ميليس: التحقيق في اغتيال الحريري لن ينتهي في 15 ديسمبر وإفادة «حلاق بيروت» التلفزيونية دعاية

في لقاء «محدود» مع الصحافة في «قلعة المونتيفردي»

TT

الرحلة من بيروت الى منطقة المونتيفردي لا تستغرق اكثر من 20 دقيقة. لكن الرحلة داخل «قلعة المونتيفردي» نفسها تستغرق وقتاً طويلاً بسبب التدابير الأمنية المشدّدة و«المهذبة» والبالغة الاحتراف. هذه التدابير يبررها اللقاء مع ديتليف ميليس، القاضي الألماني المكلف كشف الحقيقة في جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري. لقاء ضم ثمانية صحافيين شاءته لجنة التحقيق الدولية إطلالة على «الخلفيات» لا مقابلة بالمعنى الصحافي التقليدي.

ميليس ـ غير الذاهب الى فيينا لأن الطقس في لبنان اجمل ـ هادئ وحاد الذكاء. ملمّ بتفاصيل التفاصيل. لا يتردد في الكلام بجرأة، ويقفل باب المكاشفة عندما يقال ما يهدد سلامة العمل التحقيقي واصوله.

قال ان قطع احجية عملية الاغتيال تتجمع، ولكن عملية الجمع لا يمكن ان تنتهي في 15 ديسمبر (كانون الاول) الجاري. وكلام «حلاق بيروت» حسام طاهر حسام في دمشق لا يؤثر على سير التحقيق الذي يملك افادات كثيرة لنحو 500 شاهد...

أشياء كثيرة يخرج بها المرء من لقاء ديتليف ميليس... هنا ملخصها:

ديتليف ميليس في المونتيفردي وليس في فيينا. وهو لم ولن يذهب الى عاصمة النمسا، فهناك محققون متخصصون في مجالات معينة يقومون بمهمة الاستماع الى الشهود الخمسة الذين لم تُعرف اسماؤهم ولا صفاتهم ولا موعد بدء الاستماع اليهم.

وفي فيينا لا يمكن توقيف أحد على ايدي السطات النمساوية، فالتوقيف يتم بناء على توصية من لجنة التحقيق للسلطات القضائية اللبنانية التي يمكنها إحضار أشخاص أصدرت بحقهم مذكرات توقيف بواسطة الانتربول. ويمكن بطبيعة الحال ان تقرر السطات القضائية السورية توقيف من ترى موجباً لتوقيفه من رعاياها على أرضها.

وما يجري في فيينا ـ وهو ما يكتنفه الغموض ويلفه التعتيم ـ ليس نهاية المطاف، لأن لجنة التحقيق وان ارتأت الآن الاستماع الى خمسة شهود، قد تقرر الاستماع الى سواهم من غير ان تستثني احداً لأي سبب كان. وهنا لا بد من التذكير بأن مجلس الأمن الدولي اعطى اللجنة صلاحيات واسعة، وبأن القرار 1636 طلب من سورية تعاوناً «غير مشروط». والمنطق القانوني يقول ان استثناء أحد من التحقيق لسبب او لآخر يجعل التحقيق غير كامل، وهذا أمر لا تقبل به المحكمة، أي محكمة. ولكن كان لا بد للجنة من ان تبدأ من مكان ما، وهكذا كانت مرحلة «المونتي روزا» في سورية، والآن مرحلة فيينا. وهذه بديل لـ «المونتي فردي» بعدما لمست لجنة التحقيق مدى الرفض السوري لارسال المطلوب استجوابهم الى لبنان، فأبدت مرونة ولم تدخل مطلقاً في تسوية، وهي لا تملك صلاحية عقد الصفقات في أي حال.

حسام طاهر حسام بالعودة الى حسام طاهر حسام، كان اللافت ان ميليس لم يشاهد اطلالتيه التلفزيونيتين، لكنه قرأ النص الذي أعدّه معاونوه نقلاً عن التلفزيون. وهو سيرى في اطلالة شاهد تراجع عن افادته عبر التلفزيون بهذه الطريقة دعاية سورية سيئة تليق بدولة من المعسكر الشرقي قبل عقود من الزمن... ومن يعرف أساليب تلك الكتلة السياسية اكثر من ابن برلين الغربية؟ وعلى ذكر الشطر الغربي من العاصمة الألمانية، تجدر الاشارة الى ان والدة ديتليف ميليس لم تمت وتدفن في الجولان كما قالت بعض الروايات السورية، بل هي (ألمانية) حية ترزق، عمرها 81 عاماً وتعيش مع زوجها (86 عاماً) في برلين! افادة حسام طاهر حسام عبر التلفزيون، هي في نظر ميليس عمل غير احترافي وغير لائق. وحسام، في اي حال، ليس الشاهد الرئيسي، لا هو ولا محمد زهير الصديق. فلجنة التحقيق لديها اكثر من 500 شاهد، والرقم قد يرتفع طبعاً. وحسام شاهد مهم، لأن كل شاهد مهم. وميليس يحب دائماً ترداد كلمة أحجية (Puzzle)، بمعنى ان افادة كل شاهد هي قطعة من الأحجية. وهو يعتقد ان ما قاله حسام للصحافة في سورية غير صحيح، خصوصاً انه يتناقض مع ما أفاد به أمام اللجنة قبل ان يوقع افادته التي اكد فيها انه لن يتراجع عن كلامه رغم خوفه على عائلته في سورية.

واللجنة لم توفر حماية لحسام لأنها لا تفعل ذلك الا لشاهد يملك معلومات حاسمة، علماً ان الشخص الذي يطلب الحماية عليه ان يدرك انه سيغير حياته لفترة وسيغادر مكان وجوده إلى بلاد أخرى، الأمر الذي يكون مرهقاً له ولعائلته، ومكلفاً مادياً لمن يوفر له الحماية.

في أي حال، تبقى الكلمة الفصل في ما قاله حسام أمام اللجنة وما قاله أمام الاعلام للمحكمة التي يعود اليها تقويم ما يدلي به الشهود. واللجنة قد تستدعي هذا الشاهد لتستوضحه أسباب التباين في كلامه، علماًَ انها لم تطلب توقيفه لأن عقد مؤتمر صحافي ليس أمراً غير قانوني. وميليس بحسّه البوليسي الواسع، لا يعتقد ان حسام كان مدسوساً من الاساس، بل ربما غيّر موقفه خوفاً على عائلته. ويستغرب القاضي الألماني كيف أن حسام لم يمثل أمام اللجنة القضائية السورية، فيما «مثل» أمام وسائل الاعلام! في خضم كل التطورات لا بد من السؤال عن مسار التحقيق وآفاقه، خصوصاً ان مهمة اللجنة تنتهي في 15 ديسمبر (كانون الاول) الحالي. الجواب واضح لا لبس فيه، فسيّد التحقيق يؤكد ان العمل لم ينتهِ وانه سيأخذ وقتاً طويلاً. لكن هذا لا يعني انه لم يحصل تقدم ملموس في كشف ملابسات جريمة الاغتيال. والمرجّح جداً انه بعد أسبوعين من الآن سيجتمع عنصران: الحكومة اللبنانية ستطلب من مجلس الأمن تمديد عمل اللجنة، والأخيرة ستوصي بذلك. وعندها يتخذ مجلس الأمن قراره، ويصبح للبنان قرار جديد ورقم جديد! واذا كان المواطن اللبناني تواقاً الى معرفة الحقيقة بكل تفاصيلها، فان ميليس لم يكن يتوقع عندما بدأ عمله (بعد اربعة اشهر من وقوع الجريمة) الوصول الى خط النهاية في ستة أشهر حددها له مجلس الأمن. لذا سيواصل الرجل عمله اذا قرر المجلس ذلك، متمسكاً بالمعايير الحرفية، ومغمضاً عينيه تماماً عن الاعتبارات السياسية. إلا ان ذلك لا يعني انه لا يدرك أهمية الحقيقة في رسم صورة الوضع السياسي في لبنان. اذاً، لبنان سيكون على موعد متجدد مع التحقيق، وعليه بالتالي الانتظار اكثر مع ما يحمله ذلك من اضطراب في الرؤية السياسية، وخشية من تطورات أمنية. وبالنسبة الى الشق الثاني يرى ميليس مؤشرات ايجابية تُحسب للسلطات القضائية والأمنية اللبنانية. وهكذا سيواصل الرجل وفريقه العمل حتى انهاء التحقيق، وبعد اتخاذ القرار في شأن الاشخاص الذين سيكونون موضع اتهام تبدأ مرحلة المحاكمة. وهنا سيكون على لبنان والمجتمع الدولي تحديد الجهة التي ستحاكِم. وهذا أمر لا علاقة للجنة الحالية به.

من الأمور التي لا يمكن الخوض فيها مع القاضي الألماني الجرائم الأخرى التي شهدها لبنان قبل اغتيال الحريري (محاولة اغتيال النائب مروان حمادة) وبعده، وملف بنك المدينة، وما اذا كان هناك شهود تحت الحماية، وقضية مقتل الشاهد السوري نوار مندونا في حادث سيارة قبل أيام... وكذلك لا يمكن البوح بما اذا كانت اللجنة ستستمع مجدداً الى الرئيس اللبناني اميل لحود، مع الاقرار الصريح بانه كان دائماً متعاوناً مع التحقيق.

ومن الأمور التي يَعترف بها ميليس ان تقريره سياسي في جزء منه، كيف لا واغتيال رفيق الحريري جريمة سياسية بامتياز. لكن اللجنة حالت وستحول دون جعل أي تقرير يصدر عنها مسيّساً. وحرصاً على الدقة والموضوعية وعدم التسييس، كانت كتابة التقرير الذي صدر في اكتوبر (تشرين الاول) الماضي مهمة منوطة بعدد من المحققين المنتمين الى دول مختلفة، وذلك بقرار وحرص من ميليس نفسه.

السؤال قبل الأيام التي تفصلنا عن 15 من الشهر الحالي: هل تتعاون سورية فعلاً مع لجنة التحقيق كما ينص عليه قرار مجلس الأمن 1636؟

الجواب سيكون في تقرير ديتليف ميليس، لا بل سيكون محوره. وعلى هذا الأساس ستتقرر أشياء كثيرة في مجلس الأمن. لكن الأكيد ان عقد مؤتمر صحافي لأحد الشهود في دمشق مؤشر سلبي لكونه أمراً غير محترف يشكل محاولة لعرقلة التحقيق وافقاده مصداقيته. والأمل ألا ينسحب هذا المؤشر السلبي على عمل اللجنة القضائية السورية وتوجهها ككل... والجواب سيكون في ما يجري في فيينا وما ستقرره اللجنة بناء على ما ستستمع اليه هناك...

وبعد، اللقاء مع ديتليف ميليس لا يمكن ان يكون الا مليئاً بالأسئلة التي تشغل جميع اللبنانيين، بل تقضّ مضاجعهم. فهل يملك الرجل الاجوبة المفضية الى الحقيقة؟ لو كان يملك الصورة الكاملة لما كان يواصل التحقيق، لكنه واثق من انه يسير في الطريق الصحيح.

الطريق الصحيح هذا يبدو انه طويل ومرهق، ويشكل تجربة اقل ما يقال فيها انها مريرة. ولكن حتى التجارب المريرة يمكن ان تكون مثمرة ومُثرية، فهل تثمر مثلاً كتاباً لصاحب الدور المحوري في المسألة؟

ديتليف ميليس حاول كتابة يومياته منذ ان بدأ العمل في لبنان تمهيداً ربما لوضع كتاب في مرحلة لاحقة. لكن المحاولة لم تعمّر اكثر من ثلاثة ايام. فالرجل منشغل بمهمة كشف الحقيقة التي يعلّق عليها اللبنانيون آمالاً واسعة، علّهم يطوون بفضلها الصفحة الأخيرة من كتاب أسود أرهقتهم كتابته وقراءته منذ ثلاثين عاماً.