في القاهرة.. مشروع واعد لإنشاء حديقة ثقافية يفشل بسبب البيروقراطية والإهمال

مصممها خريج أميركا يقول إن مشروعه انتهى «مظروفاً بلا مضمون»

TT

يتذكر عبد الحليم عبد الحليم ما حدث تماما. كان ذلك في عام 1982، وإن كان المعماري المصري لا يتذكر التاريخ بالضبط.

اوقف سيارته امام منطقة مفتوحة، وحتي اليوم بعد مرور عقد من الزمن، فانه لا يمكنه نسيان المشاعر التي انتابته. وصل الى حي السيدة زينب في القاهرة وعبر الشارع يقع مسجد ابن طولون، واحد من اقدم مساجد القاهرة، وساحته الضخمة التي يمكن رؤيتها من الفضاء الخارجي ومئذنته الملتوية.

تنتشر عبر المنطقة قباب القاهرة التاريخية المملوكية والعثمانية والاكثر حداثة. وأمامه في مواجهة شارع قدري، المزدحم بالسيارات، توجد قطعة ارض خالية ينتشر فيها المجرمون وباعة المخدرات والشحاتون، وتحفها قمامة الحداثة: بيوت متهالكة من الطوب، والى جوارها دار سينما رطبة تعرض افلام هوليوود من الدرجة الثالثة ومستشفى مهمل. في هذا الفراغ، طلبت الحكومة من المهندسين المعماريين اقتراحات لتشييد حديقة ثقافية للاطفال. يتذكر عبد الحليم وهو رجل انيق في الرابعة والستين من عمره قائلاً: «لقد شاهدت العلاقة منذ اللحظة الاولى، امر غير معقول، وتبين لي انه يجب علي القيام بذلك».

هذه قصة رؤية عبد الحليم، ومصير فكرة. انها قصة القاهرة وحظوظ مصر، قلب العروبة. لقد تحاشى حكام مصر قساوة عراق صدام حسين، وأوهام البعث السوري، لكنهم دعموا مأساة لا تقل حدة: عقود من الشمولية الخانقة والبيروقراطية التي تصل الى حد الركود وأمراض تثير اكثر المشاعر ألما: الحنين الى الماضي.

بالنسبة له كانت حديقة الاطفال علاجا لكل ذلك. التصميم الذي اعده انطلق من هويته كمصري وعربي ومسلم. عند التنفيذ كان ينوي دعوة الجيران للمشاركة، ولتحقيق حلمه سيضع ايمانه في الحكومة، التي كانت آنذاك تتبنى لغة الديمقراطية والتعددية. وقال عبد الحليم في مقابلة قبل عقد من الزمن «ان المعمار هو وسيلة، وسيلة فعالة لتطبيق التغييرات الاجتماعية والاقتصادية».

جلس آنذاك في مكتبه عندما كان مصير الحديقة لم يتقرر بعد. وأمامه صورة جوية للحديقة. كان يشير الى منشآت الحديقة ويشرحها. وأوضح قائلاً: «انت لا تشيد حديقة، بل تتدخل في نقطة حيوية في مدينة تتمتع بكل المميزات. لقد اردنا القيام بشيء بحيث تصبح نقطة جذب للتغيير ولكن ايضا نقطة تحول في الانهيار المعماري المستمر للنسيج اللاجتماعي والمادي للسيدة زينب». وكلماته اليوم مشابهة لما قاله قبل ذلك. فهو يقول الآن: «لقد اعتقدنا ان هذه الحديقة يمكن ان تغير المجتمع»، لكنه يصف نفسه اليوم بأنه اكثر «تشاؤما».

يجلس عبد الحليم في مكتبه الضخم في حي المهندسين، وهو مكتب مزدحم بالرسومات والصور، الكثير منها متعلق بمبنى جديد للجامعة الاميركية في القاهرة، يشارك في تصميمه. وعلى مكتبه هناك العديد من الكتب والمنشورات حول العمارة: «مدينة البحر المتوسط: الحوار بين الحضارات» و«شعراء العمارة» و«عمارة العالم الاسلامي». والتصميمات المنتشرة في المكتب متأثرة بروح حسن فتحى، الذي يعتبر اعظم المهندسين المعماريين المصريين في القرن العشرين.

عبد الحليم رجل متأثر بعوالم متناقضة، فقد ولد على بعد 70 ميلا جنوب القاهرة في سرناغا وتعلم في جامعة القاهرة وسافر للخارج في الستينات حيث حصل على شهادة ماجستير من جامعة اوريغون ثم الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في بيركلي.

كانت فترة بحث عن الحقيقة، لا سيما بعد هزيمة 1967. وقال عبد الحليم انه بحث عن اجابة ووسيلة لتمكين المجتمعات من تحمل مسؤولياتها.

يتذكر عبد الحليم هزيمة 1967 بأنها نقطة تحول. ويقول: «لقد كنت شابا متخرجا من الجامعة، وجعلني ذلك افكر في الاسباب العميقة لهذه الهزيمة. استدعى الامر مني وقتا قبل ان اعرف السبب. لكن تبين لي ان مشاركة الناس والمجتمع في شؤون حياتهم هو الضمان الحقيقي ضد الكوارث والهزيمة».

وكانت مصادر الهاماته متعددة: النشطاء السياسيون الاميركيون في الستينات، وعندما كبر اضاف الى ذلك الجوانب الدينية. فبالرغم من نشأته الدينية، كان يعتبر نفسه علمانيا الى اواخر العشرينات. لكنه عندما درس في الولايات المتحدة، وجد نفسه ينظر أكثر فأكثر الى تراثه الاسلامي بحثا عن الالهام الفني. ويوضح عبد الحليم وجهة نظره قائلا: «عندما دخلت هذا الطريق لم اكن اقول ان الحل هو الاسلام، كنت ابحث عن السؤال، ما اسباب الهزيمة. ثم احتضنت الاسلام كتقليد ابداعي بين العديد من التقاليد».

في عام 1982 عندما اعلنت وزارة الثقافة مسابقة تصميم الحديقة، كان عبد الحليم يعمل مع مجموعة من الزملاء في تعاونية التصميم الاجتماعي وهي مخصصة للعمارة الابداعية وذات خلفية تاريخية واجتماعية.

وقبل تقديم التصميمات، نظم مكتبه ثلاثة مجموعات تضم كل واحدة 10 طلاب لقضاء 7 اسابيع يتحدثون الى سكان السيدة زينت لمعرفة وجهة نظرهم ومقترحاتهم. البعض طالب بأشجار ومركز لرعاية الاطفال والبعض طالب بتحويل شارع ابو الذهب الى منطقة مشاة للحرفيين. وبعدها بعام، فاز مشروع فريق عبد الحليم بعقد قيمته 570 الف دولار لتشييد الحديقة على مساحة فدانين ونصف الفدان.

كان التصميم يستحضر مئذنة ابن طولون الملتوية ويفسرها على شكل ممرات ومصابيح ومبان حجرية. كان يدعو لاقامة ممرات من الطوب عبر جدول مائي وأشجار في محاولة لإحضار عناصر طبيعية، وهو شكل اسلامي متكرر من اسبانيا الى آسيا الوسطى. بينما تزدان المباني بالمشربيات والقباب.

وفي الاحتفال الرسمي أعد شيئا غير تلك الامور التي تجري في مثل هذه المناسبات. فقد دعا حوالي 5 آلاف من سكان الحي بالإضافة الى مئات الاطفال. وليجعل التصميم اكثر وضوحا اعد اشكال التصميمات في الحديقة من قماش الخيم المستخدم في المناسبات. ولاعمال البناء، وظف فريقه العديد من البنائين والنحاتين الذين يستخدمون الحجر من السيدة زينب ومن الدرب الاحمر. وفي عصر شركات المقاولات اصبحت مهنتهم قديمة وأصبحوا بلا عمل. ولدمج الحديقة مع المجتمع اقام فريقه سوقا من 20 محلا يربط بين الحديقة وشارع ابو الذهب. كما صمم فريقه مقهى ونافورة ومكتبة وغرفة صلاة وميدانا ومكتبات ومحلات للحرفيين. ودعت خطة المشروع الي ورش للاطفال في مجال الفخار والنجارة والنسيج. ولادارة النشاطات اقام فريقه اول مؤسسة غير حكومية من نوعها في مصر هي «جمعية شارع ابو الذهب». وتم الانتهاء من الحديقة في عام 1989 وافتتحت رسميا بعدها بعام. وفي عام 1992، حصلت على جائزة اغا خان للعمارة التي اعتبرتها «درسا تاريخيا مجسما».

وبعد استكمال الحديقة، كان عبد الحليم متفائلا، ونقل مكتبه الى جوار الحديقة. وطوال التسعينات كان عضوا في جمعية الشارع. وكتب كتيبا من 15 صفحة للمسؤولين لكيفية ادارة الحديقة: «لا اعتقد انهم اطلعوا عليه».

يناقش المصريون مستقبل البلاد، وينظر للماضي عبر عدسة الطبقات. ولكن القليل منهم الذين يناقش الاحساس الحالي بالركود والانهيار الذي سحب دور مصر كزعيمة بلا منازع للعالم العربي في الخمسينات والستينات، عندما كانت مصر تشع القوة والثقافة. والركود بالنسبة للعديد هو نظير للبيروقراطية، عباءة خانقة من النظام. في الحديقة، ومنذ البداية، اغلقت الحكومة زاوية الصلاة. فقد كان هناك احساس بالقلق من المساجد غير المرخص بها. وتحولت الغرفة الى مكتبة فقيرة وخلال عام اغلقت ابوابها بصفة دائمة. واصدر المسؤولون الحكوميون تعليمات: الاطفال فقط هم المسموح لهم بدخول الحديقة. لا يمكن دخول الآباء، بحجة التخطيط للبرامج طبقا لاحتياجات الاطفال. لم تأت الا مجموعة محدودة من الاطفال. وخلال عدة سنوات، اغلقت المحلات. فقد صممت المحلات لتكون جسرا بين الحي والحديقة، ولكن البيروقراطية كانت تشعر بالقلق من وجود مداخل كثيرة لا يمكن التحكم فيها، ومن بين 12 مدخلا لا يزال واحد فقط مفتوحا.

في السنوات الاولى مولت الحكومة المشروع، ولكن الميزانية توقفت واختفى الموظفون. ومع الوقت ازداد عدد الحرس والبستانية على عدد العاملين المحترفين. ومع تدهور الشارع نقل عبد الحليم مكتبه الى حي جديد واصبح مكتب السيدة زينب ارشيفا، يطل على المحلات المغلقة.

وحاولت جمعية الشارع القيام بدور ما، كما يتذكر عبد الحليم غير انه لم يكن هناك اشخاص مستعدون للاستماع. وفي العام الماضي اغلقت الجمعية ابوابها وحلت نفسها، وقال عبد الحليم، الذي بقي في الجمعية حتى اللحظة الاخيرة ان الحديقة اصبحت «مظروفا بلا مضمون».

عمر الشباوي مدير الحديقة الذي يلومه عبد الحليم على مصيرها قال: «مسؤوليته انتهت بتصميم الحديقة». وقال ان الحديقة ليست لها علاقة بعبد الحليم، بالضبط مثلما لا تكون هناك علاقة بين ادارة مستشفى ما والمهندس الذي صممه.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ «الشرق الاوسط»