دارفور: النساء يتعرضن للاغتصاب كثمن لحماية الرجال من القتل والأطفال يجمعون بين العلم والعمل

"الشرق الأوسط" تزور معسكرات النازحين في غرب السودان

TT

يجيد أطفال معسكر«عطاش» بالقرب من نيالا في جنوب دارفور الابتسام للوفود التي تزورهم، يبادرون الى التحية بكلمة «أوكي» مع تلويح بأيديهم الصغيرة. فيعجب الزائر من قدرتهم على الفرح والاستمرار على قيد الحياة بأقل قدر ممكن من المعطيات على رغم البؤس الذي يفوق التصور.

هؤلاء الاطفال يشكلون نسبة لا يستهان بها من مليون و800 ألف نازح في اقاليم دارفور الثلاثة، يقيمون في واحد من ستة معسكرات في نيالا، عاصمة اقليم جنوب دارفور. وقد حظيت «الشرق الاوسط» بجولة ميدانية لاستطلاع احوالهم مع وفد لصندوق الامم المتحدة للسكان، الذي نظم نشاطا بالتعاون مع حكومة الاقليم تحت عنوان «مكافحة العنف ضد المرأة». وتضمن النشاط اضافة الى الجولات الميدانية، لقاءات مع مسؤولين رسميين في الاقليم وحوارات تتعلق بالإجراءات والخطوات الكفيلة بتحسين ظروف النازحين وعرض لخطط عمل، محاورها حماية النساء من الاغتصاب ومتابعة اوضاعهن على صعيد الصحة الانجابية والنفسية وبرامج التوعية والتثقيف، ليس فقط من خلال المحاضرات او الندوات وانما من خلال الكوميديا والتسلية والغناء بأسلوب نابع من البيئة في هذه المنطقة. وذلك بإشراك فنانين سودانيين يجيدون مخاطبة هذا الجمهور الخاص في عقر دار معاناته.

وعناوين هذه المعاناة كثيرة وخطيرة، أهمها التعرض لخطر الموت على ايدي الميليشيات المسلحة والمتصارعة، وهي جيش تحرير السودان وميليشيا الجنجويد وحركة العدل والمساواة. وبمعزل عن التطرق الى الابعاد السياسية للحرب الدائرة في اقليم دارفور وما يحيط بها من مصالح وتدخلات محلية واقليمية ودولية، يمكن القول ان هذه المليشيات ما زالت تعتمد أسلوب الغزوات القبلية والعشائرية لدفع الحكومة السودانية الى تلبية مطالبها وتعمد الى احكام نفوذها وسيطرتها على الارض بعد تهجير من فيها وحرق مزروعاتها والاستيلاء على ماشيتها وخيراتها. الرجال هم الطرائد والضحايا. وقتلهم مبدأ لا يحتاج الى نقاش في زمن الحروب، في حين أن الاطفال عرضة للخطف. اما النساء فهن ضحايا السبي والعنف الجنسي في هذه المعادلة، على اعتبار انهن نقطة الضعف لدى كل قبيلة من خلال مفهوم الشرف. والاعتداء الجنسي على النساء يشكل مصدر عار للقبيلة ويسجل نقاط تفوق وقوة لأعدائها. وهذه المعادلة ارست مفاهيمها الخاصة في يوميات المناطق الساخنة في اقليم دارفور. فقد فرضت على المرأة حماية رجلها، الذي يتوارى قدر ما يمكنه عن مرمى اعتداءات هذه الميليشيات، سواء في معسكرات النزوح او في القرى الواقعة على حدود تماس الاشتباكات. ما يعني ان المرأة هي التي تعمل وتعيل اسرتها وتواجه اخطار الحرب بمفردها في سعي منها لابعاد زوجها واولادها عن الموت المحتمل، وتقبل ضمنا بالتعرض للاعتداء الجنسي مقابل سلامة أسرتها واستمراريتها. المعادلة قاسية لكنها موجودة، يشرحها ببساطة مؤلمة الرجال في المعسكر. يقول أحدهم مجيباً عن سؤالنا له: ماذا تعمل؟ «لاشيء، ففرص العمل للرجال دونها خطر الموت. بعض الشباب وبنسبة ضئيلة يعملون مع المنظمات العالمية التي ترعى اوضاعنا الانسانية، اما البقية فهم قاعدون لا يستطيعون الحراك خارج المعسكر خوفا من الموت». مهن النساء تتراوح بين تحضير الفول المدمس وبيعه والعمل في تنظيف البيوت وغسل الثياب وبيع بعض المنتجات الزراعية وبعض الاشغال الحرفية وتجميع الخشب والقش من الجبال المحيطة بمدينة نيالا. وهذه المهنة الاخيرة تحديدا هي التي تعرض النسوة لغارات الاعتداء عليهن. لذا تتولى جنديات من عناصر قوات الاتحاد الافريقي المشرفة على حماية المعسكرات ومراقبة وقف اطلاق النار، مرافقة هؤلاء النسوة والحؤول دون تعرضهن الى الاعتداءات. ومع هذا تبقى الهيكلية الاجتماعية للقبيلة محفوظة في المخيم من خلال الشيوخ الذين يتولون تنظيم وضع الاسر وحل نزاعات الافراد. وكل شيخ مسؤول عن حوالي خمسين أسرة برجالها ونسائها واولادها.

ويؤكد نازحو معسكر «الدريج» ان حماية الجيش السوداني وقوات الاتحاد الافريقي لا تمنع خطر عناصر ميليشيا الجنجويد عنهم. يقول أحدهم: «لا أمان على الاطلاق. احيانا يغزونا الجنجويد في الليل، يسرقون كل ما نملك وكل ما تمنحنا اياه المنظمات الانسانية من سكر وعيش (خبز) وادوية. واذا خرجنا الى الشارع يتربصون بنا». ويضم هذا المعسكر نحو 20 الف نازح. قدموا اليه منذ ما يقارب السنتين، معظم أكواخه من الكرتون والنايلون. لا تزيد مساحة الكوخ فيه على المترين المربعين. ومن ارتقى بمستواه في صفوف النازحين حظي بكوخ من القش او القصب.

اما معسكر «عطاش» فيضم 15 ألف نازح. ويبدو ان أوضاعه المعيشية أفضل منها في معسكرات أخرى. حيث تتوفر عيادات ومدارس ومضخات مياه ويمكن ملاحظة وجود بيوت صغيرة من الآجر بين الاكواخ. ويقول محمد وهو في التاسعة عشرة من عمره انه سينهي هذا العام دراسته الثانوية ليلتحق بالجامعة ويدرس اما الهندسة الزراعية او المعمارية. ومحمد يقر بأن احواله افضل من كثيرين في المعسكر، مضيفا: «نزحت عائلتي الى المعسكر قبل سنة وستة اشهر. وكنا اغنياء جدا. لكن جيش التحرير السودان اقام في قريتنا ليومين، ما دفع الجنجويد الى غزوها بغية القتل والنهب. هربنا بثيابنا».

جمال يحلم ايضا بمستقبل طموح. هو في الثانية عشرة من عمره. يتجول بين الأكواخ راكبا دراجته الهوائية. سماها وحيدة وزخرفها بكل ما يستطيع من اكسسوارات متواضعة. وهو تلميذ في السنة الثالثة. الا انه يعمل بعد الدوام في نقل المياه او (الموية) كما هي العبارة المستخدمة. ثمن دراجته 220 ألف جنيه (حوالي تسعين دولاراً). لكن شراءها لم يحل دون مساهمته في مصاريف العائلة التي فقدت الوالد.

هيثم لا يستطيع الحصول على الكماليات، فهو يحمل مسؤولية أكبر من جمال. نسأله: «من اين انت؟» لا يجيب. يغلبه الدمع. يقول بعد قليل انه يخاف من الحرب ويكرهها، «كان لدينا دار جميلة وشجر وبقر وغنم. والآن لاشيء. قتل والدي وانا أعمل وأدرس واعطي والدتي أربعة دنانير كل يوم».

هيثم يستمد أمانه من صندوق الامم المتحدة للسكان كما يقول موضحا: «يعطوننا العيش والزيت والسكر ويعالجوننا عندما نمرض ويتحدثون الينا بلطف. اما المسلحون فهم أكثر قسوة. لذا اعتبر ان الموظفين في الصندوق اصدقائي وانتظر حضورهم الى المعسكر. وعندما أكبر سأعمل معهم. سأدرس الطب وأعالج الاطفال في المعسكرات وأقدم المساعدات، كما يفعلون».

سكرة وهي في العقد الرابع من العمر، أرملة وأم لخمسة اولاد تقول: «في قريتنا كان لدينا ماشية وزرع. هنا لا شيء. هاجمونا وقتلوا الرجال وخرجنا عراة ولا نستطيع ان نرجع لان الجنجويد ما زالوا يواصلون هجومهم». سكرة تبيع الفول المدمس «اذا توقفت عن العمل لا يأكل اطفالي. المنظمة أعطتنا أغطية وناموسيات وتتولى علاجنا، اما تأمين الطعام فهو مسؤوليتي».

الثياب هي ايضا من أولويات نساء المعسكر. لذا يمكن ملاحظة الاهتمام بالمظهر على رغم الظروف القاسية، وكأن التستر بأكبر نسبة من القماش الجميل يمنح الامان للمرأة المهددة بالاعتداء الجنسي ويحجبها عن العيون ويضفي عليها هالة من القوة الاجتماعية الكفيلة بردع من تسول له نفسه ان يعتبرها فريسة سهلة.

حليمة البالغة اربعة عشر عاما، تعكس صورة الفتاة الانيقة والمتحدية لظروف الفقر والنزوح. تسرح شعرها بشكل جميل وتضع عقدا صنعته لها والدتها وفي اذنيها اقراط على الموضة. تبدو مقبلة على الحياة على رغم التجربة القاسية التي تعيشها وتقول: «بالطبع اخاف ان يعتدي علي احد، وأعرف فتيات تم اغتصابهن، واصبحن معزولات ولا يتحدثن الى أحد. لكن الامر ليس نهاية العالم. كثيرات ممن اغتصبن تزوجن وتبنى الازواج الاولاد الذين انجبنهن بفعل الاغتصاب».

والمفارقة في مسألة الاعتداءات الجنسية تكمن في أكثر من موضع. فالجهات الحكومية تحاول تجاهل الامر الى حد نفيه اذا لم يتوفر الدليل الملموس الذي لا يمكن دحضه. وتعتبر ان اثارته خاضعة للمبالغة، بغية توظيف القضية في المفاوضات السياسية. ويرى البعض ان الامر مختلق جملة وتفصيلا كما يقول الجار بشارة الجار، مضيفا: «انا من نيالا وأقول ان المرأة تعامل معاملة طيبة في دارفور من خلال الدين والسلطة، في حين تعامل معاملة الحيوان في الغرب الذي يحاول تشويه صورتنا. لا يوجد اغتصاب منظم في دارفور وكل ما يقال هو محض افتراء وكذب، هدفه اثارة الفتنة والمشكلات بين القبائل». يتدخل أحد الشباب معقبا: «هناك اختلاف في مفهوم كلمة اغتصاب بين الغرب والشرق. في تلك البلاد يعتبرون أن أي إكراه مهما بدا بسيطا هو اغتصاب».

نائب الوالي في اقليم جنوب دارفور المهندس آدم السليك يؤكد من جهته ان الحكومة تنظر الى المرأة نظرة احترام من خلال الاسلام والاخلاق والقيم. وتعتبر ان ما يحصل هو سحابة صيف وستزول، مؤكدا ان الجهات الأمنية ساهرة لحماية النساء. ويورد ان ملاحقة كل من يرتكب هذه الجريمة تتم ويقدم المذنبون الى المحاكمة وينال البعض منهم عقوبة الاعدام.

وفي هذا الاطار اصدر والي ولاية جنوب دارفور المهندس عطا المنان ادريس قراراً بتشكيل لجنة لمكافحة العنف ضد المرأة. تقع على عاتقها مسؤوليات، من ضمنها تحليل مشاكل العنف النوعي للذين لهم ملفات في البوليس واستقبال الحالات ومتابعتها. وذلك بالتعاون مع التحري والنيابة. وبناء قدرات الاجهزة المختصة وتدريبها وتحسين الاشراف عليها والتأكد من متابعة منع حصول العنف الجسدي وتوفير الخدمات الطبية للمعتدى عليهن. وتتألف اللجنة من اطباء مستقلين يعينهم الوالي ومن طبيب عمومي من وزارة الصحة وممثل النيابة العامة وآخر من الشرطة، إضافة الى مشاركين من بعثة الامم المتحدة لحقوق الانسان في السودان وممثلين لصندوق الامم المتحدة للسكان ومنظمة الصحة العالمية واليونيسيف والبعثة الافريقية في السودان.

الدكتور حسن محتشمي نائب مندوب صندوق الامم المتحدة للسكان في السودان، يجد في خطوة حكومة الولاية ايجابيات كثيرة. يقول: «نحن نحرز تقدما ملحوظا. فالتعاون بات اقوى مما كان عليه قبل حوالي تسعة اشهر. ودخولنا في اللجنة لم يعد يقتصر على المراقبة. نحن نعمل فيها حاليا ونساعد الحكومة على تنفيذ خطوات من شأنها ان تؤدي الى معاقبة كل من يعتدي جنسيا على النساء».

لكن الامور تتجاوز اللجنة والنيات الحسنة للحكومة في ولاية جنوب دارفور، وعمل المنظمات يسير بين الخطوط الحمر المفروضة نظرا لخصوصية المجتمع السوداني، ناهيك بالحساسيات المتعلقة بسيادة الدولة ومؤسساتها وعدم مصادرة صلاحياتها. لذا يحرص المسؤولون في الصندوق على تجنب المواضيع السياسية الطابع في مشاريعهم، لأن الاهم هو مساعدة النساء والاهتمام بمعالجة الاوضاع الناجمة عن القتال والنزوح، كما تقول مديرة برنامج صندوق الامم المتحدة للسكان لاسعاف دارفور مها المنى، موضحة ان «الحكومة لا تتلقى بلاغات عن كافة الاعتداءات التي تتعرض لها النساء. ذلك ان بعضهن يتحفظن في الذهاب الى الشرطة خوفا من الاشكالات التي قد يتعرضن لها وتزيد من وطأة الاعتداء عليهن». وتعتبر المنى ان المسألة لا تنحصر بالاعتداء الجنسي فوضع المرأة التي تتولى مسؤولية اعالة اسرتها ماديا، اضافة الى الاهتمام بتربية اولادها ينتج اشكاليات تؤثر، سواء في المدى المنظور او البعيد. والعمل على معالجة هذه الاوضاع لا يمكن ان يختصر بقرارات او اجراءات آنية وانما يستوجب متابعة مستمرة وجدية.

ويسعى صندوق الامم المتحدة للسكان الى تمكين ضحايا العنف الجنسي في دارفور من الوصول الى القضاء، وتشير التقارير الصادرة عنه الى ان هناك عوائق رئيسية تمنع الضحايا من اللجوء الى القضاء. فمعظم النساء لا يبلغن عن هذه الحوادث خوفا من الانتقام، كما ان ليس هناك ما يشجعهن على تحرير بلاغات لعدم وجود تعويض لجرائم العنف الجنسي. وتسجل التقارير رفض بعض مراكز الشرطة تسجيل البلاغات وعدم الجدية في التحري بشأنها، وتهديد وتخويف من تتعرض الى العنف ومن يطالب بوضع حد له من جمعيات ومنظمات، إضافة الى رفض السلطات السودانية الاعتراف بمدى المشكلة، ويسعى الصندوق الى تغيير موقف السلطات في التعامل مع هذا الامر وتفعيل القوانين الموجودة وتنفيذها ووضع قوانين جديدة، من شأنها ان تواكب هذه القضية.

وفي ظل هذا التجاذب يمكن القول ان النازحين والنازحات وحتى اهالي عاصمة ولاية جنوب دارفور لديهم أولويات تتجاوز قضية اغتصاب النساء ومكافحتها الى هموم أكبر تتعلق بإرساء اسس مجتمع يوفر لهم الاستقرار والامان والحلم بمستقبل افضل.