حياة «أطفال الشوارع» في الخرطوم.. سرقة وتسول وشم صمغ وهروب دائم من ملاحقات الشرطة

35 ألف طفل اختاروا التشرد في العاصمة السودانية بسبب الفقر والإيدز.. وأخيرا دارفور

TT

مع ترديد أذان صلاة الفجر في أحياء المدينة، استيقظ أحمد عبد الرحمن، 14 سنة، من نومه وسط بقايا ورق وكرتون يستخدمها كفراش للنوم داخل واحد من مجاري تصريف المياه. قبل الانطلاق إيذانا ببداية يوم جديد تبادل احمد وخمسة من رفاقه شم قطعة مبللة بالصمغ، وهي ظاهرة واسعة الانتشار وسط الأطفال المشردين، الذين يطلق عليهم أيضا أطفال الشوارع. شق أحمد ومجموعته طريقهم عبر أرض منحدرة صوب خطوط سكك حديدية يبدو عليها القِدم قبل أن يدخلوا منتصف مدينة الخرطوم الذي تميزه الاختناقات المرورية المستمرة. أحمد، الذي يعرف بين رفاقه بلقب «الفأر»، واحد من حوالي 35000 مشرد يعيشون ويعملون في شوارع الخرطوم. بعض هؤلاء، مثل أحمد، وصلوا الى الخرطوم قبل اقل من عام هربا من النزاع في إقليم دارفور، إلا أن معظمهم إما جاءوا الى الخرطوم هربا من الفقر الذي ضرب مناطق الريف السوداني أو أجبروا على العيش والعمل في شوارع العاصمة لدعم أسرهم، أو فقد الوالدين نتيجة مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز). وطبقا لدراسات أجراها صندوق رعاية الطفولة التابع للأمم المتحدة (اليونيسيف) ومنظمة Save the Children، فان هؤلاء يشكلون جزءا من ظاهرة تشرد الأطفال على نحو متزايد وغير مسبوق في مدن القارة الأفريقية. ولم تصدر إحصائيات دقيقة بعد للعدد الكلي للأطفال والصبية المشردين في شوارع مدن وعواصم هذه الدول، إلا أن عددهم قدر في بعض الدراسات بحوالي المليون. النظم الاجتماعية التقليدية ذات الصلة بالأسرة الممتدة كانت من السمات المميزة لمجتمعات الدول الأفريقية التي تحرص على إيواء ورعاية أطفالها حتى في ظروف الفقر والعوز، إلا أن السنوات الـ25 السابقة شهدت عددا من المشاكل من بينها الجفاف والحروب ومرض الإيدز والانهيار الاقتصادي، وهي عوامل أدت الى تفكك الأسر واضطرار مئات الآلاف من الأطفال للعيش كمشردين بلا مأوى أو أسر توفر لهم الرعاية. وورد في تقرير لمنظمة بريطانية تعنى بدراسة ظاهرة تشرد الأطفال أن هذه المشكلة باتت أكثر وضوحا خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي عندما انهارت أسعار البن وتراجعت صادرات محاصيل القمح والقطن. وكثير من الأطفال في الأسر التي تقطن مناطق الريف على وجه الخصوص وجدوا أنفسهم أمام واحد من خيارين، إما الالتحاق بعمل يساعد في توفير جزء من الاحتياجات المعيشية للأسرة، أو مغادرة منزل الأسرة التي لم تعد قادرة على توفير لقمة العيش لأطفالها.

وفي ظل انتشار مرض الإيدز، بالإضافة الى المشاكل الأخرى، خلال السنوات العشر السابقة، اضطرت أعداد متزايدة من الأطفال لترك المدرسة وحياة الطفولة نفسها، علما بأن التعليم ليس مجانيا في كثير من دول القارة الأفريقية. وقال نصف عدد الأطفال الذين شاركوا في مسح أجرته منظمة Save the Children إن عجزهم عن دفع مصاريف الدراسة كان سببا في تركهم الدراسة واتجاههم الى حياة الشوارع. ويقول عاملون في منظمات تعنى برعاية الأطفال إن هؤلاء يواجهون بيئة قاسية ووضعا صعبا ويصبحون معرضين لأخطار إدمان المخدرات والتخويف والاعتداء الجنسي والتدهور الصحي المدمر. وتنتشر ظاهرة التسول والاستجداء بين كثير من الأطفال المشردين. فأحمد يقضي جزءا من يومه متسولا على طريقته الخاصة يشد المارة من ملابسهم ويمد يده. وعندما لا تجدي هذه الطريقة يستخدم طرقا أخرى تعلمها من رفاقه من ضمنها أن يرسم تعبيرا عابسا وحزينا على وجهه عندما يلتفت إليه الأشخاص الذين يشد ملابسهم محاولا لفت النظر إليه. إلا ان بعض من يحاول استجداءهم كانوا يتجاهلونه، ويرمقه البعض الآخر بنظرة تعبر عن الضيق. استسلم أحمد بعد عدة محاولات، وخلال تجواله، عثر داخل سلة للنفايات على تفاحة نصف مأكولة اقتسمها مع صديقه فيصل خميس، 16 سنة. وبعد قليل توجها الى صاحب متجر يبدو أنهما على علاقة ودية معه. اعطاهما طبقا به بقايا أرز ولحم وجزءا من رغيف خبز. جلس الصديقان في الظل بالقرب من المتجر والتهما ما تكرم به صاحب المتجر من بقايا الطعام. وصل أحمد الى الخرطوم قبل شهور وظل طوال هذه الفترة يعيش حياته بهذه التفاصيل اليومية. وهي حياة لا تخلو من مخاطر في شتى الجوانب، فهو عرضة للمرض والاعتداء من قبل من هم اكبر منه سنا وأقدم منه خبرة في حياة الشوارع. ويبدو أحمد باستمرار وكأنه يعاني من النعاس، وذلك بسبب تأثير شم الصمغ، كما يعاني من التهاب في البشرة لأنه لا يجد فرصة للاستحمام. التخويف والضرب والاعتداء من الأشياء التي يتعرض لها الأطفال المشردون باستمرار. لم تر العائلة أحمد أو تسمع عنه منذ يوم هروبه من قريته. وقال انه يفتقد والده ولكنه حاول أن «ينسى ذكريات العودة ثانية. فلدي حياة جديدة هنا». وتتكون حياة أحمد الجديدة من عدد قليل من الأطفال الذين التقاهم في الشوارع. أحدهم يدعى فيصل وهو موجود هنا قبل احمد بفترة طويلة. فقد ترك جنوب السودان قبل حوالي ست سنوات عندما تصاعدت الحرب في الجنوب. في البداية عاش مع عائلته في مخيم قرب الخرطوم للمشردين بسبب الحرب، لكن والده كان عاجزاً عن الحصول على عمل ثابت ولم يكن لديه مال، ولهذا جاء فيصل الى المدينة.

وقال فيصل: «بقيت أطلب من عائلتي المال، لكن عائلتي لم تكن تملك شيئا. وقد أفعل شيئا أيضا من اجل نفسي». وفي بعض الأحيان يقوم بزيارة عائلته في المخيم، لكنه قال انه لا يبقى فترة طويلة لأنه لا يحب القواعد التي يتبعها والده. ويعيش أحمد وأصدقاؤه عبر التسول وممارسة مهن غربية أو السرقة. فهم يحملون أشياء ثقيلة للتجار أو يكنسون محلاتهم أو يغسلون سياراتهم لقاء مبالغ نقدية زهيدة. ويقومون أيضا بالتجوال حول المطاعم أملا في الحصول على صدقات، ويسرقون النفايات المعدنية لبيعها ويفتشون في النفايات عن بقايا الطعام المتروك.

ومن اجل إبعاد أنفسهم عن حياة الشوارع الشاقة فإنهم يستنشقون الصمغ ويحملونه في قطع قماش يخفونها. كما أنهم يقامرون في بعض الألعاب، إلا أن الصمغ مصدر إدمان ويمكن للمقامرة أن تكون قاسية لأن الأطفال الأكبر سناً غالبا ما يرغمون الأصغر الفائزين على دفع ضريبة.

كما أنهم يرغبون في مشاهدة الأفلام الهندية وينفقون ساعات في دور عرض يدفعون خلالها ما قيمته 10 سنتات، متجنبين حرارة الظهيرة. ويشاهدون فيلما مدته اربع ساعات مليئا بالموسيقى والرومانسية والبطولات. وقال احمد الذي يرتدي نعلا بلاستيكيا ممزقا: «أحب تلك الأفلام كثيرا. القصص تجعلني أشعر بالسعادة».

كان طابور من الأطفال الحفاة القذرين ينتظرون خارج ملجأ يحمل اسم «الصباح» وقد ظهر ما يزيد على 200 عند الباب هذا العام، وفقا لما ذكره مدير الملجأ، خلف الله إسماعيل. ويسعى هذا الملجأ للعمل مع الحكومة من أجل انتشال الأطفال من حياة الشوارع ومن والمخدرات وإرسالهم الى المدارس أو العمل في مهن بوقت جزئي.

وقال إسماعيل،57 عاما، الذي ترك وظيفته كمرشد اجتماعي لدى الحكومة وبدأ مشروع «الصباح» عام 1986: «عندما شاهدت أول مرة أطفالا يأكلون من النفايات، كان ذلك بمثابة صدمة لي. لم تكن الزراعة مربحة بما فيه الكفاية يومئذ، ثم اندلعت الحروب وجاء الإيدز في وقت واحد. تعقدت القضية الآن بسبب دارفور ونحن نرى مزيدا من الأطفال يصلون الى الخرطوم مصدومين وأيتاما».

ولا ينظر الى أطفال الشوارع في السودان نظرة جيدة طبعاً. وعندما يبدأون بالشجار مع بعضهم بعضا فان ذلك يمنح الشرطة ذريعة لاعتقالهم. وفي أحد الأيام الأخيرة، قام شرطي بملاحقة احمد وأصدقائه وصاح: «لا تلطخوا اسم السودان. عليكم إصلاح أنفسكم».

وبدأت الحكومة أيضا ما تسميه «حملات النظام العامة» حيث تجمع أطفال الشوارع وتضعهم في ملاجئ. ويقول الأطفال إنهم يكرهون الملاجئ لأنهم غالبا ما يتعرضون فيها الى الضرب أو سوء المعاملة جراء خرقهم الضوابط الصارمة. ولكنهم في ملجأ «الصباح» يجدون على ما يبدو معاملة طيبة. ويتوفر لهم استخدام مراحيض نظيفة وحمامات خاصة ويصغي المستشارون بصبر الى مشاكلهم.

وفي احد الأيام الأخيرة أبلغ أحمد عادل، 13 عاما، ذو العينين البنيتين الواسعتين والذي يسير حافيا، أحد المستشارين عن رغبته العارمة في أن يعيش حياته بعيدا عن الشوارع. وكانت والدة أحمد قد قتلت خلال عملية سرقة قبل ثلاث سنوات، وسرعان ما تزوج والده ثانية. وقررت زوجة والده أن تدفع أجورا لإرسال أولادها الأربعة الى المدرسة، ولكن ليس أحمد. وبسبب شعوره بالإحباط هرب الى الخرطوم وقام بسرقة مرايا السيارات ليدفع ثمن تذكرة سفره بالحافلة.

وفي الشوارع ارتبط مع بعض الأطفال الذين كانوا يستنشقون الصمغ. وقال انه من اجل ممارسة هذه العادة، راح يسرق أجزاء السيارات ويبيعها لمصلحي السيارات من أجل الحصول على المخدرات أو المال. وفي أول مرة استنشق الصمغ، شعر بألم حول حاجبيه، وقال انه فكر في انه سيموت. وقال احمد عادل للمستشارة نوادر الطيب، 30 عاما: «شعرت بالرعب من أنني يمكن أن أموت وأعاقب على سرقتي». وأوضح انه قدم الى «الصباح» بسبب إحساسه بالإثم فضلا عن أنه سمع بأن بوسعه الاستحمام في حمام خاص.

وقالت نوادر وهي تنظر الى احمد مبتسمة: «هناك شيء طيب بداخله». وهو يخاطبها بكلمة «سيدة» ويستخدم اللغة العربية الرسمية معها. وأضافت قائلة إن «هؤلاء الأطفال يبدون خائفين وقد لفظهم المجتمع. لكن الكثير منهم يحتاجون إلينا لمساعدتهم على اتخاذ الخطوات المناسبة».