البلدة القديمة من القدس بدأت تفقد هويتها العربية

حوالي ربع بيوتها وحوانيتها (أكثر من 1300 عقار) أصبحت في ملكية جهات استيطانية يهودية والبقية يتهددها الخطر

TT

ـ «أنا أعطيك فترة سنتين على الأكثر، إذا وجدت بعد هذا الوقت عربا في القدس القديمة (داخل الأسوار)، تعال واركب على كتفي وسأدور بك في كل شوارع المدينة».

ـ «سنتان؟! ولماذا سنتان؟! أنا أراهن على اننا لن نصمد أكثر من سنة». لأول وهلة تحسب ان محدثيك يبالغون في يأسهم، مثل عادة الناس البسطاء أو المحترفين. بل انك تبدأ التشكيك في هؤلاء الناس وترغب في اتهامهم بفقدان الحصانة الوطنية. فهذه هي القدس يا بشر، أغلى ما يملك العرب، أغلى ما يملك الفلسطينيون. عفوا. عندما تسبر اغوار البلدة القديمة من القدس وتلتقي المزيد والمزيد من التجار ومن السكان، تصاب بكسر من الذهول والقلق وتشعر ان الخطر بضياع القدس القديمة وتهويدها، هو خطر حقيقي وكبير. وإن لم تكن سنة أو سنتان وحسب، فإنها ليست أكثر من ذلك بكثير. وإن لم يكن ضياع كامل، فإن اعصار التهويد ماض الى الأمام ويهدد ربعا ثانيا على الأقل من هذه المدينة المقدسة. وإن كانت هنالك مبالغة في شيء، فانها في ذلك الاهمال الرهيب لهذه المدينة واحتياجاتها، وتلك اللامبالاة ازاء مخططات التهويد المدروسة التي تقوم بها مؤسسات وحركات استيطانية كبيرة وغنية جدا، وتنجح فيها بشكل فعال وحقيقي. بينما نحن نتفرج من بعيد. بل ان أحداثا كثيرة تدل على اننا في بعض الأحيان، مثلا في قضية بطريركية الروم الأرثوذكس في المدينة، نرتكب مسلسل أخطاء، يجعلنا نحن العرب، مسلمين ومسيحيين، حكومات (الأردن وفلسطين) وقوى وطنية، نساهم بشكل مباشر في تهويد القدس ونساعد قوى الاستيطان على تفريغ المدينة من معالمها العربية. نحن نتحدث هنا عن البلدة القديمة من مدينة القدس الشرقية المحتلة منذ العام 1967. هي تلك البقعة الصغيرة، التي لا تزيد مساحتها عن كيلومتر مربع واحد، لكنها تضم كوكبة من أقدس المقدسات للديانات الثلاث: كنيسة القيامة للمسيحيين، التي تأتي في المقام الثاني بعد كنيسة المهد القائمة في بيت لحم، المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين بالنسبة للمسلمين، وحائط البراق، أو حائط المبكى الذي يعتبره اليهود قدس أقداسهم. كلها محاطة باسوار عظيمة مهيبة مغروسة في قلب الأرض وعمق التاريخ ليس فقط منذ زمن سليمان القانوني باني هذه الأسوار قبل حوالي خمسمائة سنة، بل منذ آلاف السنين. في كل زاوية منها تشتم عبق الأمجاد التاريخية وتعتز بمكنونات الحضارة الانسانية، فتدرك أسباب هذا العشق لها وأبعاد الاهتمام بها. ولا تتوقف عن السؤال: لماذا لهكذا مدينة مقدسة للجميع أن تكون موضوع خلافات وحروب، وهي تحمل كل أسباب الدنيا لتكون موقع تجميع وتوحيد وسلام للجميع. لكن السؤال الأكبر الذي يفرض نفسه اليوم، هو: لماذا نترك القدس اليوم، تضيع على هذا النحو؟! اخترنا الدخول اليها اليوم من الباب الجديد، أحد أقل المداخل استخداما ورهجة. يتسم بالتواضع الحزين المتكدر. خمسة من كل ستة حوانيت مقفلة، الغبار يستر ألوانها والعنكبوت يتعمشق على جدرانها. والحوانيت المفتوحة تبث اليك مشاعر الاعتذار والخجل. أبو فراس، كهل فلسطيني يجلس في الداخل قرب مدفأة كهربائية صغيرة ويقسم انه لم يستفتح بعد ببيع ولا حتى زجاجة ماء للسياح أو الزوار رغم مرور ست ساعات على فتح باب حانوته: «نحن هنا بدافع الكيد»، قال. وماذا تقصد بالكيد؟، سألنا. أنت تكيد من، أو من الذي يكيدك؟ ـ «خليها على الله يا بني. كل شيء بثمنه في هذه الديرة. ونحن لم نعد نقوى على دفع الثمن»، أجاب. ثم اعتذر بلطف عن استمرار الحديث وطلب ألا نذكر اسمه ولا نكتب شيئا مما قاله لنا. كانت جولتنا في يوم الجمعة، الذي يتدفق فيه عشرات ألوف الناس على البلدة القديمة من القدس. المسلمون الى الحرم الشريف، اليهود الى الحائط، السياح المسيحيون الى القيامة. فسيفساء من كل الأجناس والقوميات. لكن وحدة البشر هذه خدعة. فلا يوجد هنا أي دليل على وحدة في أي شيء. اليهود هنا يمرون من الشوارع ويديرون الحوانيت لكي يتظاهروا بأن القدس لهم وليس لغيرهم. والعرب هنا يعيشون لكي يردوا على التحدي ويعترفون ان صمودهم يقترب من نهايته. والسياح الأجانب يسيرون في شوارع القدس وفق برنامج رسمه لهم سياسيون كبار في اسرائيل يشتغلون في السياحة. والنتيجة: واحد ـ صفر على الأقل، وربما 1000 ـ صفر لصالح اسرائيل ومؤسساتها اليهودية الاستيطانية.

ـ «أنا لم أستفتح اليوم بمليم واحد، بل لم أستفتح طيلة هذا الأسبوع أبدا. لم يدخل الي أي زبون على الاطلاق»، يقول أبو علي، صاحب مطعم «سليكت» في باب الخليل. انه أكبر المطاعم في البلدة القديمة. مساحته 135 مترا مربعا ويتسع لمائة مقعد. الاستثمار في المكان واضح للغاية: ديكورات جميلة وثمينة ومطبخ حديث وحمامات نظيفة وأجواء غاية في الرقة والسكينة. فتح المطعم طيلة النهار من دون زبائن يعني خسارة يومية متراكمة: «هذا هو وضعنا منذ سنة 2000 (اندلاع الانتفاضة). انتهت زيارات السياح. وإذا أتوا لا يدخلون مطعمنا، فالمرشدون السياحيون اليهود يحرصون على أخذ السياح لتناول الطعام في المطاعم اليهودية في القدس الغربية».

ـ هل هذا التعامل مربوط بالانتفاضة؟

ـ أجل، منذ الانتفاضة يبعدون السياح عنا، ولكن هذه ليست المضايقة الاقتصادية الوحيدة التي نتعرض لها. فالمشكلة الأكبر تكمن في ضريبة الدخل ومؤسسة التأمين الوطني الاسرائيلية وفي الضرائب البلدية. ففي اسرائيل أخذوا بالاعتبار انهيار فرع السياحة، فأعفوا من الضرائب التجار اليهود وكل من يعتمد مدخوله على السياحة. أما نحن التجار الفلسطينيين في القدس، فقد حرصوا على ملاحقتنا بفرض كميات هائلة من الضرائب علينا وفرض غرامات على تأخير الدفع. وهددونا بالسجن. ـ لماذا لم تتوجهوا الى المحكمة أو الى الاعلام؟ ـ هم الذين أخذونا الى المحكمة، بدعوى اننا نخالف القانون ونتهرب من التزاماتنا.

ونستمع الى شكاوى مماثلة من عشرات التجار الآخرين:

ـ سامر أبو عيد (31 عاما)، تاجر تذكاريات. حانوته يقع في قلب السوق الممتد من باب الخليل. أمام الحانوت نصب تذكاري كتب عليه بالعبرية ان تلميذ المدرسة الدينية اليهودي شموئيل الياهو قتل هنا في 20 أغسطس (آب) 2005. وفوق الحانوت تنتصب كاميرا فيديو، هي واحدة من عشرات الكاميرات التي نصبتها الشرطة الاسرائيلية لمراقبة المكان. كل من يمر من هنا مراقب. كل الناس. والصور تنقل ببث مباشر الى مركز مراقبة للشرطة في القشلة، وهو مركز الشرطة الواقع في باب الخليل: لا يغرنك هذا العدد الكبير من السياح الذي تراه يعبر في أسواق القدس. فهؤلاء لا يدخلون الى الحوانيت العربية. فالسلطات الاسرائيلية تأخذهم الى الحي اليهودي في القدس ليشتروا من هناك. أنظر، أنظر الى الأكياس التي يحملونها، أتلاحظ الكتابة عليها بالعبرية؟! ويروي لنا سامر كيف ينكلون به ويضغطون عليه لكي يبيع حانوته، وبيته الواقع في الحي اليهودي ـ «اعتقلوني خمس مرات، كل مرة بحجة مختلفة. لم يتورعوا عن اتهامي بقتل ابن عمي. ولكن في كل مرة كانوا يأخذونني الى التحقيق كانوا يوجهون الأسئلة حول البيت ومتى أنوي بيعه. والسعر: أكتب المبلغ الذي تريد، ونحن ندفع».

ـ موسى القاق (61 عاما)، صاحب مطعم آخر: «أنا تعرضت لتفتيش مباغت من ضريبة الدخل عشر مرات خلال شهرين اثنين فقط. ضغوط جنونية علينا حتى نيأس ونرحل ونترك القدس لهم، وأقول لك بصراحة الناس يصلون الى حد اليأس. نحن نحب القدس ومستعدون للموت في سبيلها، ولكن لا يعقل ان نموت من دون مقاومة المؤامرة. ولا أحد يقاوم هذه المؤامرة لترحيلنا، سوى أولئك الذين تراهم صامدين في بيوتهم وحوانيتهم. فلا ثورة فلسطينية ولا قيادة ولا شعب. رحم الله فيصل الحسيني، الذي كان يقف مع جماهير شعبنا في القدس، يحس معها ويدعم صمودها ويقاوم مؤامرات التهويد بكل قوة وشجاعة. وأنا أقول لك ان الحد الأقصى لصمود الناس هنا هو سنتان. فاسرائيل مصرة على تنفيذ مخططها لتهويد هذه المدينة وتطهيرها عرقيا من العرب. فالحكومة تضغط بالضرائب والمستوطنون اليهود يقدمون المغريات».

ـ ماذا تقصد بالمغريات؟ هل صحيح ان المستوطنين يعرضون عليكم بيع البيوت والحوانيت بملايين الدولارات؟

ـ ليس ملايين فحسب. أنا قالوا لي: هذا هو شيك مفتوح، أكتب عليه المبلغ الذي تريد ونحن نوقع. ـ وائل دكيك (39 عاما)، خضر عبدين (68 عاما)، ناصر بركات (50 عاما)، عبد الرؤوف ابو خرشيد (40 عاما)، كلهم أصحاب حوانيت، يؤكدون ان ما قاله السابقون صحيح بشأن المعاناة من سلطات الضرائب وضغوط سلطات الاحتلال عليهم حتى يصابوا باليأس ويبيعوا للشركات الاستيطانية اليهودية. وراح أحدهم يئن والدموع تترقرق في عينيه: قبل العيد بعت بضاعة بخسارة حتى أجد المال الذي أصرفه كي لا يشعر أولادي بالضائقة فتتبخر فرحة العيد، وكذلك فعلت قبل افتتاح السنة الدراسية. وروى أحدهم كيف داهم حانوته 30 رجلا من شرطة الاحتلال الذين رافقوا رجال الضريبة وأفرغوا الحانوت من البضائع ليصادروها «فهرع التجار من جيراني وجمعوا المال من بعضهم البعض ودفعوا سلفة على حساب الضريبة المفروضة علي حتى يمنعوا مصادرة البضاعة». ونسألهم عن الحل الذي يتصورونه الأمثل، فيجمعون على ان هناك مسؤولية تقع على عاتق السلطة الفلسطينية في رفع قضيتهم الى مائدة المفاوضات السياسية مع الأوروبيين والأميركيين: «فالممارسات الاسرائيلية هي اعتداء سياسي، بل هي نوع من الارهاب الاقتصادي اذا صح التعبير»، يقول أبو ابراهيم، وهو صاحب مقهى في قلب السوق الشعبي في القدس القديمة. ويضيف: «ليس سرا ان حكومة الاحتلال الاسرائيلي قررت غزو القدس وتهويدها. وهذا يتم على حسابنا نحن التجار والسكان في هذه البلدة. فمن يناصرنا سوى سلطتنا الوطنية؟!».

ويكشفون ان المرحوم فيصل الحسيني كان قد بادر الى عدة اجراءات لحماية التجار والمواطنين لتدعيم صمودهم، «لقد تمكن من منح العديدين منا قروضا من الاتحاد الأوروبي بقيمة 20 ألف دولار بفائدة رمزية حتى نسدد بعض الديون للضريبة وفي بعض الأحيان كانت هناك منح». ويتدخل أبو عمر، صاحب حانوت لبيع السجاد: «نحن لا نطلب دعما ماليا فحسب، فإذا تمكنوا من الزام اسرائيل بالتعامل معنا مثلما تعامل التجار اليهود في القدس، تحل مشكلتنا. فهم يعفونهم من الضرائب بسبب انهيار السياحة. وعندما يحتاج أحدهم لبيع محله، يشترونه منه حتى لا يضطر الى بيعه للتجار العرب. فليفعلوا هذا لنا. لتشتر السلطة منا الحوانيت. وإذا أرادوا حلا آخر، للحفاظ على عروبة القدس، فليقدموا لنا المساعدات. لكن ان نترك على هذا النحو فإن وضعنا سيكون خطيرا، ولن يطول الوقت حتى تجدنا مستسلمين وبائعين». ونحاول بمساعدة هؤلاء التجار الوصول الى معلومات حول حجم ما بيع من العقارات في البلدة القديمة. فيأخذوننا الى عدد من المتاجر اليهودية في السوق. لكن الكمية الأكبر من العقارات التي باتت بأيدي اليهود هي عبارة عن بيوت. في الطريق من باب الخليل الى الحي الاسلامي في البلدة القديمة نجد مبنى ضخما تحول الى فندق يهودي محصن يضم حوالي 130 غرفة ويحتوي على كنيس (بيت العبادة لليهود). وتوجهنا اليه لنتعرف على ما فيه، وكان الباب مغلقا. قرعنا الجرس، فجاءنا صوت من الشباك في الطابق الثاني المرتفع شاهقا: ماذا تريد هنا؟، سأل بفظاظة معهودة. فقلنا له. فأجاب: نحن لا نتحدث الى الصحافيين. فحاولنا استفزازه: نريد ان نعرف كيف سطوتم على هذا البيت؟ فأجاب بعدائية واضحة: هذه مدينة يهودية وستبقى يهودية الى الأبد. وغادر المكان فورا. وقبل أن يتم كلماته خرج من البوابة ثلاثة رجال أمن مسلحون. وطلبوا منا المغادرة بحزم. وقالوا ان التعليمات واضحة لهم أن لا يتيحوا لأحد من اليهود في المدرسة (الفندق) أن يكلمنا. هذا المبنى هو فندق سانت جون أو دير مار يوحنا الذي كان ملكا لبطريركية الروم الأرثوذكس. قبل حوالي عشر سنوات بيع للشركات اليهودية الاستيطانية، وكان ذلك في زمن البطريرك ذيودوروس. وبالمناسبة فإن معاوني البطريرك ذيودوروس، من المطارنة والمحامين، هم أنفسهم الذين يسيطرون اليوم على البطريركية وعلى البطريرك الجديد ثيوفولوس بدعم من حكومتي فلسطين والأردن. والقلق يسود في صفوف الوطنيين المطلعين على الموضوع، من أن يواصل هؤلاء المطارنة والمحامون مسلسلات البيع.

وتابعنا تجولنا في البلدة القديمة، يشدنا اليها الشعور باننا لا نرغب في تركها. فمن يترك مغتصبة على قارعة الطريق. من يترك أما حانية عزيزة بلا حماية. ونصبح جزءا لا يتجزأ من أولئك الناس الذين يعيشون فيها بجلد فريد. يتحركون فيها بهمة عالية، يسيرون فيها بسرعة غير عادية كأنهم يركضون الى هدف عاجل ثم ترى الناس أنفسهم يعودون ويغدون ويروحون. كأنهم يبحثون عن شيء ضائع في سماء المدينة. ولكنهم في نهاية المطاف يبقون فيها، داخل أسوارها الحصينة من كل شيء لمواجهة أي شيء. ونمشي في شوارعها العتيقة، كما مشى وحي فيروز، هنا باب الخليل الأجمل والأبهى من بين بوابات أقدس المقدسات. الى يمينه الحي الأرمني، الذي يدعي أهله انهم لم يبيعوا أي عقار فيه حتى الآن، إلا ان شبابه بمعظمهم لا يجدون أنفسهم في هذه المدينة، فيتركونها الى الخارج، خارج البلد أو خارج البلاد. وهذا يسبب القلق من أن لا يبقى فيها إلا المسنون والعجزة.

الناس هنا يتخوفون من المستقبل أكثر من أي شيء آخر. يخجلون من أن أحد كبار رجال الدين السابقين منهم ضبط وهو يهرب بسيارته بضائع غير مجمركة. فاعتقلته اسرائيل وأجبرته على التوقيع على تنازل عن بيت تملكه الكنيسة خارج الأسوار: «أعتقد انهم نصبوا له كمينا»، قال محدثنا وهو تاجر أرمني وأضاف: «لكن هذا هو حادث البيع الوحيد لدى الطائفة الأرمنية. فالمواطنون عندنا لا يبيعون، وذلك من منطلق احترامهم لتقاليد البلد». الى اليمين المتبقي نشاهد حائط المبكى والحي اليهودي، وهو الحي الذي أخلي من سكانه الفلسطينيين بأيدي السلطات الأردنية سنة 1966 ثم استوطن في العام 1967 وتم توسيعه من جهة الغرب بعد طرد الفلسطينيين من حي المغاربة. هو اليوم يهودي صرف تقريبا. كل عربي يصل اليه يكون مشبوها، ومشروعا لعملية تفجير. وتواصل السير على هذه الوتيرة فتصل الى الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى المبارك، وتفصل بينه وبين حائط المبكى شعيرات من الهواء وقوات كبيرة من الشرطة، ثم يأتي الحي الاسلامي. وبعده حي النصارى. الحي الاسلامي بيع منه ما يقارب ألف عقار الى الشركات الاستيطانية اليهودية. وأما حي النصارى، فنصفه التابع للكنائس الغربية ما زال مصونا بأيديها لا يباع ولا تطرح فكرة بيعه. والنصف الثاني هو للكنيسة الأرثوذكسية. وقد حاول أحد موظفي البطريركية، ويدعى باباديموس، بيع هذه الأملاك للشركات اليهودية بطريقة الخداع (فندقان و27 حانوتا في المرحلة الأولى)، إلا ان أمره انكشف وتم تعليق الصفقة. ويتبين ان باباديموس هذا عمل بالتآمر مع عدد من المطارنة والرهبان اليونانيين في البطريركية. ولكن، كعادة الكثيرين منا، أعلنت الحرب على البطريرك ايرينيوس واتهم بالبيع وتم عزله مع انه الوحيد الذي أعلن وقوفه ضد الصفقة وقدم ثلاث شكاوى في المحاكم الاسرائيلية واليونانية لابطالها. والأنكى من ذلك يتضح ان عددا من الذين وقفوا ضد ايرينيوس هم المطارنة الذين كانوا في موقع تأثير أساسي لإتمام الصفقة ويتحملون جزءا أساسيا منها. وقد عزلوا ايرينيوس قبل أن يكشف أمرهم ويتمكن هو من عزلهم. واليوم يواصلون التآمر على هذه العقارات وغيرها ويخربون جهود ايرينيوس لاسترجاع العقارات، وبذلك يتسببون في ضياع قطعة أخرى من القدس. والمذهل في الموضوع ان السلطة الفلسطينية، حكومة ورئاسة، وقفت الى جانب تلك المجموعة ضد ايرينيوس، مع ان لجنة التحقيق التي أقامتها الحكومة أوصت بأمر معاكس وبرأت ايرينيوس. ولا يقل ذهولا عن ذلك ان الأردن أيضا، ملكا وحكومة، اتخذ أيضا موقفا مؤيدا للمتآمرين على ايرينيوس من دون أن يفحص المسألة. مع ان الوقائع معروفة للاردنيين. فقد أطلعهم أكثر من طرف على حقيقة أن ايرينيوس هو الوحيد الذي يحارب اليوم لالغاء صفقة العقارات في القدس وان الطرف الآخر الذي حاربه كان شريكا في صفقات بيع كثيرة في القدس وغيرها. ولم يقتصر الأمر على حكومتي الأردن وفلسطين، بل ان العديد من السياسيين والصحافيين الوطنيين وقعوا في المصيدة الاسرائيلية ووقفوا معادين للبطريرك ايرينيوس وهو في عز معركته لابطال الصفقات ووقفوا مناصرين للمجموعة التي ساهمت في البيع في الماضي وفي الحاضر وتعلن بكل صراحة انها لن تنضم للمحكمة لابطال الصفقات.

وهكذا، فإن المخططات التهويدية التي وضعت في اسرائيل من أجل تهويد القدس تحقق النجاح الباهر. والقدس تضيع. ولكن هذه المرة، ما يضيع القدس ليس تلك الأقدام الهمجية القادمة من الخارج وحسب، بل أيضا نحن، شعبا وحكومات وصحافة ومتمولين. ومن كان منا غير شريك في اللعبة، فإنه متفرج متحمس أو مذهول أو مهمل خامل على الأقل.