«انتفاضة الضواحي» تغزو المدن الفرنسية الكبرى

أعمال العنف تضرب مائة بلدة ومدينة والشرطة تلجأ للطوافات

TT

في ميدان سباق الأرقام القياسية، ضربت الليلة التاسعة من ليالي الشغب الفرنسية كل الأرقام السابقة. فقد أشعل المشاغبون فيها النيران في 897 سيارة خاصة وألقي القبض على 253 شخصا. وهذه الأرقام هي الأعلى منذ اندلاع احداث الشغب في السابع والعشرين من الشهر الماضي في محلة كليشي سو بوا الواقعة في ضاحية باريس الشمالية احتجاجا على مقتل مراهقين صعقا بالتيار الكهربائي عندما كانا يحاولان الفرار مما افترضاه ملاحقة الشرطة لهما.

وأصبح الآن واضحا أن الحركة الاحتجاجية التي بدأت بعض الوسائل الإعلامية بتسميتها «انتفاضة الضواحي» خرجت من نطاقها الجغرافي الأول وامتدت الى مختلف النواحي الفرنسية. فقد جرت أحداث شغب في مدن استراسبورغ (شرق فرنسا) ونيس (جنوبها) وروان (في الشمال) لا بل إنها وصلت الى مدينة رين الواقعة غرب فرنسا والتي لم يسبق لها أن شهدت اعمال شغب خطيرة في الماضي.

وبشكل عام، فإن احداث الشغب التي تتركز بشكل رئيسي في محيط باريس وليس فقط في قوس الضواحي الفقيرة شمالها وشرقها، تضرب حاليا حوالي مائة مدينة ومحلة وتتخوف السلطات من انتشارها أكثر فأكثر.

وللمرة الأولى، وصلت احداث الشغب الى داخل باريس نفسها. فقد أحرقت ليل الجمعة ـ السبت 13 سيارة واحرق خارج الضواحي الباريسية 241 سيارة ودمرت العشرات من المنشآت العامة من مدارس ومراكز رسمية ومقرات شرطة ناهيك عن المستودعات والمحال التجارية. وألقت الشرطة في الليلة المذكورة وحدها القبض على 258 شخصا سيحقق معهم قبل سوقهم الى القضاء. وللمرة الأولى منذ اندلاع أعمال العنف، عمدت الشرطة الى الإستعانة بطوافة مجهزة بكاشفات قوية في محاولة منها الى استباق خطط المجموعات الصغيرة وسريعة الحركة للشبان الذين يتنقلون على دراجات نارية فيضرمون النيران في السيارات أو المستودعات قبل أن يفروا بعيدا عن أعين رجال الشرطة.

وتتوالى في مقر وزارة الداخلية ورئاسة الحكومة الاجتماعات وآخرها عقد ظهر أمس في القصر الحكومي في ماتنيون برئاسة دومينيك دو فيلبان نفسه وبحضور ثمانية وزراء معنيين بدرجات مختلفة بالأزمة الراهنة. ولكن رغم لك، تبدو الحكومة عاجزة عن العثور على الحل السحري لوقف «التمرد». فلا مداخلة الرئيس شيراك ولا نداءات رئيس الحكومة كانت مفيدة لخفض درجة العنف ومباشرة الحوار بل إن ما يحصل هو العكس تماما.

غير أن الحكومة، بعد أيام البلبلة الأولى، يبدو أنها حسمت امرها واقرت خطا «أجمعت» عليه كل اطرافها وعبر عنه أمس وزير الداخلية نيكولا سركوزي عقب اجتماع ماتينيون. وقال وزير الداخلية إن الدولة قررت انتهاج سياسة «حازمة» إزاء مثير الفتن ومرتكبي أعمال الشغب وعلى هؤلاء أن يدركوا أن أعمالهم يعاقب عليها القانون.

ويحظى هذا الموقف بدعم الاتحاد من أجل حركة شعبية وهو حزب الأكثرية اليميني والوسط لكنه موضع انتقاد من الاحزاب اليسارية وأحزاب اليمين المتطرف.

وتبدو هذه الأخيرة وخصوصا زعيم الجبهة الوطنية جان ماري لوبن الأكثر استفادة، سياسيا ـ من احداث الشغب لأنها تفقد اليمين التقليدي شعاراته كراع لأمن المواطنين. وبالنظر لتفاقم الوضع، فإن دو فيلبان يسعى لاستخدام كل الأوراق المتاحة له. فأمس، استدعى الى مقره رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية ومدير مسجد باريس دليل بو بكر تحت حجة إطلاعه على نتائج التحقيق في رمي قنبلة مسيلة للدموع على مسجد كليشي سو بوا. لكن الغرض الحقيقي للاجتماع أبعد من ذلك وهو حث بو بكر على فعل شيئ لتهدئة النفوس ووقف اعمال الشغب. وخرج بو بكر من الاجتماع ليعلن أن دو فيلبان أعرب له عن «احترامه» للجالية الإسلامية في فرنسا ما يمكن فهمه على أنه رسالة لأبناء هذه الجالية الضالع بعضها في أعمال عنف وشغب و«تعويضا» عن وصف سركوزي لهم بأنهم من «الأوباش».

وأكد بو بكر، نقلا عن دو فيلبان، أن قنبلة المسجد «لم تكن مقصودة بل كانت حادثا بائسا». وفي إشارة الى تصريحات وزير الداخلية، قال بو بكر إنه «ينتظر من جميع السلطات ومن نيكولا سركوزي ومن رئيس الحكومة أن يستخدموا الكلمات التي تحمل السلام» وهي «كلمات ضرورية في الوقت الحاضر» ولأن «لكل كلمة تقال أهميتها». وحرص دو فيلبان على مرافقة ضيفه بو بكر الى درج قصر ماتينيون.

وفي السياق عينه، اجتمع رئيس الحكومة مع حوالي عشرين شابا من سكان «الأحياء الحساسة» أو الصعبة في بادرة منه لفتح باب الحوار وللتعرف على مطالبهم ومشكلاتهم. لكن يبدو أن هذه الخطوات «رمزية» أكثر مما هي فاعلة. والدليل أن الهيئات ومن يسمى بـ «الإخوة الكبار» داخل الأحياء الساخنة الذين كانت تعتمد عليهم القوى الأمنية كقناة اتصال مع الشبان وللمحافظة على الهدوء لم يعودوا مسموعي الكلمة مما يعكس تشددا من جانب الشبان ورغبة في المواجهة.

وبعد سركوزي، أكد المدعي العام في باريس إيف بوت أن «طريقة تحرك (مثيري الشغب) تبدو منظمة وهي تعكس اللجوء الى استراتيجية.. وما يحصل يدل بصورة لا تقبل الجدل أن ثمة تنسيقا بين المجموعات المختلفة». واستطرد مدعي عام باريس قائلا: «إنها حركة موجهة بشكل أساسي ضد مؤسسات الجمهورية (الفرنسية) ولكنها ليست حركة ملتصقة بجالية معينة». وكان وزير الداخلية قد تحدث قبل يومين عن حركة «منظمة وغير عفوية"». غير أنه لم يأت بالدليل على ذلك.

الى ذلك قالت الوزيرة المغربية المنتدبة المكلفة شؤون الجالية المغربية المقيمة في الخارج نزهة الشقروني لوكالة الصحافة الفرنسية امس ان المغرب على استعداد للتعاون مع المناطق الفرنسية التي تشهد منذ حوالى عشرة ايام اعمال عنف لكي يعود الهدوء اليها.

وقالت الشقروني «نحن مستعدون للتعاون مع منظمات غير حكومية فرنسية مغربية لمؤازرة افضل لكل هؤلاء السكان». وقالت «في الوقت الحالي لا يسعنا الا اطلاق دعوات الى الهدوء والعودة الى الحوار»، مشددة على انه «لا يمكن لنا ان نقوم بمبادرة اخرى لانها مسألة سيادة، فاعمال العنف هذه تجري على الاراضي الفرنسية». واوضحت «نحن على اتصال منذ يومين بالسفارة الفرنسية في الرباط وكذلك بالقنصلية». وبحسب احصاءات هذه الوزارة، يقيم نحو مليون شخص متحدر من اصل مغربي في فرنسا حتى مارس (اذار) 2002.