نيويورك تدرس الدين الإسلامي بأربع لغات

الشباب المسلم يتصدر العمل السياسي المحلي لتخطي الأزمات

TT

مطار «جي.إف.كنيدي» الدولي في نيويورك من أكثر المطارات ازدحاماً، يستخدمه حوالي 40 مليون مسافر سنوياً. ويربط المطار الطريق السريع «كوينز إكسبرسواي» بجزيرة مانهاتن الشهيرة التي تبعد عن المطار 15 ميلاً ويسلكه آلاف المسافرين أسبوعيا. وعند مغادرة المطار والتوجه الى جزيرة ناطحات السحاب، يرى المسافر مبنى ضخما بقبة زرقاء على الشارع العام بكتابة عربية وانجليزية لا يمكن إلا أن تستدعي انتباه السواق على «كوينز إكسبرسواي». هنا يدرس مئات الأطفال المسلمين ويجتمع المصلون ويُدرس الدين الاسلامي بأربع لغات: العربية والفارسية والانجليزية والأوردية. وموقع «مؤسسة الخوئي» الاستراتيجي المطل على إحدى ابرز طرقات نيويورك السريعة، يدل على انتشار الإسلام ومؤسساته في نيويورك، حتى أصبح جزءاً من فسيفساء مجتمعها المتغير. وعلى الرغم من أن المؤسسة الإسلامية تقع في أطراف نيويورك، إلا أنها توجد في أحد أهم الطرقات المؤدية الى قلب نيويورك. وكما أن عدم الانتباه لحجم مبناها صعب، أصبح الالتفات الى المسلمين في نيويورك ضرورياً لما يعملون من اجله منذ سنوات. فبعدما نفذ أصوليون مسلمون مقيمون في بريطانيا تفجيرات 7 تموز (يوليو) الماضي في لندن، تسأل البعض إن كانت ظاهرة ما يسمى بـ«الإرهابيين من الداخل» ستنتقل الى الولايات المتحدة، وبأن نيويورك لديها ثاني أكبر جالية للمسملين في الولايات المتحدة (يصل عددهم الى 800 ألف نسمة)، تتجه الأنظار الى جيل الشباب المسلم، بالتساؤل إن كان لديهم الاستعداد للتورط بعمل إرهابي ضد مجتمعهم. عند مقابلة فئات مختلفة من المسلمين يظهر أن هناك حقاً عملا غير ظاهر للشباب المسلم في نيويورك... فهم يجتمعون منذ أعوام ويستخدمون شبكة الإنترنت للتواصل وتنفيذ خططهم، ويعملون بوظائف في محيطهم الاميركي اليومي، ليكرسوا وقت فراغهم لأهدافهم الخاصة، وجهودهم تتكرس في صحوة جديدة للمسلمين في اميركا ـ ليكونوا مسلمين اميركيين، ولأخذ المناصب المناسبة لهم ضمن المجتمع الاميركي، بدلاً من مهاجمته مثلما يرى البعض. وعلى الرغم من أن بعض الناشطين من المسلمين عملوا بهذا المجال منذ أواخر القرن الماضي، إلا إن البعض شعر بأن مسؤولية جديدة ألقت على عاتقهم بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001. وبعد العمليات الإرهابية في 7 تموز الماضي في لندن، انتشرت نظرية الخوف مما يسمى بـ«الإرهابيين من الداخل» الذين ينتمون الى جماعات أصولية ويحملون الجنسية البريطانية، أو الأميركية. إلا أن مجموعة من القادة المسلمين في نيويورك استبعدوا انتقال هذه الظاهرة الى الولايات المتحدة، لأسباب عدة على رأسها الاختلاف بعوامل معيشة الجيل الجديد من المسلمين الذين ولدوا في الولايات المتحدة ويعتبرونها وطنهم الأول. وشدد المسؤول عن برامج التدريس في «مدرسة الإيمان» التابعة لمؤسسة الخوئي، محسن الدينا، على اختلاف الواقع الجغرافي والسياسي للمسلمين في أوروبا والولايات المتحدة، مما قد يقلل من احتمال تورط الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين في أعمال كهذه. وقال: «الواقع الجغرافي لا يسمح بعزلة المسلمين تماماً عن باقي المجتمع الاميركي، فلا توجد بلدة هنا يسكن فيها المسلمون دون غيرها، فالعائلات المسلمة منتشرة بين باقي الفئات الأميركية ومن القليل ما تجد أفراد ينغلقون على المجتمع هنا». واشر الى ان ظاهرة «الغيتو» لم تخص الجالية المسلمة مثلما حصل في عواصم أوروبية مثل فرنسا وهولندا.

وبينما قال الدينا إن غالبية المسلمين في نيويورك هم من الطبقة العاملة، رأت المديرة التنفيذية لمؤسسة «اسمى» (المجتمع الاميركي لدعم المسلمين)، ديزي خان، أن الغالبية هم من الطبقة الوسطى ذات الثقافة العالية. وهنا أحد الفوارق بين المسلمين في نيويورك، فالدخل العائلي والمستوى المعيشي عادة يؤثر على تربية الجيل الأصغر من المسلمين ونظرتهم الى العيش في الولايات المتحدة والفرص المتاحة لهم. وقالت خان: «أبناء المهاجرين الاوائل من المسلمين ترعرعوا في الولايات المتحدة ويرون أن لديهم حقوقا كغيرهم من الأميركيين ولن يتخلوا عنها». وقد يختلف الأبناء عن الآباء الذين أتوا من دول نامية عادة لا تدعم فكرة الحقوق السياسية لكل أبناء الشعب، التي يعتبرها الأميركيون من أهم صفات المجتمع الاميركي. إلا أن هذه الحقوق لا تعطى وإنما تؤخد وعلى كل فئة في الولايات المتحدة العمل من أجلها. ولفتت ديزي الى أن «كل مجموعة من المهاجرين في الولايات المتحدة تعرضت لفترة من الاضطهاد وجاهدت من أجل تثبيت حقوقها. فالكاثوليك شعروا بالاضطهاد حتى تسلم جون. إف كنيدي رئاسة الدولة، والاميركيون من أصل أفريقي عانوا أفظع أنواع العنصرية، من اعتبارهم عبيداً الى عزلهم عن المجتمع. وحتى اليهود كانوا مضطهدين حتى وقفوا صفاً واحداً وتوغلوا في العمل السياسي». وهنا توقفت ديزي وقالت إن «مشكلة المسملين حالياً تكمن بعدم وجود القيادات الشابة الكافية للسعي من أجل تثبيت حقوق المسلمين». وشرحت أن مؤسستها تعمل لتأهيل «القادة من الشباب المسلمين، فأبناء الجيل الجديد هم السفراء المثاليون لنا».

ويستقبل مسجد «الفرح» الذي يؤم المصلين فيه الإمام فيصل عبد الرؤوف، صاحب مبادرة قرطبة وزوج ديزي، «قيادات مسلمة» لتلقي خطب الجمعة في المسجد، بالإضافة الى خطبة عبد الرؤوف. وقالت خان إن مثل هذه التجارب «تساعد الشباب على أخذ المسؤولية، فهم ولدوا في هذا البلد وترعرعوا فيه، مما يجعلهم أكثر قدرة على لعب دور فعال في مجتمهعم».

ودعت خان مدير مؤسسة «امباك» (مجلس المسلمين في الولايات المتحدة)، أحمد يونس، من العاصمة واشنطن ليلقي خطبة الجمعة في مسجد الفرح. والمسجد القريب من حي المال في وسط نيويورك يستقطب المصرفيين من شارع «وول ستريت» ا ليقفوا في نفس صف الصلاة مع الطلاب والعاملين في مجالات مختلفة. وفاجأ يونس المصلين في خطبته الساخنة التي اختلفت عن أسلوب خطب الإمام فيصل الهادئة. وكان متحمساً لحث المسلمين الأميركيين على «اليقظة»، وقال للمصلين: «عليكم أخذ مكانكم في المجتمع والدفاع عن حقكم في العيش هنا». وعبر يونس عن قناعته بأن «المسلمين الأميركيين هم الذين سيعيدون الحق للإسلام ويمنعون الإرهابيين من السيطرة على هوية المسلمين حول العالم». وقال يونس لـ«الشرق الأوسط» إن «امباك» عملت منذ تأسيسها عام 1988 على دعم الحقوق المدنية للمسلمين «ليتمكنوا سياسياً من لعب الدور الملائم لهم في مجتمعهم». ورفض يونس الافتراض بأن احداث 11 سبتمبر (ايلول) أدت الى الوعي السياسي بين المسلمين، موضحاً ان الكثير من المؤسسات الإسلامية الأميركية عملت جاهدة قبل التفجيرات «إلا أن الأحداث الأخيرة عجلت عملنا ودفعت المزيد من المسلمين الى النشاط السياسي».

ومن بين ابرز المؤسسات الإسلامية في الولايات المتحدة التي تخوض في المجال السياسي الأميركي مؤسسة «مجلس العلاقات الإسلامية الاميركية» التي لديها أكثر من 30 فرعا في كافة أرجاء الولايات المتحدة. وتأسست «كير» وكبرت على أيدي اميركيين مسلمين، وعلى الرغم من أن الكثير منهم أبناء مهاجرين مسلمين من دول عربية ومسلمة، إلا أنهم يؤكدون دوماً أن مؤسستهم أميركية قبل أن تحمل هوية أخرى. وقال المدير التنفيذي لـ«كير» في نيويورك، وسام نصر، أن فرعه يقدم النصائح القانونية للمسلمين إذ «يوجد 13 قانونا مختلفا يكافح العنصرية في الولايات المتحدة فنساعد المسلمين في الدفاع عن أنفسهم اذا تعرضوا للعنصرية». وأضاف: «غالبية المؤسسات الإسلامية تنقسم على أسس إثنية، ولكننا نفتح أبوابنا لجميع المسلمين». وتابع نصر أن «كير» أُسست عام 1995 ولكن الاهتمام ازداد بها في السنوات الأخيرة عقب تفجيرات 11 سبتمبر، حتى قدم مسؤولوها حوالي 400 لقاء صحافي العام الماضي. وتعمل «كير» على تشجيع العمل السياسي بين المسلمين وخاصة على نطاق محلي. وشرح نصر أن «غالبية المسلمين لم ينخرطوا بالعمل السياسي المحلي لأسباب عدة، منها الصعوبات اللغوية أو الانشغال بمحاولة الانخراط بمجتمع جديد أو الانشغال بالسياسة الخارجية في ما يتعلق بوطنهم الأصلي». وأضاف أن «بعض القادة المسلمين قاموا بالالتحاق بتحالفات مع مجموعات إسلامية أميركية ليستفردوا بالسلطة على أتباعهم في مسجد أو منطقة معينة»، وبالتالي، لم يهتم الكثير من السياسيين الأميركيين والمرشحين للكونغرس بأصوات الجالية المسلمة» لأن المسلمين لم يعطوا أنفسهم الأهمية في هذا المجال، فبعضهم يشارك في الانتخابات الفدرالية للرئاسة ولكن لا يهتمون بالانتخابات المحلية، مما يضعف موقفهم». وتابع أن عدم العمل الاستراتيجي لدى المسلمين يؤدي الى استضعافهم سياسياً، موضحاً: «لا نعرف عدد المسلمين في كل منطقة، فكيف لنا أن نرغب السياسيين بالعمل على إرضاء المسلمين إن كنا نجهل حجم الأصوات المسلمة ووزنها». واعتبر نصر أن عدد المسلمين في الولايات المتحدة كاف للتأثير على السياسة الأميركية لو استطاع المسلمون الاتفاق والعمل الجدي، شارحاً: «الحصول على القوة السياسية بحاجة الى النفوذ المادي والإعلامي، وهذا ما نفتقده، فالمسلمون يترددون في إعطاء الأموال الى الجمعيات المسلمة، والبعض يخاف من اتهام الحكومة له بتمويل جماعات إرهابية».

وقالت خان إن الطريقة الأمثل لتمكين المسلمين، هي من خلال «المباردة والتفاعل بدلاً من حصر كل تصرفاتهم بردود الأفعال». وفي هذا السياق، أشارت الى ان الجيل الجديد من المسلمين الأميركيين «يهتمون بما يجري في هذا البلد أكثر من بلدان آبائهم الأصلية، فهم يشعرون بأن هذا وطنهم حتى وان اختلفوا مع آراء بعض السياسيين، وذلك على عكس الكثير من المهاجرين من الجيل الأول الذي يشعرون بأن مشكلتهم مع الولايات المتحدة مبنية على سياستها الخارجية». وأضافت: «بعد هجمات 7 يوليو كان الجميع مستعداً للتنبؤ بأن حالة مماثلة ستقع في الولايات المتحدة من قبل الأميركيين المسلمين، فكان علينا العمل سريعاً لتفادي مثل هذه التصريحات وشرح وجهة نظر المسلمين». واستبعدت خان تورط شباب من المسلمين الأميركيين بعمليات إرهابية، وشرحت أن «التشدد الذي يفرضه المسلمون على أنفسهم، بالإضافة الى ضوابط الحكومة، تجعل من الصعب حدوث ذلك». إلا أنها أردفت قائلة: «لا يمكننا القول بأنه من المستحيل تنفيذ الإرهاب من الداخل، فهناك فئات صغيرة معينة لديها طريقة خاصة بالتفكير، ولا يمكن السيطرة عليها في كل حال». وأضافت ان المسلمين يكثفون جهودهم وتعلموا من اخطاء الماضي، وأشارت الى أنه «عند وقوع أحداث 11 سبتمبر، رغم انتقاد بعض المسلمين لما حصل، لم تكن الإدانة منتظمة وواسعة النطاق. لكننا تعلمنا درساً، وعند وقوع هجمات لندن الصيف الماضي، كان الرد مشتركاً ومنظما لإدانة مثل هذه الأعمال. فنحن نتعلم، والمجتمع الإسلامي لا يقدم الأعذار للإرهابيين بعد الآن».

وفي الأسابيع الماضية، ازداد الشعور بالمسؤولية بين الكثير من المسلمين في نيويورك تجاه إخوانهم المسلمين في باكستان إثر الزلزال الرهيب الذي هز آسيا. واستطاع المسلمون في الولايات المتحدة جمع تبرعات وصلت الى 12 مليون دولار، وساهمت «اسمى» و«كير» و«مؤسسة الخوئي» بجمعها. ولكن في الوقت نفسه، عملت «كير» ومؤسسات مسلمة أخرى لجمع التبرعات لضحايا إعصار «كاترينا» في الولايات المتحدة، فشعروا بالمسؤولية تجاه إخوانهم الأميركيين أيضاً. وعلى الرغم من هذه البوادر الحسنة والعمل المستمر للناشطين المسلمين، فالجميع يعلم أن عملاً إرهابيا جديداً في الولايات المتحدة قد ينسف كل هذه المبادرات.