غياب القطع الأثرية المسروقة من العراق عن مزادات أوروبا وأميركا يثير التساؤل حول نقلها إلى الخليج

14 ألف قطعة سرقت بعد الغزو لم تستعد منها سوى 5500

TT

بعد مرور اكثر من عامين ونصف العام على نهب المتحف الوطني في بغداد، لا تزال السلطات العراقية وقوات الشرطة في جميع انحاء العالم تبحث عن آلاف القطع الاثرية المسروقة، بما في ذلك مجموعة من اكثر تلك القطع شهرة في التاريخ.

واوضحت السلطات العسكرية الاميركية ان القوات العسكرية في العراق لا تملك طريقة منتظمة لاجراء تحقيقات حول القطع المسروقة، ووسط التمرد الجاري الآن لا يمكن للقوات العراقية او الاميركية تبرير استخدام موارد بشرية نادرة لحراسة المواقع في الريف، حيث تنتشر اعمال السلب والنهب على نطاق واسع منذ الغزو في مارس (آذار) 2003 .

وتجري قوات الشرطة في اماكن عديدة من العالم اعمال بحث عن القطع المفقودة، الا ان ممثليها اشاروا الى عدم وجود تنسيق منظم بينهم، وانهم يعتمدون على علاقات غير منتظمة للقبض على اللصوص. وقدر ماثيو بوغدانوس، العقيد بسلاح البحرية، والذي كان مسؤولا عن استعادة كنوز المتحف في الستة اشهر التي اعقبت سقوط نظام صدام حسين، عدد الاعمال المسروقة بـ 14 الف قطعة، تم استعادة 5500 منها فقط.

وليس غريبا ظهور مجموعة محدودة من القطع الاثرية النفيسة منذ نهاية 2003 . ومن الامور المثيرة للتناقض انه بالرغم من ظهور بعض القطع الاثرية العراقية ذات النوعية غير الجيدة في المزادات عبر الانترنت، فلم تحدث زيادة ضخمة في مبيعات القطع الاثرية العراقية، سواء في الولايات المتحدة او في اوروبا.

ويشير الخبراء الى ان عدم وجود سوق لمثل هذه الاعمال يرجع الى عدة عوامل. فالقوانين المتشددة في كل من بريطانيا والولايات المتحدة اثارت خوف العديد من السماسرة المتخصصين في مثل هذه الاعمال، او ان المهربين اخفوا القطع الاثرية الى ان تهدأ الامور.

واشار البعض الآخر الى ان الامر يتطلب عدة سنوات لانتقال القطع الاثرية المسروقة من منطقة الشرق الاوسط الى محلات في لندن وطوكيو ونيويورك. بينما يعتقد البعض ان المسروقات ذهبت الى جامعي الاعمال الفنية في الخليج، حيث تتميز القطع الاثرية العراقية بأهمية لا تحظى بها في الغرب.

وتتفق معظم المصادر على ان اكثر هذه الاعمال شهرة مهمةٌ لدرجة يصعب ظهورها مرة اخرى في اماكن عامة. وبدون جهد للشرطة في غاية التقدم، ومساعدة الاوساط الفنية والصبر، فإن الاشخاص الوحيدين الذين سيرون مثل هذه الاعمال هم المليونيرات الذين يشترونها في السوق السوداء ويحتفظون بها بعيدا عن الانظار.

وتقول مؤرخة الاعمال الفنية في جامعة كولومبيا زينب بحراني: «ادرس عن تلك الامور طوال الوقت» في اشارة الى تمثال اناتوم امير لاغاش، وهو واحد من اول التماثيل الملكية التي بها نقوش. وتضيف بحراني: «انني اشرح اهميتها، لكنني في خلفية تفكيري، اقول: لقد ولت». وزينب بحراني واحدة من مجموعة محدودة من المتخصصين في القطاع الاكاديمي والعالم الفني وقوة تطبيق القانون التي تتابع مصير الاعمال الفنية العراقية المسروقة.

ومعروف ان العراق مهد الحضارة، حيث تركت الشعوب القديمة تراثا ضخما في آلاف المواقع عبر آلاف السنين. وقبل شهرين من الغزو الاميركي للعراق في مارس 2003 حذرت مجموعة صغيرة من الخبراء وزارة الدفاع الاميركية (البنتاغون) من امكانية نهب المتحف بعد توقف اطلاق النار. وهو ما حدث في الفوضى التي اعقبت حرب تحرير الكويت عام 1991 .

وهذا ما حدث بالفعل، فقد دخلت الدبابات الاميركية بغداد في ابريل (نيسان) 2003، وهاجمت الجماهير المتحف الوطني وسرقت وحرقت ودمرت كل شيء وقعت عليه اياديهم. ولم يكن الامر سيئا بهذه الدرجة لان العاملين في المتحف تمكنوا من تهريب معظم الاعمال الشهيرة من المتحف الى اماكن سرية. ولم يتمكن احد حتى الآن من الاعتراض على الارقام التي ذكرها بوغدانوس بخصوص الاعمال المسروقة، لكنه حذر من ان ارقام الاعمال المسروقة والمستعادة ستزيد مع استمرار العاملين في إعداد قوائم لمحتويات المتحف.

وخارج العاصمة استمرت اعمال نهب المواقع الاثرية بلا توقف، ولا توجد نهاية لما يحدث ما دامت القوات الاميركية وقوات الامن العراقية مشغولة بمواجهة المتمردين.

وقال بوغدانوس، وهو ضابط احتياطي يعمل كمدع عام في مانهاتن بنيويورك، «عندما كان صدام يعثر على لصوص الآثار كان يقتلهم. واضاف في كتابه «لص بغداد» الذي يحكي فيه تجربته: «لقد ابلغنا العراقيين اننا لن ندفع بطائرات الهليكوبتر فوق الموقع ونبدأ باطلاق النار».

أعد بوغدانوس قائمة «الأربعين الأولى» للقطع الأكثر شهرة المسروقة من المتحف الوطني. وقد جرت استعادة 15 منها وبينها إناء الوركاء السومري، وقناع الوركاء، والمدفأة الآشورية البرونزية ذات العجلات. ووُجد نصب اكدي لصبي من النحاس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2003 في قعر بالوعة ببغداد.

وتشتمل القطع الخمس والعشرون المفقودة «نصب البحراني السومري»، وهو تمثال للبؤة، مطعم بالذهب والعاج، وهي تهاجم نوبيا، ورأسها بحجم طبيعي تقريبا لـ «إله النصر»، مصنوع من النحاس. وقالت بحراني: «لن يكون بوسعكم مشاهدة هذه القطع في معرض. لن يلمسها تاجر تحف فنية لأنها شهيرة جدا. نحن نتحدث عن سوق سوداء. هذه القطع لن ترى ضوء النهار أبدا».

وتضم الفئة الثانية حوالي ثمانية آلاف قطعة صغيرة أخذت من سرداب المتحف في ما يسميه بوغدانوس «قضية داخلية واضحة». فقد كان هناك لصوص لديهم مفاتيح الخزانات التي تضم القلائد والدبابيس المنقوشة وحوالي خمسة آلاف من «الأختام» المميزة في العراق.

وهذه القطع الحجرية المنقوشة التي هي بحجم الاصبع تترك تصميما مميزا عندما تدار على الطين الطري. ولكل واحدة منها مكتوب عليها بحبر هندي غير قابل للازالة ويمكن للمجموعة بكاملها أن تحمل في حقيبة ظهر. وهذه هي القطع الأكثر مبيعا من المسروقات، ذلك أن من اليسير اخفاءها ونقلها، وهي مميزة وموثقة كقطع في المتحف. ومعظم القطع الثمينة المستعادة خارج العراق أختام، وبينها ثمانية أعيدت طوعا الى المباحث الفيدرالية الاميركية من قبل عضو في سلاح البحرية العائدين للولايات المتحدة، وثلاثة صودرت من موظفي الجمارك من الصحافي جوزيف برودي في مطار جون كينيدي الدولي بنيويورك. وقد شعر بوغدانوس، وهو محقق رئيسي في قضية برودي، بخيبة الأمل جراء الحكم عليه بالاقامة الاجبارية لمدة ستة أشهر ووضعه تحت المراقبة لمدة عامين.

ومنذ أن غادر بوغدانوس العراق لم تعد للقوات الأميركية طريقة منظمة للبحث عن القطع الفنية ونقل العمل الى مجموعة كبيرة من المؤسسات بينها مجلس الآثار والتراث والانتربول ومكتب المباحث الفيدرالي وأخصائيو الأختام الاسطوانية في معهد الاستشراق بجامعة شيكاغو. وقال بوغدانوس انه «لا يوجد تنسيق. الأمر يعتمد على العلاقات الشخصية وعندما يفعل ذلك فعله فانه مثير للدهشة».

لكن ليس هناك سوى ادلة قليلة على أن هناك مستفيدين في الولايات المتحدة أو أوروبا من القطع المسروقة. والحقيقة انه أيا كانت أسواق الآثار العراقية فانها توقفت على ما يبدو. وقال ويليام ويبر من مؤسسة تسجيل الآثار الفنية المفقودة التي تتخذ من لندن مقرا لها ان «الآثار التي تأتي الى المزاد يجري التوثق منها بصورة أفضل. ويتعين على التجار أن يكونوا في غاية الدقة في ما يتعلق بهذه المواد».

وفي عام 2003 صدر مرسوم بريطاني يترك للتاجر مسؤولية تأكيد ان القطعة الفنية غير مسروقة. كما رفعت الولايات المتحدة العقوبات التجارية العامة التي فرضتها على العراق بعد حرب 1991، ولكن تركتها سارية المفعول بالنسبة للملكية الثقافية.

ويربط نيل برودي، مدير مركز أبحاث الآثار القديمة في معهد ماكدونالد لأبحاث الآثار بجامعة كمبريدج، بين القانون البريطاني الجديد وانهيار سوق لندن. وقال في مقابلة هاتفية معه: «كنت اعتقد أن الأمر سيتجه مباشرة الى نيويورك، ولكنه لم يحدث».

وقال المحامي ويليام بيرلشتاين من نيويورك الذي غالبا ما يمثل تجار وجامعي التحف الفنية وبيوت المزاد الخاصة بها ان ذلك يعود الى أن «الناس رفيعي المستوى هنا يدركون ان هذا غير شرعي. فلدينا سوق تحف قديمة مراقب بصورة مشددة».

غير أنه ما يزال هناك على ما يبدو عدم اتفاق على ان السرقة مستمرة. فحتى الفترة الاخيرة جاءت الأدلة المحدودة من زيارات ميدانية مغامرة قام بها صحافيون وتقارير عسكرية من مناطق عراقية نائية وطلعات طائرات هليكوبتر كانت تجري بين حين وآخر.

وتقود اليزابيث ستون، عالمة الآثار من جامعة ستوني بروك، جهدا لمقارنة صور الاقمار الصناعية «السابقة واللاحقة» للمواقع الشهيرة في جنوب العراق، وقد وجدت فجوات «أوسع من فجوات الجبنة السويسرية».

فالقطع الفنية المستعادة من هذه المواقع ليست كثيرة وتشتمل على بعض الأختام الاسطوانية والأواني الفخارية والألواح الطينية والنقوش الحجرية وبعض القطع الصغيرة الأخرى. ولكن الكثير منها يحتمل أن يكون ذا قيمة كبيرة . فأين ذهبت؟

وأشارت ستون الى أنه في مكان ما «هناك مستودعات مليئة» بانتظار انتهاء الحذر والمراقبة ومفعول القوانين. ويعتقد بيرلشتاين ان القطع الفنية تتجه الى أسواق «بعيدة عن الضوابط من الناحية العملية» في دول الخليج العربي.

وتعتقد باتي غيرشتنبليث من جامعة ديبول، وهي اخصائية بقانون الملكية الثقافية، ان العقوبات ربما أرغمت اللصوص على القيام بحسابات تتعلق بالسعر والربحية. وقالت: «سيكون من الخطر بالنسبة لجامعي التحف أن يشتروا قطعا شهيرة». ولا يستحق الأمر مغامرة المهربين لبيع القطع الرخيصة.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»