5 آلاف قطري من قبيلة المري تبدلت أحوالهم وأصبحوا لاجئين بعد طرد الدوحة لهم

«الشرق الأوسط» تلتقي رؤوسهم .. وأحد أعيانهم يبدي استعداده للاعتذار إذا كان الانقلاب هو المشكلة

TT

قبل أربعة أعوام كان بعض العراقيين العاملين والمقيمين في الخارج يخشون انتقاد الاوضاع في بلادهم، خوفا على من تركوهم خلفهم، ويعيش أبناء قبيلة الغفران المرية القطرية حالة شبه مماثلة بعد أن اصبحوا مهجرين. فبينما كان أبو محمد المري يثني على مآثر الحكومة في بلاده، خرج شيخ عن رصانة كبار السن ليقول له: إلى متى ستظلون تتكتمون على الحقيقة ؟ فيجيبه أبو محمد «هذا الصحافي من الممكن أن يكشف عن هويتي للسلطات القطرية، وبدلا من إعانة 4 عائلات سأضطر إلى كفالة 4 أخرى، حيث أنهم سيهجرون أبناء أختي إن علموا بما قلت، ولا أريد أن تعيش هذه الأسر المعاناة نفسها التي أعيشها الآن».

بعد ذلك صمت الشيخ وطأطأ رأسه ولسان حاله يقول «إننا لا نستطيع أن نقول نحن مظلومون إلا في دواخلنا». بعد قليل من الصمت الذي عم المجلس الذي تجمع فيه أعيان القبيلة للحديث مع «الشرق الأوسط» رفع الشيخ رأسه ثم تنهد وقال إنهم في ما مضى تعودوا أن يكونوا مقصدا لمن يريد المساعدة، أما اليوم فهم من يطلب المساعدة، ولكن أخلاقهم التي تربوا عليها والحياة التي عاشوها حتى وقت قريب تمنعهم استجداء الناس، مشيرا إلى انه يزور بشكل يومي مقبرة في طرف مدينة الهفوف الاحسائية ليجلس ويتمنى أنه كان احد سكانها قبل أن يرى الحال التي وصلت إليه قبيلته، مبينا أنه أوصى أبناءه وأحفاده أن يدفنوه إذا مات بالقرب من الحدود السعودية ـ القطرية كونها الأقرب إلى ارض أجداده التي هجر منها.

المجلس الذي كان يعج بكبار السن من أفراد القبيلة جعل شبابها يلتزمون الصمت، فالقبيلة لها أحكامها السارية على الجميع، وللحديث مع أي منهم يلزم الانفراد به بعيدا عن كبار السن ليخبرك عما يعتمل في داخله من إحساس بالمهانة، فيشير الشاب الذي طلب أن يرمز له بـ (م. خ. المري) الى أنهم عوملوا كمجرمين بدون وجود جرم ارتكبوه. ويقول إنه، وهو طالب في الجامعة، رفض والده أن يهجر من موطنه ولهذا تم إيداعه السجن حتى يقتنع بجدية الحكومة القطرية في مساعي تهجير الغفران من موطنهم، وأن إحدى وسائل الضغط التي مارستها الحكومة القطرية عليهم أنها كانت تقبض عليه في قاعة المحاضرات بصفة أسبوعية وعلى مرأى من زملائه وأساتذته ليجر بعدها إلى السجن الذي يقبع فيه والده، حيث يقول له ضباط المباحث «مطلوب منك أن تبلغ والدك أن أسرته قررت أن تغادر قطر، وأنهم لا يرون جدوى من الاستمرار في رفض التهجير».

وتحدث عدد منهم عما وصفوه بأساليب الضغط وبينها استبدال الوثائق التي تنص على أنهم قطريون، حيث وضعوا بدلا عنها وثائق تشير إلى أن الجنسية الحالية سعودية، مبينين أن التعديل كان من قبل الحكومة القطرية وحدها بدون وجود أي أوراق رسمية سعودية، وأنه بعد أن تم تغيير جميع الأوراق القي بهم إلى الحدود السعودية، حيث وجدها في البداية أمام مجموعات بشرية تجاوزت 5 آلاف نسمة يحملون أوراقا قطرية تفيد بأنهم سعوديون، بينما لا يحملون أي مستند قانوني سعودي يؤكد ذلك. وأمام المأزق الإنساني قبلت السلطات السعودية دخولهم الى البلاد. وحول ما اعلنته السلطات القطرية من أن أفراد القبيلة رحلوا لسببين الأول أنهم يحملون الجنسية السعودية إلى جانب القطرية، والثاني أنهم شاركوا في محاولة الانقلاب على أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني في عام 1995، وذلك لإرجاع والده الأمير المخلوع الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، قال شيخ طاعن في السن قدر عمره بـ 90 عاما، ويطلقون عليه اسم أبو جابر، إنه ولد في قطر، وفي عام 1954 كان موظفا في حراسة الأسواق القديمة في الدوحة أي أنه كان مقيما في البلاد قبل أن تنال استقلالها في عام 1972 ، مبينا أنه كان يقضي جل وقته بعد أن تقدم به العمر في الصلاة في المسجد القريب من منزله، وفي أحد الأيام وفد إليه رجلا مباحث وفور انتهائه من الصلاة رفعاه عن الأرض بدون احترام لسنه الطاعن وابلغاه أن هناك أمراً يقضي بالقبض عليه، ويزيد أنه ذهب معهما وسط حراسة مشددة ـ خوفا من أن يهرب وهو الأعمى الذي لا يستطيع المشي بسبب داء الروماتيزم المزمن ـ إلى مبنى المباحث حيث استجوبه ضابط يصفه بأنه اصغر من كثير من أحفاده، وقال إن المحقق كان مصرا على انه غير قطري. ولفت أبو جابر إلى أنه طلب من المحقق فرصة لإحضار أوراق تثبت أنه قطري حيث جلب معه في المقابلة الثانية أوراقا مهترئة من طول الأمد، مبينا أن المحقق أخذها بقبضته وشد عليها حتى تمزقت ثم رمى بها في سلة المهملات ليعود سائلا الشيخ هل لديه الآن ما يثبت أنه قطري ؟ ويضيف أن رجلا عاش ما يزيد عن 30 عاما يفد إليه جيرانه وأقاربه من مختلف المدن القطرية للسلام عليه في الأعياد والمناسبات وسط مشهد مهيب بحكم العمر الذي وصل إليه يترك لمحقق صغير في السن لم يراع حرمة السن ليكيل له الشتائم والاستهزاء، لم تجعل البقاء في الوطن مهما، حيث أنه آثر الرحيل قبل أن يتعرض للضرب على يد المحققين خصوصا أن هناك تعذيبا في السجون يتعرض له رافضو التنازل عن جنسيتهم القطرية، حسب قوله.

وأوضح أبو جابر أن المنطقة التي كان يسكنها الغفران من آل مرة توجد في منطقة تعرف بـ (الشبرم) وهي في داخل الحدود السياسية لدولة قطر، وأن كل المهجرين تعود أصولهم إلى هذه المنطقة، مشيرا إلى أن الأصل في من تأتى له حمل الجنسيتين السعودية والقطرية أن يكون قطرياً بحكم مسكن القبيلة. وأضاف أن السبب الثاني هو حجة المشاركة في الانقلاب أيضا. وقال إن الذين شاركوا في الانقلاب أفراد لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة من أبناء القبيلة، إضافة إلى آخرين من خارج القبيلة، موضحا أن الإسلام لا يأخذ الابن بجريرة أبيه (وأن لا تزر وازرة وزر أخرى). وينتقد الشيخ متسائلا: أي ديمقراطية هذه التي تهجر في ظلها شريحة كبيرة من السكان بدون أن يتكلم أحد في داخل البلاد أن ما حدث ظلم.

وذهب الشيخ الى حد مقارنة ما حدث بما تفعله اسرائيل مع الفلسطينيين، مشيرا الى ان السلطات طوقت منازل الغفران ووضعت حراسة مستمرة عليهم ومنعت السكان من الدخول والخروج، كما قُطعت الرواتب وطُرد الطلاب من مدارسهم وجامعاتهم، كما فصلوا الموظفين من أعمالهم وصادروا الممتلكات إلى جانب منع الجمعيات الخيرية من التصدق على الغفران، ما دعا جيرانهم الذين تعاطفوا مع من ولدوا وترعرعوا معهم حيث عمدوا إلى إلقاء المواد الغذائية من فوق الجدران إضافة إلى استقبال أسلاك أجهزة التكييف وربطها في منازلهم بعد أن قطعت الكهرباء عن جيرانهم، أما بالنسبة للمياه فكانت تمرر بالطريقة نفسها، مشيرا إلى أن العديد من الذين يتولون الحراسة كانوا يغضون الطرف عن هذه الممارسات ما حدا بالسلطات القطرية إلى تعيين حراس من غير القطريين ليضمنوا عدم التعاطف، كما يفيد أبو جابر.

أما الأحوال المعيشية الحالية للغفران فيمكن تلخيصها، حسب كلام عدد من هؤلاء، في انقلاب كلي في حال المعيشة، فمن مواطنين في بلد خليجي ثري يحظى مواطنوه بمستوى معيشي يصح تسميته بالرفاهية اصبحوا اليوم فاقدي هوية، لم ترحب بهم إلا الصحراء التي لم تتعود على ندرة ما تقدمه، طرد من يلجأ إليها. فالغفران حاليا يسكنون في منطقة صحراوية بين مدينتي الهفوف والدمام على مسافة داخل الصحراء تقارب 25 كيلومترا في بيوت شعر وخيام تلفحهم الشمس الحارقة، أما الماء الذي يشربونه فهو الماء الراجع من عمليات تبريد مكائن استخراج النفط القريبة منهم حيث يتركونه لساعات تحت ظلال الخيام حتى يبرد مع علمهم بأن هذا النوع من المياه ضار لكن لا سبيل إلى غيره في الصحراء الفقيرة منه.

والأطفال الذين اعتادوا التردد على المدارس بات يدرسهم أبناء قبيلتهم من مدرسين ومهندسين وأطباء، في مشهد يشابه إلى حد كبير مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، بينما يقول من يتولى عملية التدريس إن الحكومة القطرية نجحت في انتزاع الوطن من أهله لكنها لن تنجح في نزع العلم من أبناء القبيلة، مؤكدين أن هؤلاء الأطفال حين يكبرون هم من سيعيد القبيلة إلى وطنها.

وفصول التدريس عبارة عن خيام تبرع بها سعوديون ليسكن بها آل مرة، هذه الخيام أرضها رمال الصحراء وبين الحين والآخر تتوقف حصة التدريس بسبب عاصفة رملية أو وجود عقرب أو ثعبان يبحث عن الظل.

ويضيف أصحاب القضية أن العجزة والمرضى لم يستطيعوا تحمل الحياة القاسية حيث توفي عدد منهم بسبب شظف العيش، كما أن العدد الباقي تم إدخالهم إلى المستشفيات السعودية بجهود المحسنين الذين عمدوا في الوقت الحالي الى تأجير منازل على حسابهم الخاص للتخفيف من معاناة المهجرين بعد أن بدأت مصاعب الحياة الجديدة تؤثر عليهم خصوصا أنهم اختاروا مكانا قصيا عن أعين الناس تجنبا لنظرات الشفقة.

احد أعيان القبيلة يبين لـ«الشرق الأوسط» أنه مستعد لعمل أي شيء يرفع معاناة قومه، لافتا إلى أنه مستعد لتقديم اعتذار رسمي عن محاولة الانقلاب للحكومة القطرية إن كان هذا مطلبها، مؤكدا أن ما يشغله حاليا هو العمل على حل المشكلة الإنسانية التي تعرض لها أبناء القبيلة، مفيدا بأنه يعلم أن بعض المقربين من الحكم هم من دفعوا إلى اتخاذ هذا القرار بغية ترهيب بقية شرائح المجتمع، كما أنهم استفادوا من قرار تهجير الغفران حيث سطو على أملاكهم التي صودرت من خلال إجبارهم على توقيع عقود بيع صورية إلى أشخاص ممثلين لهؤلاء المقربين، بينما منع القطريون الآخرون من شراء ممتلكات الغفران.

أما ناقل الأخبار من الوطن الأم فكان جاراً للمهجرين من قبيلة أخرى صادفته «الشرق الأوسط» في مخيمات الغفران حيث أفاد بأن كثيراً من الموظفين القطريين الذين أسندت لهم مهمة متابعة تهجير الغفران من قطر انسحبوا من المهمة بعد أن قابلهم المجتمع بالصدود حيث أن كثيرا منهم شعروا لاحقا بذنب المشاركة بعد أن كانوا، كما يصف الناقل، ضحية تضليل إعلامي في حقهم وحق مواطنيهم، مبينا أن من تصدى للمهمة بعدهم في غالبهم مقيمون عرب، ما يثير حاليا مشاعر القطريين الذين لم يستوعبوا بعد سلوك السلطات في إطلاق يد غرباء في تهجير مواطنين.

وحيال المساعي التي تريد القبيلة المضي فيها لتحصيل حقها أجمعت رؤوسهم على أن من القاسي على المواطن الذي تحكمه عاداته وتقاليده أن يشكو أخاه للحصول على حقه، مبينين أنهم سعوا لدى دول منطقة الخليج ومشايخ العشائر العربية في المنطقة للتوسط لدى الحكومة القطرية لحل المسألة بعيدا عن الإعلام والمنظمات الدولية، لكن ضيق الحال الذي استمر إلى ما يزيد عن 7 أشهر جعلهم، تحت وطأة الجوع والخوف والتشرد، يعمدون إلى تأسيس لجنة للدفاع عن حقوقهم، خصوصا أنهم يقولون إن حكومتهم لم تقدر مساعي من توسط لديها وردتهم خائبين، لكن الذي يستمر الغفران في التأكيد عليه أنهم لا يحملون في قلوبهم حقدا على الحكومة القطرية وأنهم ما زالوا ينظرون إليها بعين المواطن.