاء قد حضروا إلى منزله للعشاء ولحضور عزف خاص لسلمان شكور آخر أساتذة العود التقليديين. كانت بغداد معروفة بمجالسها التقليدية، حيث تجري اللقاءات الخاصة والنقاشات حول السياسة والفن، وتجري خلالها قراءة الشعر وعزف الموسيقى، بل وحتى وسط ضجيج الحروب تمكنت هذه الصالونات من البقاء على الرغم من تضاؤل عدد الضيوف ونبرة الحزن.

في هذه الأمسية الخريفية التقى ما يقرب من عشرة أصدقاء لسماع سلمان شكور، 84 سنة، الذي يعد واحدا من أبرز الموسيقيين العراقيين الذين يتمسكون بالمعايير الخاصة لفن العزف على العود. ما زال الكثير من الموسيقيين العراقيين يعزفون على العود لكن شكور متخصص في المقامات التي ظهرت خلال الفترة العباسية ما بين عامي 750 و1258 ميلادية. وكان قد تعلم الموسيقى على يدي شريف محيي الدين علي، أحد أفراد العائلة العراقية المالكة سابقاً، وأستاذ العود الشهير الذي كان يعلم في فترة العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي.

جاء الضيوف واحدا بعد الآخر وهم أصدقاء قدامى، أحدهم جراح شهير، وآخر خبير في النفط، وثالث بروفسور في الفلسفة. غالبيتهم تجاوزوا الستين من العمر وهم ينتمون إلى نخبة ثقافية كانت تسود قبل وصول صدام حسين إلى السلطة. كانوا يرتدون ملابس غربية ذات طراز يعود لتلك الفترة: سترات خفيفة غير محكمة الشد، والنساء في ملابس أنيقة بدون غطاء رأس. والمدفعي نفسه، 76 سنة، هو واحد من أكثر المعماريين الشهيرين في العراق وينتمي إلى عائلة مشهورة. وعلى جدران غرفة الجلوس كانت هناك لوحات تعود لأشهر الرسامين العراقيين، ورفوف مكتبته تحمل دواوين شعر ورسوما قديمة. وغالبية الرسامين والشعراء الذين أنتجوا هذه الأعمال قد ماتوا أو تركوا البلد. وهو يفكر في مغادرة العراق أيضا بناء على إلحاح أبنائه المقيمين في لندن.

وقال الجراح نوري مصطفى وهو يخاطب ضيفا أميركيا آخر: «في عام 1936 اشترى والدي الذي كان شيخا كرديا عودا لابنته وجعلها تتدرب عليه. كان رجلا متدينا جدا. أنت لا ترى شيئا كهذا يحدث اليوم».

بدأ شكور بالعزف، وكان الصوت أخاذا حيث كانت النغمات سلسلة من ألحان هادئة تتغير في سرعتها وكانت عسيرة على المتابعة بالنسبة لأذن غير متمرنة. كان الضيوف يستمعون بإصغاء كامل خلال دقائق العزف العشر.

وبعد التصفيق شرح شكور ما عزفه، قائلاً: «إنه مقام حسيني». ألف هذا المقام عام 1400 من قبل رجل هرب من بغداد إلى كربلاء متنكرا بملابس درويش بعد أن أثار شكوك المحتل المغولي الشهير تيمور لنك. دار الحديث حول هولاكو الذي اجتاح بغداد في القرن الثالث عشر وعمل هرما من جماجم الشعراء والعلماء والوجوه الدينية البارزة. لكن فاتنة حمدي أستاذة الفلسفة في جامعة بغداد قالت فجأة: «هولاكو كان إنسانا مقارنة بالأميركيين». وقد أثارت هذه المقارنة قدرا من الضحك، إلا ان أكثر الحاضرين بدا حريصا على تجنب الخوض في مواضيع سياسية أو تلك التي تخص العنف التي أصبحت مهيمنة على الحياة في العراق. وبدلا من ذلك تحول الحديث إلى الماضي. قال رجل الأعمال وليد الهاشمي المتخرج من كمبردج: «هل تعرف، انه بعد أن أصبح فيصل ملكا في العشرينات حاول بشدة أن يخلق ثقافة وطنية. لقد كوّن طبقة من الإداريين المحترفين الذين كانوا يعملون عبر كل أنحاء البلد، وأصبحت الفئات القديمة سواء كانت سنية أو شيعية أو كردية أقل أهمية. الآن يبدو أننا بدأنا بالتراجع».

وبعد أن عزف شكور مقاما آخر يعود إلى القرن الرابع عشر أيضا، كان الوقت العاشرة تقريبا، مما دفع الضيوف إلى التطلع بقلق صوب ساعاتهم. فقد أصبح التحرك في الظلام خطيرا في بغداد، إضافة إلى أن الأميركيين فرضوا منع التجوال ابتداء من الساعة الحادية عشرة. صفق المدفعي بيديه داعيا ضيوفه للانتقال إلى غرفة العشاء، وهناك كانت المائدة مملوءة بأطيب المأكولات العراقية التقليدية: لحم الخروف والدجاج وأنواع من السلطة والتبولة والمسكوف؛ وهو سمك عراقي مشوي.

وبعد عشرين دقيقة من البدء بتناول العشاء، انقطعت الكهرباء فغرق البيت والحديقة في ظلام تام. وعادة في البيوت البغدادية الثرية تعود الكهرباء بعد دقيقة مع تشغيل مولدات الكهرباء الخاصة، لكن في تلك الليلة تواصل الظلام، وقال المدفعي معتذرا: «تستطيعون أن تروا النجوم». وبعد مضي دقيقة صمت كان الضيوف ينتظرون خلالها عودة الضوء جاء صوت المضيف ثانية: «ربما كنا أفضل بدون كل هذه الأشياء».